يواجه الأردن، الذي يعد أحد أعلى دول العالم في معدلات التدخين بين الذكور، مفارقة مالية وخيمة: فقد أصبح اعتماد الخزينة العامة على إيرادات ضرائب التبغ شرياناً مالياً لا يمكن الاستغناء عنه على المدى القصير، لكنه في الوقت ذاته يمثل قنبلة موقوتة للقطاع الصحي والاقتصاد الوطني على المدى الطويل.
تشير الأرقام الرسمية إلى أن التبغ ليس مجرد عادة اجتماعية منتشرة؛ بل هو عبء اقتصادي صافٍ يلتهم مليارات الدنانير سنوياً، بينما تعمل شركات التبغ العالمية على استغلال هذا التضارب المالي لتعطيل تطبيق السياسات الصحية الوقائية.
الأردن: عاصمة التدخين العالمية وتحدي الصحة العامة
لطالما اعتُبر التدخين في الأردن جزءاً من "الثقافة الترويحية" ، وهو ما ساهم في تفشي الظاهرة بمعدلات تقلق المجتمع الدولي. إن معدلات انتشار التدخين في الأردن هي من بين الأعلى عالمياً وإقليمياً.
الإحصاءات الصادمة: تفكيك أرقام الانتشار الكارثية
تكشف الإحصائيات الوطنية عن مشهد وبائي يهدد القوى العاملة الأردنية بشكل مباشر. تبلغ نسبة انتشار التدخين بين الذكور في الأردن مستوى كارثياً عند 71.2% ، مما يضع عبئاً ديموغرافياً هائلاً على مستقبل الإنتاجية وتكاليف الضمان الاجتماعي. هذه النسبة المرتفعة للغاية تضمن استدامة تدفق الأمراض المزمنة إلى النظام الصحي لعقود قادمة.
علاوة على التبغ التقليدي، تشهد المملكة تحولاً مقلقاً نحو المنتجات الحديثة وتأنيثاً للإدمان. يكشف المسح أن 14% من المشاركين يدخنون النرجيلة، والغريب أن 54% من مدخني النرجيلة هم من الإناث. هذا يشير إلى أن النرجيلة، بقبولها الاجتماعي النسبي مقارنة بالسجائر التقليدية، أصبحت بوابة رئيسية لانتشار الإدمان بين الإناث، مما يزيد من تعقيد الأزمة الصحية الشاملة. أما السجائر الإلكترونية، فيستخدمها 7.2% من المدخنين، أغلبهم من الذكور بنسبة 79.3%.

رغم هذه المعدلات، هناك طلب خفي على الإقلاع عن التدخين؛ إذ أفاد 37% من المشاركين أنهم حاولوا الإقلاع خلال الاثني عشر شهراً الماضية. هذا الرقم يبرز وجود شريحة واسعة من المدخنين ترغب في التحرر من الإدمان، ولكنه يضع علامة استفهام حول كفاية وفاعلية خدمات الإقلاع الحكومية المتاحة لتلبية هذا الطلب الصحي الملِح.
الوباء الكامن: التعرض المنهجي للتدخين السلبي والفشل المؤسسي
يعد ضعف تطبيق القانون مؤشراً مباشراً على التراخي المؤسسي. تظهر الدراسات أن 80% من البالغين في الأردن معرضون للتدخين القسري (التدخين السلبي) ، وهو ما يتناقض بشكل صارخ مع قانون الصحة العامة الذي يحظر التدخين في الأماكن العامة.
تتفاقم المشكلة داخل المؤسسات الحكومية والتعليمية التي يفترض أن تكون قدوة في تطبيق القانون. تم رصد انتهاكات مروعة، حيث شوهد التدخين في 70% من مباني الجامعات، و44% داخل المؤسسات والمكاتب الحكومية، وحتى في 33% من المرافق الصحية نفسها.

أحد أبرز مؤشرات الانهيار في الثقافة التنظيمية المتعلقة بالرقابة هو الكشف عن أن 70% من موظفي أمانة عمان الكبرى هم من المدخنين. إن هذه المؤسسة تحديداً، وهي المسؤولة عن مبادرات مثل "عمان مدينة صحية" وتطبيق دليل التفتيش على التبغ، تعاني من معدلات إدمان مرتفعة بين صفوف منفذي القانون.
هذه الحالة تخلق ثقافة تنظيمية تقوض الرقابة وتجعل من المستحيل عملياً على الموظف غير المقلع عن التدخين أن يطبق غرامات صارمة على الجمهور. بالتالي، فإن تطبيق قانون الصحة العامة، رغم أهميته النظرية، يظل مشلولاً في الواقع العملي.

مفارقة الخزانة: إيرادات قصيرة الأجل وخسائر طويلة الأجل
إن النقطة المحورية في الأزمة الأردنية هي التناقض الجوهري بين ما تجنيه الدولة من ضرائب التبغ وما تدفعه من تكاليف لعلاج آثاره. لقد أصبحت سياسة التبغ في الأردن سياسة مالية في المقام الأول، تدور حول تحقيق الإيرادات، بدلاً من أن تكون سياسة صحية وقائية.
إدمان الخزانة على التبغ: تحليل الإيرادات
تقارب حصة الحكومة من ضريبة الدخان المليار دينار أردني سنوياً ، وهو ما يعادل تقريباً 1.41 مليار دولار أمريكي. يمثل هذا المبلغ شرياناً مالياً حيوياً تستخدمه الحكومة لسد فجوات الميزانية، مما يفسر سبب الجدل المستمر الذي يرافق أي إعلان عن تغيير في الأسعار أو الضرائب. ولتحقيق إيرادات إضافية بالتوازي مع مكافحة الانتشار المتسارع للتدخين الإلكتروني بين فئة الأطفال، أقرّت الحكومة في عام 2024 نظاماً معدلاً للضريبة الخاصة، تم بموجبه رفع أسعار علب السجائر بواقع 100 فلس.
الحسابات الخفية: الخسارة الاقتصادية الصافية
عند مقارنة الإيرادات بالتكاليف، ينهار الادعاء بأن التبغ يمول نفسه. إن تكلفة علاج الأمراض الناتجة عن تعاطي التبغ تقدر بنحو 2.1 مليار دولار أمريكي سنوياً ، وهو ما يعادل حوالي 1.42 مليار دينار أردني. هذا يعني أن إيرادات الضريبة (1 مليار دينار) لا تغطي حتى التكاليف المباشرة للعلاج (1.42 مليار دينار)، مما يخلق عجزاً سنوياً فورياً لا يقل عن 420 مليون دينار يتحملها القطاع الصحي الحكومي.
ولكن العبء الحقيقي أكبر من ذلك بكثير. تشير التقارير إلى أن إجمالي الخسائر الاقتصادية السنوية للأردن بسبب تعاطي التبغ، والتي تشمل تكاليف الرعاية الصحية وفقدان الإنتاجية والوفيات المبكرة، تبلغ 1.6 مليار دينار أردني. النتيجة الصافية هي أن كل دينار تجمعه الخزانة من التبغ، يكلف الاقتصاد الأردني 1.6 دينار في المقابل، مما يجعل التبغ مثبطاً كبيراً للنمو الاقتصادي الوطني (Economic Drag).
يوضح الجدول التالي التناقض المالي الصارخ الذي يواجهه الاقتصاد الأردني:
| المؤشر المالي | القيمة (مليار دينار أردني) | القيمة (مليار دولار أمريكي) | دلالة المقارنة |
| إيرادات ضريبة التبغ للخزينة | ~1.00 مليار | ~1.41 مليار | الشريان المالي للحكومة. |
| تكلفة علاج الأمراض المباشرة | ~1.42 مليار | ~2.10 مليار | تتجاوز الإيرادات الضريبية بـ 420 مليون د.أ.
| إجمالي الخسائر الاقتصادية السنوية | 1.60 مليار | ~2.26 مليار | العبء الكلي (إنتاجية وعلاج). |
| صافي الخسارة الاقتصادية السنوية | (0.60 مليار) | (0.85 مليار) | صافي سحب من الناتج المحلي الإجمالي يذهب للتبغ.

لوبي التبغ: التغلغل في دهاليز صناعة القرار
رغم أن الأردن كان من أوائل دول إقليم شرق المتوسط التي صادقت على الاتفاقية الإطارية لمنظمة الصحة العالمية لمكافحة التبغ (FCTC) عام 2004 ، فإن الالتزام بتطبيق بنودها، وخاصة المادة 5.3 التي تهدف لحماية السياسات الصحية من مصالح صناعة التبغ، لا يزال متراخياً.
رصد التدخل: مؤشر صناعة التبغ
يؤكد إطلاق تقرير مؤشر تدخل صناعة التبغ الخامس لعام 2025 في الأردن أن تدخل الصناعة في السياسات العامة ليس حادثاً عرضياً، بل هو قضية هيكلية ومنهجية. يهدف هذا التقرير إلى تزويد صانعي القرار بأدوات عملية للحد من هذا التدخل ، ولكنه يشير ضمناً إلى أن اللوبي نجح في التغلغل في المؤسسات الرسمية.
استراتيجيات الضغط: شرعنة الانتهاك واستغلال التهريب
لا تحتاج شركات التبغ دائماً إلى الضغط المالي المباشر؛ فغالباً ما يكون كافياً لها أن تضمن شرعنة الانتهاك داخل السلطات التشريعية نفسها. يظهر هذا بوضوح في الانتقادات الموجهة لأعضاء البرلمان الذين يدخنون السجائر داخل قاعات اجتماعات اللجان النيابية. هذا السلوك من قبل المشرعين يقوض سلطة قانون الصحة العامة ويوجه رسالة للجمهور مفادها أن الانتهاك مسموح به، مما يغذي ثقافة التراخي في التطبيق.
كما تستخدم الشركات معضلة التهريب كورقة مساومة فعالة. فبعد الزيادات الضريبية (على السجائر التقليدية والإلكترونية) ، ازدهر السوق غير القانوني، حيث أدت الفجوة بين الأسعار الرسمية وأسعار التهريب إلى زيادة الطلب على المنتجات غير الخاضعة للرقابة الصحية.
وقد وثقت دائرة الجمارك الأردنية ضبطيات كبيرة شملت 2,130 سيجارة إلكترونية و13,800 عبوة من سوائل الفيب، بالإضافة إلى 13,100 كروز دخان مهرب. تُستغل نتائج هذه الضبطيات من قبل اللوبي للضغط على الحكومة، مروّجاً للرأي القائل بأن أي زيادة ضريبية وقائية إضافية ستؤدي حتماً إلى تآكل إيرادات الخزينة بسبب التهريب. بهذه الطريقة، ينجح اللوبي في تحويل السياسة الضريبية من أداة وقائية إلى مجرد عملية مالية حذرة لا تهدف إلى خفض الاستهلاك.
الأثر الصحي الحقيقي: التدخين وعبء السرطان
إن الأرقام المذهلة لانتشار التدخين بين الذكور (71.2%) تمثل وقوداً مستداماً لارتفاع معدلات الأمراض غير السارية في المملكة. يعتمد التحليل الصحي على بيانات موثقة من السجل الوطني للسرطان لعام 2022 ، والذي يوضح أن معدلات الإصابة تستمر في التزايد، خاصة في السرطانات المرتبطة مباشرة بالتبغ مثل سرطان الرئة والحنجرة والمثانة.
إن التكاليف السنوية التي تبلغ 1.42 مليار دينار لعلاج الأمراض ، لا تشمل فقط سرطانات المدخنين، بل تشمل أيضاً أمراض القلب والرئة المزمنة (NCDs)، والتي تتطلب إنفاقاً صحياً مكلفاً ومستمراً على مدى سنوات طويلة من حياة الأفراد المنتجين. كما أن التعرض القسري للتدخين السلبي بنسبة 80% يفرض عبئاً صحياً غير عادل على الأطفال وغير المدخنين، مما يزيد من معدلات الربو والتهابات الجهاز التنفسي المزمنة في المجتمع. إن هذا الارتباط بين التدخين والأمراض المزمنة يفسر بشكل مباشر جزءاً كبيراً من الـ 1.6 مليار دينار التي يفقدها الاقتصاد سنوياً نتيجة الوفيات المبكرة وفقدان الإنتاجية.

السياسات المضادة والتحول المطلوب: نحو صحة مستدامة
لتحقيق تحول حقيقي في مكافحة التبغ، يتطلب الأمر قراراً سياسياً لكسر حلقة الإدمان المالي والضعف التنظيمي. يجب أن تتحول السياسة الضريبية من كونها أداة لتحقيق الإيراد إلى أداة لخفض الاستهلاك.
إعادة صياغة الإستراتيجية الضريبية وتخصيص الإيرادات
يجب أن تهدف أي زيادة ضريبية جديدة إلى تحقيق الوقاية أولاً. والأهم من ذلك، يجب على الحكومة أن تتبنى آلية "التخصيص المالي المشروط" (Earmarking) لإيرادات التبغ. بمعنى، يتم تأسيس صندوق وطني لمكافحة التبغ يمول حصرياً من ضريبة الدخان (المليار دينار سنوياً). يجب استخدام هذا الصندوق لتمويل حملات توعية مكثفة، وتعزيز الرقابة الجمركية، وتوفير برامج الإقلاع عن التدخين بأسعار مدعومة أو مجانية لتلبية طلب الـ 37% من المدخنين الذين يسعون للإقلاع. إن تخصيص هذه الأموال سيضمن أن كل دينار يتم تحصيله من التبغ يعاد استثماره بشكل مباشر في تقليل تكاليف العلاج البالغة 1.42 مليار دينار.
فرض القانون والقيادة القدوة
يجب تعزيز إنفاذ قانون الصحة العامة لعام 2008 بصرامة، ولكن يجب أن يبدأ هذا الإنفاذ من الداخل. يجب على المؤسسات الحكومية، لا سيما تلك المسؤولة عن المبادرات الصحية مثل أمانة عمان الكبرى، أن تفرض عقوبات داخلية صارمة على الموظفين المدخنين (كموظفي الأمانة الذين تبلغ نسبتهم 70% ). لا يمكن للمسؤولين أن يطالبوا الجمهور بالامتثال في حين يمارس الموظفون الانتهاك داخل المكاتب الرسمية. كما يجب محاسبة النواب والمسؤولين الذين ينتهكون القانون داخل قاعاتهم التشريعية، لتعزيز القيادة القدوة والقضاء على شرعنة الانتهاك.
كما يتطلب الأمر تطبيق آليات شفافة لضمان الحماية الكاملة لصانع القرار من تدخلات صناعة التبغ، وفقاً لمتطلبات المادة 5.3 من الاتفاقية الإطارية لمكافحة التبغ. يجب دعم جهود المجتمع المدني ومركز الحسين للسرطان في مراقبة هذا التدخل وتقديم تقارير سنوية غير حكومية لرفع مستوى المساءلة.
يواجه الأردن تحدياً : هل سيستمر في اعتبار ضريبة التبغ "إيراداً سهلاً" يدفع ثمنه المواطن من صحته وميزانية الدولة، أم سيتخذ قراراً سياسياً جريئاً بكسر هذه الدورة؟ إن الأرقام واضحة: التبغ يمثل خسارة اقتصادية صافية لا تقل عن 600 مليون دينار سنوياً، وهذا التبذير المالي يتفاقم مع تزايد عبء السرطان والأمراض المزمنة. التحول نحو الصحة المستدامة ليس خياراً أخلاقياً فحسب، بل هو ضرورة اقتصادية عاجلة تتطلب التضحية بالإيراد قصير الأجل لإنقاذ الاقتصاد والصحة على المدى الطويل.












































