مجاهدو الكريسماس، التطرف أصيل ولم يكن يوما دخيلا
منذ أكثر من 10 سنوات، أجد نفسي مع نهاية كل عام أكتب مقالةً تكاد تكون متماثلةً في المحتوى والتراكيب لأنها تتناول ظاهرةً بل شعيرةً متأصلةً مستصحبةً منذ قرون تجسد أجلى أشكال الانحدار القيمي والخلقي التي يمكن أن تطال أمةً ما.
فالحشد المنظم والجهد المبذول والحقد المنفوث في الفضاء الفعلي والافتراضي حول الحكم الشرعي لتهنئة المسيحيين والاحتفال معهم بأعيادهم؛ يدل على أمرين كلاهما وصمة عار على جبين من ينتمي لجذرهما الفكري: الأول يتمثل في نزع الإنسانية عن الآخر بسبب اختلافه في الدين والعقيدة، إلى الحد الذي تصبح معه الكلمة الطيبة والتهنئة اللطيفة العابرة «إثماً يستوجب الاستغفار»، أما الثاني فهو استمراء بل استعذاب ممارسة الإقصاء والتنمر في أبشع صورهما واعتبار ذلك من سبل «نيل مرضاة الله وإعلاء كلمته».
كما في كل عام، يحدث ما يشير إلى تعمّق ممارسة هذه الشعيرة الاستئصالية وتجذرها بين مختلف فئات المجتمع ومن بينهم الشباب الذين يعوَّل عليهم لترسيخ الهوية الجامعة وإعلاء قيم التنوع واحترام الاختلاف بأشكاله كافة.
تطور الأمر هذا العام ليطل داعية من خلال حساباته على منصات التواصل الاجتماعي محذراً دراويشه من الاحتفال بأعياد الميلاد المجيد باثّاً على الجميع رسائله الإقصائية الداعية لنبذ الآخر المخالف في الدين ووضعه على الهامش وعدم التفاعل معه ولو بكلمة طيبة ومجاملة رقيقة.
كما ظهر في إحدى الجامعات من طلبتها من ينظمون حملةً تهدف إلى «تحذير المسلمين من تهنئة المسيحيين ومن باب أولى الاحتفال معهم بعيد الميلاد المجيد»، لتكتمل بشاعة المشهد بخروج والد إحدى منظمي هذه الحملة الإقصائية ونشره عبارات تقطع بتأييده لما قام به ابنه مع رفاقه ثم تهديده الضمني أجهزة الدولة ب«بالعزوة والمؤازرة من الأقارب وكثرة العدد»، والواقع أن الصادمة ليس دفاع أب عن ابنه حتى وإن كان مرتكباً لجرم بيّن، فهذا من طبائع الأمور، وإنما استساغة الفعل وتبريره، الأمر الذي يشير بوضوح إلى مصدر التطرف الذي نهل منه هؤلاء الشباب الذين تركوا كل شيء في الحياة وتفرغوا لتعكير صفو مناسبة باتت عالميةً تجمع الجميع حول العالم بمختلف دياناتهم وانتماءاتهم للتعبير عن الفرح والابتهاج.
الحقيقة أن ما يحير المتأمل في هذه الدعوات الجلي تطرفها وإيغالها في الكراهية؛ هو كيف يستقيم في وجدان شخص جامعي أو مثقف أياً كان تعليمه أن السلام والتهنئة والاحتفال تمثل تهديداً للعقيدة وإعلاناً ضمنياً عن الإيمان بعقيدة أخرى؟ ثم هل لدى هؤلاء المتطرفين مساحةً من ضياء في عقولهم وضمائرهم ليطرحوا على أنفسهم السؤال الآتي: هل يتقبلون أن يباشر القساوسة دعواتهم قبيل شهر رمضان وعيد الفطر والأضحى لأتباعهم طالبين منهم عدم إظهار أي تجاوب أو احتفال أو تهنئة للمسلمين لأن في ذلك إقرار بتصديق معتقدهم والإيمان به؟ هل سوف يقف مرضى حساسية الاختلاف والتنوع موقف المتفرج إذا قام طلبة غير مسلمين بتنظيم حملات تبين «خطر المشاركة في احتفالات أعياد المسلمين ووجوب الامتناع عن تهنئتهم بها؟».
إذا صحت أخبار القبض على من توحشوا فكرياً وروجوا لإقصاء قطاع من المواطنين الذين هم جزء أصيل متأصل من نسيج المجتمع؛ لكونهم يختلفون في الدين؛ فإنه يمكن مناقشة هذا الإجراء الأمني في سياق ما إذا كان هو الحل أو أن معالجة هذه الظاهرة المتأصلة تتطلب تخطيطاً وخطوات أعمق وأبعد من التدابير الأمنية، أما أن يتبجح المتعاطفون مع هؤلاء المتطرفين بحرية الرأي والتعبير؛ فإن هذا هو عين الازدواجية والنفاق.
فمن جهة أولى، أنّى لأهل الرأي الواحد زعماء التطرف والاستئصال أن يحاجّوا بما هم به كافرون، ثم كيف يعتبرون ازدراء شعائر الآخر حتى لو ضمنياً باعتبار من يجامل فيها «خارجاً عن الملّة أو زنديقاً» في أحسن الأحوال؟ ألم يقم المتطرفون الإسلاماويون الدنيا ولم يقعدوها في المحاكم والمحافل الأوربية لنيل أحكامٍ تعتبر ازدراء الدين خارجاً عن حرية التعبير؟ أتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض؟
مناهضة التطرف الإسلامي في بلدانه وحواضنه الاجتماعية لا تجدي معه الحلول الأمنية وحدها، فمن يتم توقيفه من دعاة عدم تهنئة الصديق والجار وربما القريب ومشاركته احتفالاته؛ سوف يعتبر نفسه «مجاهداً وبطلاً يذود عن العقيدة ويعلي كلمة الله ولو كره الكافرون».
من جملة ما تتطلبه معالجة هذه الشعيرة المتطرفة؛ تحليل نفس اجتماعي لمن يمارسونها، إذ يجب طرح حزمة من الأسئلة الكاشفة.
فمن جهة أولى، كيف يمكن أن يكون الاحتفال بشجرة أو تهنئة الآخر إقرار بعقيدته أو اعتناقاً لها؟ هل تناول غير المسلم طعام الإفطار أو السحور مع المسلمين من باب المشاركة الإنسانية الجميلة دخولاً في الإسلام؟ هل حقيقة الأمر أن المتطرفين يستفزهم عالمية الكريسماس الذي تحتفل به شعوب الأرض قاطبةً بما في ذلك الشعوب غير المسيحية مثل الهند بهندوسييها ومسلميها واليابان والصين وتايلاند وسائر دول آسيا وأفريقيا؟ هل تهنئة غير المسلم بزواج أو بمولود جديد يعتبر في عرف هؤلاء الكارهين لأنفسهم إقراراً بصحة إجراءات علاقة الزوجية وصحة النسب بالرغم من أن هذا كله تم بموجب عقائد وشعائر غير إسلامية؟ هل يشمل عدم جواز الاحتفال بالكريسماس –كما سأل أحد المفكرين التنويريين وبحق- تحريم حصول من يعملون في أوروبا وأمريكا ولدى المنظمات الدولية على المبالغ الإضافية (البونس)الذي تمنح بعض تلك الجهات للعاملين بمناسبة الكريسماس؟ أم أن هذه نقرة وتلك نقرة أخرى؟
ثمة سؤال جوهري ينبغي مناقشته في إطار أي جهد مراد القيام به لمواجهة هذه الشعيرة الاستئصالية، ألا وهو دور المؤسسات الدينية التي تلتزم جانب الصمت في كل مرة يحتدم فيها هذا الجدل غير المتحضر ويخرج فيها هؤلاء الغلاة أحقادهم وينفثون سمومهم، فهل يمكن أن تهنئ مؤسساتنا الدينية المواطنين المسيحيين مثلاً بحلول عيد الميلاد وعيد الفصح، باعتبار ذلك تعبيراً عن نهج الدولة المستوعب للجميع والحاضن لفئات المجتمع كافة بمختلف ألوانها وعقائدها؟ هل يمكن إطلاق عملية مراجعة شاملة لبعض الكتب والمصنفات المتداولة المتقدم منها والمتأخر وإعلان البراءة من كل ما تنطوي عليه من تحريض وتحقير وإقصاء لكل مخالف أو مختلف؟
من نافلة القول إن عدم اتخاذ موقف وإعلانه هو موقف، لذلك فإن ادعاء الحياد من أي جهة أو شخصية مؤثرة في قضايا مفصلية تمس السلم والأمن المجتمعي على المدى القصير والمتوسط والبعيد هو جريمة لأنه في حالتنا هذه يعتبر ولا ريب تأييد ضمني لعتاة الإرهاب الفكري والتطرف العنيف.
كل عام والجميع بألف خير بمناسبة عيد الميلاد المجيد، وإلى اللقاء مع مقالة نهاية العام القادم حول حملات التطرف والكراهية والإقصاء التي لا يبدو أن جذوتها سوف تنطفئ قريباً طالما تصر الجهات المعنية بالتعاطي معها على أنها «مجرد سلوكيات فردية وقلة قليلة لا تمثل صحيح الدين»، ولا بد من التذكير أن ما يقوم به مجاهدو الكريسماس هو تنفيذ حرفي لكتابات ابن القيم وابن تيمية وحزمة كبيرة من «صحيح الأحاديث» المروية من بخاري ومسلم والسلسلة الصحيحة للألباني، هذا فضلاً عن الفتاوى الحديثة المنشورة لرجال دين في الأردن والسعودية وغيرهما.












































