نصرة الظالم ليست من شيم الأكارم
احتشاد جموع من مثيري الشغب لنصرة وتمجيد قريب أو صديق تمت إقالته من منصبه لشبهة فساد أو إساءة استعمال السلطة أو استغلالها أو لارتكابه جريمة مهما كانت جسيمة حتى وإن ارتكبها على الملأ ووثقها فتداول الناس وقائعها صورةً وصوتا، هي ظاهرة ألفناها في مجتمعنا الذي باتت فيه التناقضات أصلاً ثابتاً والتصالح مع النفس استثناءً لا يقاس عليه، وهي من بعد وبكل أسف، تؤكد النفاق الذي يتلبس جموع المؤيدين المنتفضين نصرة للظالم عصبيةً أو طمعاً في مغانم، حيث أنهم هم أنفسهم من يتصدر الجحافل التي تملأ الفضاء الفعلي والافتراضي صراخاً وصياحاً منددين ب«ضعف سيادة القانون.. وتغليب الاعتبارات الشخصية على المصلحة الوطنية.. والاستقواء بالأقارب والمعارف..»، ليغدو لسان حالهم بينما هم يرتدون حلّة النفاق وتفوح من أفواههم رائحة الازدواجية «أن ما يرتكبه غيرنا من مخالفات هي أفعال تستوجب العقاب، وعين الفساد ترك مرتكبها دون حساب، أما ما يرتكبه قريبنا أو حبيبنا من جرائم فهي في أسوأ حالاتها هفوات ينبغي أن يُضرَب عنها صفحاً ويُصفَح عن صاحبها».
نصرة المجرم والدفاع عن جريمته ممارسة شاذة بكل المقاييس، لذلك فإن من يقوم بها إذا كان «نخبويا» مدعي الثقافة والموضوعية؛ لا يجد لذلك سبيلاً إلا بالتسويف والتضليل وليّ ذراع الحقائق وتعطيل منظومة القيم والأخلاق لتبرير ما لا يُبرَر، أما إذا كان ممن استودعوا وعيهم أفواه فتواتهم ليحركوهم «بالرموت»، فإن وسيلتهم في نصرة مجرمهم المحبوب تكمن في ما سنّه شاعر الخمر والغلمان أبو نواس حينما قال: «وداوني بالتي كانت هي الداء»، وذلك بالتعبير عن غضبهم وسخطهم واستقوائهم على الدولة وأجهزتها بارتكاب جرائم إتلاف الممتلكات والتعدي على السلطات والسب والذم ونشر الشائعات وكل ما تتفتق عنه قريحتهم المتقرحة.
هذه السلوكيات الاجتماعية التي هي نتاج طبيعي لتجذر ثقافة القطيع الذي تنقاد فيها الجموع على غير هدى لداعيها ملبيةً نداءه حتى لو كان إلى هلاك وتهلكة؛ مرجعها ممارسة رخيصة تمزج بين التضليل والخبث يقوم بها عدد لا يستهان به من مدعي البطولة من المجرمين حينما تتم مساءلتهم، إذ يلجؤون إلى تصدير جرائمهم وما ينتج عنها من أزمة أخلاقية تعصف بهم اجتماعياً إلى عشيرتهم أو عائلتهم، فقبل أن تتبرأ العشيرة أو العائلة منهم ومن أفعالهم المشينة، يبادرون هم إلى الترويج أن «توقيفهم ومحاكمتهم ومعاقبتهم أو إقالتهم تمثل استهدافاً عشائرياً أو جهوياً أو مناطقياً ينتسبون أو ينتمون إليه»، مع رشة وطنيات تصور المجرم على أنه «بطل دُبِرَ له بليل لأنه انتصر لقضية فلسطين أو وقف في وجه مشروع التوطين أو دافع عن المواطن المسكين..»، وإذا تسنى ملعقة إيمانيات وروحانيات فذاك مبلغ الأرب، كأن يكون المجرم «حمل وديع وقلبه قلب طفل رضيع، لكنهم اتهموه زوراً وبهتاناً لأنه انتصر لله والدين، فما سب وقدح وقذف وضرب واقترف ما تسنى له من جرائم إلا غضبةً لله ونصرةً لدينه».
المحزن أن هناك من تنطلي عليهم هذه اللعبة المبتذلة من محدودي الثقافة عاشقي المؤامرة والخرافة، أعداء الدولة المدنية عشاق العصبية والعنصرية، فينطلقون ساخطين محتجين عابثين عائثين في الأرض فساداً في تحدي وبلطجة على الدولة.
ربما كان هؤلاء المنقادون مغلوبين على ثقافتهم وفكرهم، لذلك رفع عنهم القلم، لكن خيبة الأمل ومرارة الألم في صاحب قلم تملكته أجندته الشخصية وشبقه للشعبوية، فركبته الموجة وركبها ودعا الحشود «أن حيّا على الجهاد، دونكم نصرة البطل المدان أو الاستشهاد». هؤلاء في الواقع هم »أحفاد عبده المشتاق، شبيحة حزب المعارضين إلى حين»، يحاولون عبثاً التجمّل في منافحتهم عن المجرم المدان، فتراهم يبدأون موشح دفاعهم بمناقشة «أنه وإن كان أخطأ، إلا أنه كان يمكن تسوية الأمر بطريقة وديّة.. وأن العقوبة شديدة مقارنةً بما ارتكبه من أفعال.. ولو سويّ الأمر بعيداً عن المحاكم لجنبنا الوطن مزيداً من الاحتقان..»، وهؤلاء يعلمون لكنهم يتجاهلون حقيقة أن الحكم لو كان يوماً واحداً في السجن لخرجت جموع من دانوا بالبيعة للبلطجية والفتوات تعربد تخريباً وترويعاً لأنهم يرون في صاحبهم «شخصيةً وطنيةً وبطلاً جهوياً يستحق التكريم».
أسلوب «المقارنة السلبية» يعد سلاحاً آخر يستخدمه «أحفاد عبده المشتاق» ممن احترفوا الشد من عضد المارقين الخارجين على القانون طالما كانوا ضد الدولة يلعنون مسؤوليها أو رموزها، حيث يلجؤون في معركتهم ضد القانون وسيادته إلى تبرير الخطأ بالخطأ والجرم بالجرم، فيرددون الموال الفولكلوري مجهول النسب: «المساواة في الظلم عدل، والعدل بين المجرمين من شيم الظالمين» والذي تقول كلماته: »صاحبنا ليس أول من أجرم* فقبله كثير لو كنت تعلم* فاضربوا عنه صفحاً أأمن لكم وأسلم».
المعارضة النظيفة لا يستقيم معها استخدام أدوات قذرة وانتهاج أساليب رخيصة، كأن تنادي في جمع من المغيبين «أن انفروا فانصروا أخاكم البطل ظالماً أو ظالما»، فنصرة الظالم ليست من شيم الأكارم بل هي نقيصة يترفع عنها أهل الخلق والمكارم.