"مشروع قانون حقوق الطفل الأردني": تصوّر منقوص للثقافة

يرى ابن خلدون في مقدّمته أن التغيّر الاجتماعي يرتبط بعدالة الحُكم بعد تشكّل ثقل سكّاني في بيئة مناسبة؛ العدالة المبنية على تطوّر العمران والشرائع التي تدفع المواطنين إلى حالة من التعاضد فيما بينهم، فتستمدّ منه الدولة قوّتها واستمرار سلطانها.

لا تزال هذه المقولة راهنة عند نقاش أيّة قوانين ودساتير تضعها الدولة الحديثة ويُفترض أنها تحمل فلسفة خاصة بها في سبيل الارتقاء بمجتمعاتها، ومن دون ذلك، تصبح هذه التشريعات مجرّد أداة لضبط الجماعة والسيطرة على أفرادها في تجاهل لمصالحهم وحقوقهم، كما تبرزه علاقة المواطنين في البلدان العربية بعضهم ببعض، وعلاقتهم بالأنظمة التي تحكمهم، نظراً لسياق تاريخي طويل من تعسّف السلطة وفسادها.

منذ نهاية الشهر الماضي، طفا على السطح جدل حول "مشروع قانون حقوق الطفل الأردني" ــ الذي عُرضت مسوّدته على مجلس النوابّ التاسع عشر، خلال انعقاد الدورة الاستثنائية الحالية ــ بين تيارات توصف بأنها ليبرالية، وأخرى محافظة. جدلٌ يتركّز حول بعض مواد المشروع التي تتعلّق بخصوصية الطفل واستقلاليته، بينما يغيب عن تلك السجالات الأثر المرجوّ في تحقيق العدالة الاجتماعية لفئات مهمّشة لا يجد أطفالها رعاية صحية ونفسية وتعليمية وثقافية واجتماعية.

تستطلع "العربي الجديد" آراء عدد من المثقفين والحقوقيين حول المادة 18 من مشروع القانون التي تنظّم الحقوق الثقافية للطفل، وتنصّ على حقّه في المشاركة في التجمعات والنوادي الثقافية والترفيهية، وتوفير حدائق ومراكز آمنة ومجّانية وفق الإمكانيات المتاحة، ومشاركته في تحديد البرامج الثقافية والفنية والعلمية وتنفيذها، ووضع أسس اختيار وتدريب العاملين في هذه المجالات.

ضرورة تقديم نظرة أعمق لما يتطلبه مستقبل الأجيال المقبلة

تتساءل أستاذة العلوم التربوية والباحثة أسيل الشوارب عن المقصود بطبيعة الحدائق وما تقدّمه من خدمات، والمراكز الآمنة واختصاصها، والتي لم تُحدّد في المشروع الذي يربط إنشاءها بتوفّر الإمكانيات الحكومية، وتوضّح الباحثة أن معظم الدراسات الحديثة تؤكّد أهمية التعليم غير الرسمي في أماكن اللعب والنوادي الثقافية والترفيهية، ودوره في رفد النظام التعليمي في المدارس والرفاه الاجتماعي، خاصّة في أوقات حرجة، مثل وقت الفراغ الذي قد يعزّز سلوكيات سلبية.

وتدعو إلى ضرورة الانتقال في هذه النصوص التشريعية من الحدود الدنيا إلى نظرة أعمق وأشمل لِما يتطلبه مستقبل التعليم، والانتقال من تحقيق الاحتياجات الأساسية إلى رفاه الطفل، عبر التركيز على جوانب الدعم النفسي الاجتماعي، والانتقال إلى فكر جديد يوجّه التعليم إلى تفاعل مجتمعي مدني، من خلال تفاعل الأطفال فيما بينهم في تلك المراكز، سواء في العاصمة أو بقية المحافظات، والتي يجب أن تتوافر على بيئة جذّابة للصغار تتمتّع بكافّة معايير الأمان والسلامة العامة.

وتبيّن الشوارب أن مشاركة الطفل في تحديد البرامج الثقافية والفنّية والعلمية المصمّمة له، بمشاركة مرشدين ومتخصصين، يجب أن تُراعي سنّه وإمكانياته والإطار البيئي الذي يعيش فيه، من خلال التركيز على أنشطة ذات طابع زراعي أو اقتصادي أو ثقافي ــ بحسب طبيعة المجتمع ــ من شأنها أن توثّق علاقته مع الواقع.

أمّا أستاذ العلوم السياسية والباحث زهير توفيق، فيعتقد أن الحقوق الثقافية المطروحة في المادة 18 لا تكفي ولا تؤدّي الغرض المطلوب، وربما جاءت هكذا من قلّة الاهتمام بالموضوع الثقافي والثقافة كقطاع مركزي وأساسي في المجتمع، وكأن هذا القطاع زائد عن الحاجة وعن الضرورات الوجودية التي تعني الاهتمام بالحقوق المادّية للإنسان ككائن حيّ لا أكثر ولا أقلّ، وفق تصوّر صنّاع القرار.

القوانين الناجحة تبدأ بفهم الواقع وتسعى إلى حلّ مشاكله

ويلفت توفيق إلى وجوب التمييز بين التحّديات الثقافية والحقوق الثقافية التي تعيد تشكيل شخصيّته الوطنية، وتحافظ على إنسانيته، وتوفر له الاستقرار والشعور بالوحدة والتوافق مع ذاته ومع ذويه ومجتمعه الكبير والتكيّف مع قيمه العربية، ما يتطلّب تجديد الثقافة نفسها في عالم يتغيّر مادياً أسرع من القيَم وكل ما يتعلّق بالثقافة.

ويضيف أن "ما نحتاجه هو حقوق ثقافية للمواطن بشكل عام، ثم ترجمتها وتوزيعها على القطاعات الأخرى، خاصّة الفئات الضعيفة والمهمّشة في المجتمع، كالشباب والمرأة والطفل، في إطار خصوصيات كلّ فئة من تلك الفئات، بعيداً عن العموميات والإنشاء اللفظي".

ويؤكّد توفيق أن "الحقوق المستمّدة من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان هي حقوق واقعية قابلة للتطبيق بعيداً عن الحساسيات المتوقّعة حول الهوية والتراث، وفي نفس الوقت، تعمل على انخراط الطفل بثقافته كذات وليس كمجرّد موضوع، ووضعه في مواقف ثقافية تتطلّب منه الاختيار والتفاعل، والتطابق مع الذات والمجتمع". ويختم: "لا أرى أن المادة المذكورة كافية لاستغراق الموضوع، وهي تحتاج لإثراء وإعادة صياغة من الأساس".

من جهتها، تتّفق الكاتبة والصحافية المتخصّصة في حقوق الإنسان نادين النمري مع القول بأن مادة واحدة تنظّم حق الطفل في الترفيه والثقافة غير كافية. ويأتى ذلك بسبب ربط السلطة التنفيذية كلّ مادة في المشروع بالإمكانيات المتاحة وفق دراسة رسمية وُضعت للأثر المادي، بيّنت أن كلفته تقدّر بنحو ثمانية وسبعين مليون دينار، وهذا لا ينبطق على الحقوق الثقافية فقط، بل على الرعاية الصحّية التي حدّدت تدرّجاً زمنياً مدّته عشر سنوات، ومركز معالجة الإدمان الذي اشترط وجود الإمكانيات المتاحة، كما شُطب الحقّ في تأسيس رياض أطفال مجّانية والاكتفاء بإلزامية التعليم الأساسي فقط.

الحقوق الثقافية المطروحة في المادة 18 قاصرة ولا تكفي

وتوقّفت النمري عند إغفال مشاركة وزارة الثقافة وأمانة عمّان الكبرى والبلديات التي تحتوي أقساماً ثقافية في مسؤولياتها تجاه الطفل، إلى جانب وزارات التربية والتعليم والصحّة والتنمية الاجتماعية التي اكتفى مشروع القانون بتحديد مسؤولياتها.

وترى النمري أنّ مجرد وجود قانون ينصّ على هذه الحقوق يعدّ خطوة أولى جيدة في ظلّ عدم وجود تشريعات أردنية تضمن حقّ الطفل في ممارسة الأنشطة الثقافية، من موسيقى وفنون وترفيه، وتقديمها من قبل المؤسّسة الرسمية. لكنّ المشروع الحالي يحتاج، بحسبها، إلى تجويد وتحديد مسؤوليات الدولة ورصد ميزانيات، فيما ضُيّعت هذه الفرصة بسبب الهجوم الحادّ غير المبرّر من قِبَل بعض التيارات.

وفي حديثه إلى" العربي الجديد"، يقول أستاذ الأدب والنقد والشاعر عبد الله أبو شميس: "هل نحن بحاجة إلى قانون حقوق الطفل؟ نعم نحن بحاجة إليه. ولكن من المهم أن يكون منطلق هذا القانون هو الواقع الحقيقي للأطفال في الأردن، ومن ثم أن يسعى القانون إلى تحسين هذا الواقع من خلال سنّ التشريعات التي تلزم الجهات المختلفة ذات العلاقة بتقديم أفضل ما يمكن للطفل".

ويتابع: "كوني والداً لثلاثة أطفال أعمارهم حالياً بين 11 و14 عاماً، ومن خلال تجربتي الخاصّة وملاحظاتي العامة، فإن ما يحصل عليه الأطفال في الأردن هو أقلّ بكثير من المأمول. ويمكن القول إن الطفل الأردني لا يتمتّع بمستوى الأمان الكافي. فمثلاً، يتوجب على ملايين الأطفال في الأردن الذهاب يومياً إلى المدارس مشياً على الأقدام، من دون توفير أرصفة يمكنهم استخدامها بأمان في مشوارهم ذهاباً أو عودةً من المدارس. وهذا يتسبّب بحوادث سير تعدّ نسبتها في الأردن من أعلى النسب في العالم، وغالبية ضحاياها من الأطفال".

ويتساءل أبو شميس: "هل يُلزم قانون الطفل الجهات المعنية، مثل أمانة العاصمة أو البلديات، بإقامة أرصفة متّصلة للأطفال؟ أم يحيل القانون إلى التشريعات النافذة التي لا تتطرّق إلى هذا الحق البسيط للطفل في أن يذهب بأمان من بيته إلى مدرسته في مشوار يومي يمتدّ 12 عاماً؟ وفي المدرسة، هل يتطرّق القانون إلى ما يجب على المدرسة تأمينه للطفل؟ فالواقع يشهد أن كثيراً من طلّاب المدارس الحكومية يغادرون المدرسة قبل انتهاء الدوام. ولعلّه من المعروف اجتماعياً أنّ أهم سبب للجوء أولياء الأمور إلى المدارس الخاصّة هو الحفاظ على أمان أولادهم".

المشروع بحاجة إلى تجويد وتحديد مسؤوليات الدولة

ويشير أيضاً إلى الحاجة إلى تحسين ظروف الطفل الصحّية انطلاقاً من الواقع، وأن يتضمّن قانون حقوق الطفل "إلزاماً لمختلف الجهات المعنية بتوفير مستوى كافٍ (ولا أريد أن أقول عالٍ) للطفل الأردني"، مضيفاً: "فهمي البسيط أنّ القوانين الناجحة هي التي تبدأ من فهم الواقع، وتسعى إلى حلّ مشاكله بعد دراسات جدّيّة وحوارات معمّقة، ثم تكتمل بوضع إطار تشريعي يُلزم جميع الأطراف ذات العلاقة بتحمّل مسؤوليّاتها".

يعود الباحث والناشط في حقوق الإنسان رياض الصبح إلى "اتفاقية حقوق الطفل" التي صادق عليها الأردن عام 2006، ونصّت على حقّه في المشاركة في الحياة الثقافية وفي الراحة ووقت الفراغ، ومزاولة الألعاب وأنشطة الاستجمام. وبالطبع، يمارس هذا الحق في سياق احترام حقّ التعليم، والحقوق الثقافية للأقلّيات وحرّية الرأي والتعبير وحرية الفكر والوجدان والدين، ودور الدولة في تشجيع إنتاج المواد الإعلامية والمعرفية للطفل، وكل ذلك ينبغي أن يطبَّق على قاعدة أساسية هي الأخذ بعين الاعتبار لسنّ الطفل ودور الوالدين في نفس الوقت.

ويرى أن الحقوق الثقافية للطفل هي حقّ أساسيّ يمارَس بشكل ترابطي مع حقوق أخرى، مدنية واقتصادية واجتماعية، وهو يؤسّس للإنسان المبدع والمنتج، فليس غرضه الوحيد تحقيقُ المتعة في وقت الفراغ، بل ملء وقت الفراغ بما ينمّي عقل ووعي الطفل من خلال تحويل - وليس تفريغ - طاقته إلى شيء مفيد يقوّي من مهاراته وتحقيق استقلاليته وشعوره بالانتماء بمحيطه الاجتماعي والثقافي والإنساني، حينما يقبل التنوّع ويتقبل الآخر ثقافياً، ويؤسّس لفرد يمارس دوره المجتمعي من خلال المشاركة العامة عبر أنشطة اجتماعية وثقافية.

ويوضّح الصبح أن ما يعاب على القانون أن الدولة لم تكفل ــ كما ذهبت الاتفاقية ــ إنشاء محتوى ثقافي يخصّ الطفل من خلال تشجيع وسائل الإعلام على نشر موادّ للصغار وإنتاج كتب الأطفال، وتشجيعها على العناية باستخدام المفردات اللغوية لمختلف الثقافات في المجتمع، حيث يشير كلّ ذلك إلى تهرّب الدولة من استحقاق رعاية حق الطفل في التنوّع الثقافي والفكري الذي كفلته تلك المواد في الاتفاقية وتجاهلها القانون.

ويختم بقوله: "الأردن أمام استحقاق أن يحدّد موقفه من الهوية الوطنية من خلال طرح السؤال الثقافي وحرّية الفكر، وإنّ خبوَ الإجابة كان بارزاً في غفل القانون عنها. آن الآوان لأن يكون للدولة دور تكامليّ للحقوق الثقافية من خلال الرعاية وتعزيزها لجميع المواطنين، ويمكن لكفالتها للطفل أن تكون الخطوة الأولى للوصول الى ذلك في الأمد القريب".

أضف تعليقك