محمد القيسي: الشّاعر المتعب من حسّاد الشّمس، وضحيّة الغيارى

الرابط المختصر

 

رغم أنّ الأدبَ نتاجٌ فكري وانعكاس حضاري لثقافةِ الشّعوب، ويعمل على ازدهار الأمم، ويحفظ للمجتمع هويته وإرثه بكلّ تنوّعاته، إلّا أنّ الحياةَ الأدبيّةَ بالغت في التّنكيرِ لكثيرٍ من الأدباءِ والمثقفين. والشّعراء المبدعون قليلون ومغمرون في بلادنا، ولو لم يحثّ النقادُ على قراءةِ شيءٍ من أشعارهم، ما عرفنا شيئاً من شعرهم، وما عرفهم أحدٌ، ولسكتت عنه كتب تاريخ الأدب، ولحلّوا محلّهم ما ليس في جلالة قدرهم وسمو مكانتهم.

صادف يوم الاثنين الفائت، ذكرى وفاة الشّاعر الرّومانتيكي الجوّال، الشّاعر محمد القيسي، ولقد كان يوماً محرقاً بحرارته عندما غادر القيسي الحياة منفرداً إلى الأبد.

يُعدُّ الشّاعر محمد القيسي أحدَ شعراء الأردن وفلسطين، ترك رصيداً حافلاً من الأعمال الأدبيّة، لا سيّما الشّعريّة، ما زالت تشكّل بمخزونها كنزاً فنياً. 

 

ظلّ القيسي محل تهميش ونسيان بقصد وبغير قصد، وبقيت مساهماته الأدبيّة حبيسة أدراج رؤساء اللجان الثقافيّة ورهينة ملفاتهم، حيث سرقت الأسماء اللامعة مساحات الأضواء، ولم تترك له حيزاً يقف به، فآثر الوقوف بالظّل، متعلقاً بالشّعر والقراءة والكتاب، حاملاً الصخرة السيزيفية، وصاعداً بها نحو الجبل.

 

لم يبحث القيسي عن أقلام الصّحافة وكاميرات المصوّرين وبريق الحضور، واكتفى بالمشاركة في بعض المناسبات ومجالس الشِّعر البعيدة عن الأضواء. 

 

ولم يكن القيسي قط شاعراً وحسب، هو بصمةٌ قويّةٌ وراسخة في عالم إبداع الشِّعر العربي الحديث، ولم يسلك مساراً واحداً في الأدب، بل جمع بين الشِّعر والنثر، ولكلّ نوعٍ أسلوبه الخاص.

 

إنّ القيسي الشّاعر المعروف لدى دارسي الشّعر الأردني والفلسطيني بأنّه قد يكون الأسبق تجديداً، وأحسبُ أنّ دوره في التجديد يعود إلى ستينيات القرن العشرين، فقصائده المنشورة في المجلات كمجلة الآداب البيروتيّة والبيادر الأدبية خلال تلك الحقبة الزّمنية، تكشف عن طبيعة تجربته الشّعريّة المغايرة لتجارب مجايليه. 

كما لم يتوقف القيسي عن حمل راية التجديد حتى الأيام الأخيرة من حياته، وقد يجوز لي القول: بأنه أكثر حداثة من كثيرين ممن ولدوا بعده، تاركاً لنا ثروة شعريّة نفيسة، يضمّها دواوينه راية في الريح 1968م، وخماسية الموت والحياة 1971م، ورياح عز الدين القسام 1974م، وإناء لأزهار سارا 1979م، واشتعالات عبدالله وأيامه 1981م، وعازف الشوارع 1988م، وشتات الواحد 1989م، وصداقة الريح 1993م، وغيرها.

 

ولد محمد القيسي في كفر عانة / يافا سنة 1944م، عاش حياته متشرداً وأعزل بين عدد من مخيمات اللاجئين منذ خروجه مع أسرته من فلسطين بعد نكبة 1948م، متنقلاً بين بغداد، ودمشق، وبيروت، ورام الله، والسعودية، والكويت، وليبيا، والمغرب. 

درس اللغة العربية بجامعة بيروت سنة 1971م، وعمل في التدريس والصّحافة والإذاعة، وقد استراح قلبه، وانتهى منفاه في عمّان سنة 2003م(1).

 

والانصاف يقتضي الإشارة إلى أنّ الناقد الدكتور إبراهيم خليل أعطى مساحةً واهتماماً لحياة ونتاج القيسي الأدبيّة، وقد أتاح لي فرصة الاطلاع على كتابه الموسوم بعنوان محمد القيسي قيثارة المنفى وتباريح الشجن، مقدّماً تلخيصاً شاملاً ووافياً، وقد عادت لي فصول الكتاب ذكريات على نفسي، ترجع إلى قراءتي لأشعار محمد القيسي عندما كنت طالباً في مرحلة البكالوريوس بقسم اللغة العربية بجامعة آل البيت. 

 

 وفي كلّ حال، فإنّ إبراهيم خليل، ذكر أموراً مهمّة جدا عن محمد القيسي بحكم معاصرته، وأماط اللثام عن الملامح المتخفية والمتجلية في الشّاعر، كاشفاً الحالة الاجتماعية والأوضاع الصّعبة، راسماً صورة عن حياته العامة والخاصة، مقارناً ومشيراً إلى مكانته التي يستحقها بين أدباء عصره. 

 

في الجملة، عرفنا أنّ للقيسي حسّاداً، وأنّ الرّجل كان مهمّشاً، ورغم دواوينه الشّعرية تملأ المجلات، وتنفذ من المكتبات، إلا أنّ تجربته الشعرية ظلت بعيدة عن الاهتمام النقدي، في الوقت الذي كان فيه من هم أقصرُ منه قامة من الشعراء تلتفت حولهم زُمرٌ من النقدة والمستكتبين، وكان قارئاً مثقفاً، وقلقاً متمرّداً(2).

 

كان القيسي واضحاً وصريحاً في تعامله مع الآخرين، وكان اعتداده بنفسه وبشعره يزيد خصومه النقاد والشّعراء بغضاً به وحسداً له.

 

ينزع القيسي منزعاً رومانسياً، ليخضع نصّه الشّعري للنغمة الشجية، بحيث إنّ نصوصه الشّعرية تبدو قاتمة، تتميز بالتوسع الرومانسي الرمزي، لتنسجم مع المزاج الرومانسي المتشائم، وهذا ما يفسّر لنا سبب تعلّق القيسي بالمرأة ولجوئه إلى الطبيعة على غرار بقية الشّعراء الرومانسيين كرمز للبراءة والطهر، طالباً العزاء والسلوى، وعلّه ينسى تجربته المريرة مع امرأة يرى أنّها لا تستحق ما يقدّمه لها من حبّ وتضحية وفداء. 

 

والمعلوم بأنّ الرُّومانسيين ينزعون إلى الحرّية، ويميلون إلى التّشاؤم، ويعيشون حياة الغربة والألم والكآبة والتّعاسة، وأعتقد أنّ الشّاعر محمد القيسي تأثر تأثراً كبيراً بالأسلوب الرومانسي، وهذا ما يبدو من الألفاظ التي يختارها.

 

صداقة الرّيح

شأن كلّ التّجارب الشّعرية الأصيلة، استطاعت تجربة الشّاعر محمد القيسي التي رسمت مجموعته صداقة الريح أبرز أبعادها الإنسانية والتعبيرية، أن تنتهي إلى فرز خصائصها الجمالية في ساحة الشِّعر العربي.

 

إنّ مجموعة القيسي الشعرية تتميز بالتوسع الرومانسي الرمزي، وعنوان هذه المجموعة يعطي دلالات عدّة، بحيث يبدو من العنوان الذي اختاره الشّاعر محمد القيسي لمجموعته الشّعريّة أنّه يطرق موضوعاً غير تقليدي، وإن أوّل ما يستوقف القارئ في هذه المجموعة الشّعرية عنوانها، فالشاعر القيسي يقيم صداقة على نحو مغاير وغير مألوف، بحيث تجلّت الصّداقة في صورة الرّيح، على أنّ السّؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: لماذا اختار القيسي الرّيح؟

 

إنّ فكرة الصّداقة مع الطبيعة / الريح فكرة رومانسية، فاختيار القيسي الرّيح كتعويض نفسي، وكرد اعتبار عن الخذلان.

 

إن المتأمل في العنوان يكتشف أنه أمام شيء تعويضي، الذي ينم على إحساس الشّاعر بالاغتراب، موظفاً أسلوب التجسيد، مانحاً الريح الصفة الإنسانية الحميدة، وبالمحصلة، اتجهت اللغة اتجاهاً غريباً، وبالتأويل، مثّلت العلاقة بين الريح والشاعر صداقة مغايرة، ولا مألوفة، كبديل تعويضي عن فكرة الاستغناء، محاولاً إشباع رغبته بالاكتفاء.

 

لقد أبرز الشّاعر عدّة محاور في مجموعته، تتلاقى في مكانٍ واحدٍ من خلال مرجعية واحدة، وهي الرومانسية: محور المرأة، وهو الهاجس الذي ظل ممتداً من بداية المجموعة إلى نهايتها، وقد ظل يطارد الشاعر في معظم نصوصه الشعرية، وتخرج هذه المرأة في معظم مجموعته بعيدة المنال والعجز، ومحور الذكريات، ومحور الحلم والوهم.

الموقف من المرأة أضحى لدى القيسي خيالاً يرفد غنائيته بما يرتفع بها أثراً جمالياً، قادراً حمل القارئ على الوقوف إلى جانب الشّاعر في موقفه ذاك، وغالباً ما يرتبط ذكر المرأة بالاغتراب(3).

 

وأخيراً، فإنّ القيسي الشّاعر المغنّي الجوّال، القادم من طريق أورفيوس، حمل قيثارته، وطوى نوتة أحلامه، ورحل.

الإحالات

______________

(1) انظر، معجم الأدباء الأردنيين في العصر الحديث، ط1 ـ 2014م، منشورات وزارة الثقافة الأردنية، عمان، ص 249-250.

(2) انظر، محمد القيسي، قيثارة المنفى، وتباريح الشجن، دراسة في شعره ونثره، ط1 ـ 2019، دار أمواج، عمان، ص 7-17.

(3) انظر، صداقة الرّيح: محمد القيسي، ط1 ـ 1993م، عيبال، عمّان.

أحمد البزور، مواليد الزّرقاء، سنة ١٩٩٠، حاصلٌ على درجة الدّكتوراه في الأدب والنّقد الحديث من الجامعة الأردنيّة، وعضو في الاتّحاد الدّولي للغة العربيّة، ولديه العديد من الأبحاث المنشورة في مجّلات محليّة وعربيّة محكّمة، وكتب عددًا من المقالات والمراجعات عن الأدب والنّقد في الصّحف والمواقع الإلكترونيّة المتخصصة.