نصيحة ماريا

الرابط المختصر

 “ليش ما تروح عند حدا من صحابك؟”. هذا هو السؤال الذي يتكرر على لسان أمي الحبيبة كلما تحدثت إلي وشعرت أنني استشعر الملل أو الضجر، وجوابي متكرر مثل سؤالها تماما: “ليس لي أصدقاء هنا”، ثم يقفز بشكل تلقائي الحديث عن أصدقائي الحقيقيين الذين تركتهم في مصر وعاشرتهم في مراحل الصبا والشباب والرجولة، فقد عشنا ساعةً بساعة منذ أن وصلت الاسكندريا ولداً في الثامنة عشر من عمره وتركتها رجلاً في الثانية والثلاثين، لتستمر علاقتنا حتى اليوم وطيدةً قويةً خالصة من كل منفعة نقيةً من كل رياء.

 انهارت أسهم الصداقة حتى أصبحت كلمةً تلوكها الألسن ويطلقها الناس على بعضهم البعض حتى دون سابق معرفة، فموظف خدمة العملاء وموظف تسجيل الطلبات في المطعم وموظف التوصيل للمنازل.. جميعهم ينادونك: “أؤمر صديقي.. ممكن نراجع الأوردر مع بعض صديقي.. ما معك فراطة صديقي؟؟؟”، مفهوم طبعاً أن الكلمة في هذه السياقات تستخدم للتودد وإزالة الكلفة، لكنها لو لم تكن هانت لما أصبحت توزَّع وتُتَداوَل مجانا، والخشية أن تغدو مثل كلمة “حبيبي” التي تستخدم في كثير من المواقف للسخرية أو الاستنكار: يا حبيبي!

 الصداقة كما عشتها وعايشتها دون أكلاشيهات درامية مستهلكة، هي إحساس بالصديق بحيث لا يمكنك أن تفرح وهو في ضيق، ويظل في خاطرك مستحوذاً على وجدانك مثل أقرب أفراد أسرتك إليك، ولا يتاح لك الاختيار أن تثق به أو لا تثق، فقد التقيتما لتتآلفا ولتكونا مستودعاً لأماناتكما وملاذات سكينة لنفسيكما في الملمات وصدى صيحة فرحتكما عند كل نجاح وإنجاز. الصديق لا يخبو اشتياقك إليه بغيابه ولا تفتر علاقتك به إذا باعدت بينكما الأيام، فالصداقة لا تقاس حميميتها بعداد المسافة ولا عدد اللقاءات، وإلا لكان الجيران وصاحب الدكان وزميلاتك وزملائك أبو فلان وأم علان وغيرهم ممن فرضوا عليك في كل زمان ومكان.. أعز الأصدقاء وأقرب الأقرباء.

 ماريا ابنتي ذات الثلاثة عشر عاماً صديقتي التي عوضتني عن بعدي الجسدي عن أصدقاء عمري في مصر، فمنذ أن كانت جنيناً يستعد لاستقبال الحياة في ظلماتٍ ثلاث، والحوار بيني وبينها لا ينقطع واثقاً أنها تسمعني وتخزّن صوتي وكلماتي في ذاكرتها. ولدت ماريا ولم تسألني يوماً هل أنت كفيف يا بابا؟ لماذا لا تستطيع أن تراني؟ بل كانت وهي في شهورها الأولى حينما تريد أن تلعب معي تمسك يدي وتضعها على وجهها أو شعرها أو على الوسادة التي تحملها لتقذفها في وجهي، فقد أخبرتها بكل شيء قبل أن تولد وعلمتها كيف يجب أن نتواصل ونتفاعل بعد أن تخرج إلى الدنيا، فحفظت الدرس وبرعت في التواصل والتفاعل وأذهلت من حولها وما تزال.

 يوم أمس، عدت إلى المنزل مساءً وفي نفسي غصة وفي معدتي مغصة من فرط سخافة أحدهم ممن يكبرني سناً ويصغرها عقلاً ممن فرضت علي زمالته لفترة من الزمن ثم دفعته نقيصة تمكنت منه وهو في مقام الوداع إلى أن يختتم مشواره بأن بخّس العمل وانتقص الجهد لأسباب شخصية محضة، وكما هو ديدن الجبناء انتظر حتى نهاية اللقاء لينفث كلماته الحاسدة وأنفاسه الحاقدة كي يتقي الرد  على وصلة الردح التي نشّز بها على مقام “عنزة ولو طارت”.

 تناولت طعام العشاء ثم جلست ماريا إلى جانبي وطوقت عنقها بذراعي، ثم قصصت عليها ما كان، وسألتها: “هل كان يجب علي أن ألاحق هذا الشخص وأكيل له الصاع صاعين؟”، فردت من فورها ببراءتها وخبرتها القليلة وفطرتها القويمة وبلسان عربي وإنجليزي مبين: “Dad, be the bigger person. You will meet in your life people who don’t like you, so don’t give them attention because if you do, you give them what they want. بابا، خليك دايماً الطرف الأكبر. يعني أكيد رايح تصادف في حياتك ناس ما يحبوك، فما تعطيهم أي اهتمام عشان إذا اهتميت رايح تعطيهم اللي بدهم إياه”.

 سامحيني يا ابنتي، فقد كتبت ما كتبت من أجلك ولم يكن هناك مناص من أن آتي على ذكر من نصحتيني بتجاهله، لكن عزائي أنه مجرد حدث أصغر في قصة أكبر.