محمد القيسيّ قيثارة المنفى وتباريح الشجن: دراسة في شعره ونثره. لإبراهيم خليل

  أما وقد تفضّل أستاذي الدّكتور إبراهيم خليل منذُ أزيد من سنتين إهدائي نسخة من كتابِهِ الموسوم بـ "محمد القيسي قيثارة المنفى وتباريح الشجن"، أجدني بعد هذه المدّة أعود إلى قراءته من جديد، ولا يسعني في هذا المقام إلّا أن أقدّم عرضًا وتوصيفًا وتلخيصًا للكتاب، من غير إلزام نفسي في النّقد والإيغال، بعيدًا عن أهداف المؤلّف ومراميه. لافتًا نظر القارئ إلى أنّ النّاقد الحصيف لا يتطلّب مقدّمات، فهو يقدّم نفسه بنفسِهِ، وأحسبُ أنّ إبراهيم خليل لا يحتاج إلى مقدّمة، فهو أستاذٌ جامعي، وناقدٌ أردنيّ، معروف لدى دارسي الأدبِ في الوطنِ العربيّ، وأحسبُ أنّ دورهُ في التّجريبِ النّقدي يعود إلى ثمانينيات القرن العشرين، فكتبه المنشورة خلال تلك الحقبة الزّمنيّة، تكشف طبيعة تجربته النّقديّة.

مع ذلك، لم يتوقّف عن حملِ رايةِ الدّرسِ والنّقد الأدبيّ حتّى هذه اللحظة، وقد يجوز لي القول: إنّه أكثرُ النّقادِ الأردنيين طرقًا للتّحليلِ النّقدي التّطبيقيّ، إذ يكاد الذين لا يعرفونه عن قربٍ يتصوّرون أنّهُ منعزلٌ عن إيقاعِ الحياةِ اليوميّ، والحقيقة خلاف ذلك.

نزيدُ على ذلك، بالإشارةِ إلى أنّ إبراهيم خليل بدأ حياته الوظيفية معلّمًا، وأصبح من بعدٍ أستاذًا أكاديميًّا بالجامعةِ الأردنيّة، ومن أبرزِ ملامحه، أنّهُ واسعُ الثقافة، غزيرُ الاطّلاع، كثيرُ الكتابةِ والتّأليف، فهو يجمعُ ما بين التّعمقِ في القديمِ والمواكبة لكلِّ جديدٍ في الأدبِ والنّقد، إلى جانبِ ذلك، منفتح على كلّ التياراتِ والمناهج النّقديّة. 

على كلّ حالٍ، جاء كتابُ "محمد القيسي قيثارة المنفى وتباريح الشّجن: دراسة في شعره ونثره"؛ وفاءً لما في نفسِ أستاذنا الدّكتور إبراهيم خليل من تقديرٍ عميق ومودّة خالصة يُكنّها للأديبِ الرّاحلِ محمّد القيسي، ورغبةً في أنْ يقدّم له دراسة منصفة عن أدبه، بعد مرورِ سنوات طوال على رحيله. وقد صدر الكتابُ سنة ألفين وتسع عشرة عن دارِ أمواج للنّشرِ والتّوزيع، ويقع في مئة وخمس وسبعين صفحة من القطعِ المتوسّط، وتوزّع على مقدّمة وثمانية فصول وخاتمة.

إنّ الذي حمل أستاذنا الدّكتور إبراهيم خليل على هذه الدّراسة ـ راجع فيما يراهُ ـ إلى أنّ لا أحد يكاد يتذكّر القيسي؛ الشّاعر الذي جابَ الآفاق، وأغرقَ الحساسيّة بشجنِ الكلمةِ ولوعة الفراق، في الوقتِ الذي كان فيه من هم أقصر منه قامة من الشّعراءِ تلتفت حولهم زمرة من النّقدةِ والمستكتبين. 

ثقافة الإقصاء والتهميش

من أسوأ ما تعانيه الثقافة، إلغاؤها الآخر وإقصاؤه، لهذا كشف إبراهيم خليل أنّ القيسي من الشّعراء المهمشين والمنسيين، ولم ينَل حظّه من الشّهرة. وبالرّغمِ من اكتمالِ أدواتِ القيسي الأدبيّة ووجوده على السّاحةِ الأدبيّة العربيّة منذ السّتينيات، ظلّ يُعاني من التّجاهلِ المتعمّد في الأوساطِ الثقافيّة، وقد وصل الأمر إلى رفض نشر منجزه. لم يستطيع القيسي تسويق منجزه؛ لأنّ معيار النّشر في المجلات ـ على حدّ تعبير المؤلّف ـ كان على أساسِ الواسطةِ والمحسوبيّة والقرب من أصحابِ القرار، إلى جانب أنّه لم يكن كريمًا، ولا جوادًا، ولم يفتح أبواب منزله مضافة. وبالمحصّلة، فإنّ القيسي يعدّ من شعراء الظّل، وقد أدرك مؤلّفُ هذا الكتاب أنّ قدرًا كبيرًا من الظلمِ وقع عليه، ذلك من خلالِ مبالغة الحياة الأدبيّة في التّنكرِ له. على أنّ مما يجدر ذكره، أنّ القيسي أصدر ما يربو عن عشرين ديوانًا وروايتين.

وباقتضابٍ شديد، يرى إبراهيم خليل في الفصلينِ الأوّل والثّاني من الكتابِ أنّ الحزنَ هو الإحساسُ المهيمن على أشعارِ القيسيّ المبكّرة، وتوصّل إلى أنّ القيسي يلحّ في بواكيره على مفردةِ "الحزن"، وعلى وجهِ التّحديدِ ديوانه الأوّل راية في الرّيحِ (1968)، وقد خلص إلى أنّ موضوعَ الحزنِ في شعرِ القيسي مرتبطٌ مع موضوعِ الوطن. وتطرّق إلى موقفِ القيسي من الموتِ، وأنّ فضاءَ الموتِ أوضح ما يكون في كتابه الشّعري ـ النّثري ثلاثيّة حمدة (1997)، الذي جمع بين النّثرِ والبكاءِ الموزون؛ لهذا، يمزج القيسي موقفه من الحزن بموقفه من الاغترابِ والموتِ، مما يجعلهُ دائمَ الشّعورِ بالمرارةِ، والعذابِ، والقلقِ، والضّياع. 

تناول المؤلّفُ في الفصل الثّالث ظاهرة النّصّ الموازي، وبالنّتيجة، فإنّ التّناص في شعر القيسي يسير في خطّين: حاضر، وغائب. هذا ويستعرض المؤلّف مستويات التّناص في شعرِ القيسي، حيثُ التّناص الأسطوري، والدّيني، والأدبيّ، والشّعبي، كما يرى أنّ أشعاره تعدّ نموذجًا مناسبًا لدراسةِ هذه الظّاهرة.

ويتطرّق المؤلّفُ في الفصلِ الرّابعِ إلى المكانِ في شعرِ القيسي ونثره؛ كونه علامة رمزيّة ودالّة؛ ذلك من خلالِ رصدِ التّنوعِ في العناصرِ التي يتشكّل منها الفضاء المكاني، حيثُ البيت، والنّافذة، والطّاقة، والشّرفة. وإجرائيًّا وزّع المؤلّف المكانَ في شعرِ القيسي على فضاءينِ: فضاء خارجي وفضاء داخلي.

أفرد المؤلّفُ في الفصلِ الخامس الذي يُعدّ امتدادًا للفصلِ الثّالثِ، قضيّة التّأثرِ والتّأثيرِ في شعرِ القيسي، هذا واستخلصَ من ذلك، أنّ أثرَ لوركا ظاهرٌ للعيانِ في نماذج كثيرة من نصوصِ القيسي الشّعريّة والنّثريّة. على أنّ الإشارةَ واجبة هنا إلى القولِ بأنّ الدّكتور أحمد عبد العزيز، أشارَ إلى ذلك في بحثه الموسوم بالعنوانِ: تأثير لوركا في الأدبِ العربي 1983م.

وعلى العمومِ، يظهر التّأثرُ ـ من وجهةِ نظرِ أستاذنا إبراهيم خليل ـ من خلالِ ذكرِ القيسي لاسمِ لوركا، وتضمين بعض قصائده أبياتًا من شعره، وذكر الأمكنة، من مثلِ قرطبة، وغرناطة، وإشبيلية. هذا بالإضافةِ إلى ما سبق، أنّ القيسي يستخدم ألفاظًا إسبانيّة، وكثيرًا ما يكرّر الإشارة إلى الغجرِ، والنّهرِ، والجوادِ، مجاراةً ومحاكاةً مع لوركا.

وبهذا المنظور من التّجاورِ والتّعالق، يقفُ المؤلّفُ في الفصلِ السّادسِ على تراسلِ الأنواعِ في شعرِ القيسي، بناءً على أنّ نصوصَ القيسي الشّعريّة تدخل في إطارِ ما سمّاه بالقصيدةِ السّرديّةِ والدّراميّة، ويكتشف استنادًا إلى الاقتباساتِ في أنّ القيسيّ يمزجُ في نصّهِ أكثر من نوعٍ أدبي. والمحصّلة النّهائيّة، أنّ نصّ القيسي الشّعريّ مكتنزٌ بالتنوعِ الأجناسي ومفتوح على الأنواعِ الأدبيّة؛ من حيثُ استيعابه السّرد، والحوار، والوصف، والحكاية، والمثل، والأغاني، وغيرها.

والنّتيجة المستخلصة في الفصلِ السّابعِ، أنّ نصّ القيسي الشّعري، لا سيّما النّصوص القصار، تتضمنُ إتقانًا واتّساقًا إيقاعيًّا وصوتيًّا متجانسًا، ذلك من خلالِ تناسبها، وتناظرها، وتكرارها، وتدويرها.

إنّ المؤلفَ في الفصلِ الثّامنِ يفسّر اعتدادَ القيسي بنفسهِ، وتعاليه على غيره، وحضور الأنا في أدبهِ شعرًا ونثرًا، وشدّة عشقه للنّساءِ. ومما يجدر ذكرهُ في هذا الصّدد، أنّ المؤلّفَ على درايةٍ بسيرةِ القيسي الذّاتيّة وعلاقة شخصيّة تربط به. وبمنظارِ التّحليل النّفسيّ الفرويدي، تظهر الأنا عند القيسي من ـ وجهةِ نظرِ المؤلفِ ـ مصابة بعقدةِ أوديب، وعلى هذا الأساس، يكتبُ معللًا استنتاجه بأنّ القيسي فُجع وعمره أربع سنوات بمقتلِ أبيه، وإنّ الأثر الذي تركه موت الأب في نفسيّة القيسي حددتْ طبيعة شخصيّته؛ من احتياجٍ شديدٍ للمالِ والتّعلق بالأم، الشبيه بتعلّقِ الطّفلِ بأمّه، وهذا تمامًا ما يُسمّى بالتّعويضِ النّفسيّ.

ويسوق المؤلّفُ رواية الحديقة السّريّة، وهي أشبه ما تكون بالسّيرةِ الذّاتيّة؛ مثالًا بارزًا على ذلك في تماهي المرأة المحبوبة بالأمّ المتوفاة. وتعزيزًا لما سبق ذكره في الفصلِ السّادسِ، يمكن الإشارة إلى ما قاله المؤلّف عن سؤالِ التّجنيسِ إلى أنّ نصّ القيسي، لا سيّما رواية الحديقة السّريّة، نصٌّ استثنائي يتخطّى قواعد التّصنيف.

ولا بدّ لنا في النّهايةِ من أن نقول: إنّ الدّكتور إبراهيم خليل في دراسته لم يقفْ في حدودِ التّنظير في مناقشةِ الظّواهرِ والقضايا المستخلصة من نصوصِ القيسي الشّعريّة والنّثريّة، بل ذهبَ أبعد من هذا؛ حيث قام بالنّقد التطبيقي. وعلى ذلك، نكتفي بالقولِ بأنّ مؤلف هذه الدّراسة أظهر بأنّ القيسي شاعرٌ كبير، ملتزم بقضية الأدب، من حيث هو أدب وفن.

باحث وناقد مستقل ـ الأردن.

 

أضف تعليقك
أحمد البزور، مواليد الزّرقاء، سنة ١٩٩٠، حاصلٌ على درجة الدّكتوراه في الأدب والنّقد الحديث من الجامعة الأردنيّة، وعضو في الاتّحاد الدّولي للغة العربيّة، ولديه العديد من الأبحاث المنشورة في مجّلات محليّة وعربيّة محكّمة، وكتب عددًا من المقالات والمراجعات عن الأدب والنّقد في الصّحف والمواقع الإلكترونيّة المتخصصة.