ما ثمن هذه الدماء في الأردن؟

الرابط المختصر

طالب الأردنيون، مرّات، بالتغيير، وأكّدوا، في غير مناسبة، أنهم لا يرغبون بتغيير الوجوه، وإنما بتغيير حقيقي في النهج العام، وإجراء إصلاحات سياسية واقتصادية شاملة. ولكن يبدو أنهم صاروا، أخيرا، يطالبون بتغيير الوجوه أيضا.

في منزل أحد شهداء الأجهزة الأمنية الذين قضوا في مواجهات ضمن تصدّيهم لممارسات غير سلمية ضمن الاحتجاجات أخيرا، والتي بدأت بإضراب شاحنات النقل في جنوب الأردن، احتجاجا على رفع أسعار المحروقات، قال أحد أبناء أكبر القبائل الأردنية (بني حسن)، مخاطبا الملك عبدالله الثاني وأمام حاشيته "دونك أنت، لا نثق بأي أحد من بطانتك، ونطلب منك تغييرها جميعا".

هي الثقة إن فقدت لا يمكن استردادها بسهولة، وفقدها أشدّ وطأة في عالم السياسة وإدارة الحكومات ودوائر الحكم بالمجمل، ولن يكون أي ثمن باهظا مقابل عدم التفريط بها، وهو ما لم تقم به الحكومة الحالية التي اختفى رئيسها من المشهد تماما، كعادته في المواقف والوقائع الحسّاسة.

في الأردن اليوم، كيف يثق المواطن بحكومته بعد صمتها، بل إهمالها مشاهد المطالب الاجتماعية والاقتصادية التي يرزح تحتها أصحاب الدخل المحدود، بل المعدوم. وقد أفاق الأردنيون والأردنيات، بعد كل هذه المدة، على دماء أبناء منهم أريقت في مواجهة خارجين عن القانون، تكفيريين، سمّهم ما شئت، لكنهم بالتأكيد تسلّلوا عبر بوابة واسعة من الاستهتار والتعنّت الحكومي إزاء مطالب عادلة لأردنيين يعانون ما يعانون من ألوان الفقر والقهر معا، وتردّي أوضاع معيشية وارتفاع نسب البطالة وبين ارتفاع جنوني للأسعار.

 

كل ما يقال عن التمكين الاقتصادي على لسان الحكومة، وحتى عبر مؤسسات المجتمع المدني، حوار وثرثرة

 

"سلسلة التوريد" حقل ألغام، وهي من أخطر المحاور الذي يمكن التضحية بالضغط عبرها مقابل أن تتمسّك حكومةٌ برأي غير مفهوم عن سؤال يومي للناس عن آلية تسعيرة المشتقّات النفطية، اللغز الكبير الذي يحاول المواطن الأردني فكّه منذ سنوات، وتترك حافلات الشحن وأصحابها في العراء. وهنا لا أضع توقعا أو تخمينا لخطر "مندسّين، مهرّبين، أصحاب سوابق" بين الذين اعتصموا في منطقةٍ تعدّ الأسخن في المملكة، مدينة معان التي لا نعرف إن كانت ابتليت هي وألصقت بها تهمة الإرهاب، أم ابتلي الأردنيون بإرهابٍ التصق بها؟

من يعرف جنوب الأردن جيدا، ومنهم وزير الداخلية نفسه الذي لم يغادر قريته هناك منذ زمن بعيد، وتصدى للقول، بلسان حكومته، إنها تتحمّل أعباء الصرف على البنية التحتية، يعرف أن مدن الجنوب تتشابه فيها القرى ببنياتها التحتية، وهي شبه قاحلة، لا مدارس مؤهلة فيها، ولا خدمات صحية كافية فيها، وبالتأكيد لا وظائف لأبنائها، ولا مشاريع إنمائية توفّر فرص عمل كافية، فكل ما يقال عن التمكين الاقتصادي على لسان الحكومة، وحتى عبر مؤسسات المجتمع المدني، هو حوار وثرثرة تنفيذا لمتطلبات مشروعٍ هدفه التمكين، ووسيلته أن ينظّر على الشباب الباحث عن فرص عمل بأن عليه أن يفكّر خارج الصندوق، لكي يجد لنفسه فرصة عملٍ غير موجودة أصلا.

ليس شمال المملكة أفضل حالا، بل مختلف المناطق خارج حدود العاصمة عمّان، وحتى في العاصمة نفسها تعاني أحياء فيها ما تعانيه قرى وبوادٍ ومخيمات خارجها. وهذا ما يدفع إلى تراجع الثقة بالحكومات، بل فقدانها، خصوصا إذا ما قرأ المواطن ما صرّح به السفير الأميركي في الأردن، هنري ووستر، أخيرا، من أن "الولايات المتحدة أكبر مزود المساعدات الخارجية للأردن منذ عام 1946 أي منذ قرابة 76 عاما، وخلال هذه الفترة تم تقديم ما مجموعه 17 مليار دولار مساعدات للأردن". ولا يظنّ واحدنا أن أيّا من الأردنيين الذين لم يلمسوا على أرض الواقع تأثير تلك الملايين يثق بأن المليار الأميركي المقبل حتى عام 2029 سيغيّر في واقعهم شيئا، مع عدم الحديث هنا عن المساعدات والمنح العربية والأوروبية المستمرّة للأردن منذ عقود.

نعم، لا بد لأي حكومة من مصاريف وموازنات تستهلك إيرادات ومساعدات كثيرة. ولكن لا يعقل أن يتحول هذا الاستهلاك وحشا يفترس الأخضر من مؤسسات وبنية تحتية وسياسية وإدارية أنجزت، ويحرق ما تبقى وشوهد يجفّ خلال العشرين عاما الماضية. .. المطلوب حكومات تأتي من بين المواطنين أنفسهم تعيش أحوالهم نفسها، تعرف كيف تسمع جيدا للناس، ولما يقولونه عند وقوف أحدهم عند محطة وقود لشراء بنزين، أو صيدلية لشراء دواء، أو عندما يفاضل بين حق ابنه بالتعليم أو الحياة.

عاد السائقون إلى شاحناتهم، والموظفون إلى أعمالهم، ولكن المعتقلين لم يعودوا إلى أبنائهم، ولن تعود الثقة بحكومات مضت وحكومة ستمضي وأخرى ستأتي، إن لم يتغير النهج ويتحوّل إنشاء قصائد الإصلاح ولجانه إلى فعل حقيقي. لن يعود الشهداء إلى عائلاتهم، وتبقى نار السؤال تثور في صدور أمهاتهم كل صباح، مع تسليمنا جميعا بالقضاء والقدر: لماذا كل هذا الدم، وما الثمن الذي دفعناه لأجله؟