ليتني أرى صورة آلان لأستريح
قال لي صديقي وهو يحدثني بمرارة عن صورة الطفل السوري الغريق: "الحمد لله أنك كفيف... آه لو شفته... نيالك...". احترمت ما استثارته الصورة التي رآها في نفسه من مشاعر حزن وغضب وإحباط فلذت معه بصمت العاجزين. والآن أقول له، ليتني أرى صورته كما تراها يا صاحبي لتطرد أشباح خيالي التي تعرض لي تفاصيل لم ترها في مواقع التواصل الاجتماعي ولا على شاشات التلفزة. صديقي، هل رأيت صورته وملامح الفزع تعلو جبهته الصغيرة التي تلاطمت خصلات من شعره الناعم عليها مع كل هبّة ريح عاتية تلاعبت بقارب الموت الذي حمله وأسرته؟ هل عايشت براءة العالم ووحشية أقداره في ضحكاته لأن اهتزاز القارب ذكّره بألعاب مدينة الملاهي قبل أن يُدرِك أنوحشاً كالذي يراه في أفلام الكرتون يهمّ بالخروج من الماء ليبتلعه؟ هل لاحظت تحوّل قسمات وجهه من ضحك إلى دهشة ففزع يدمي القلوب مع اشتداد الموج وتعالي صراخ وصيحات الغرقى من حوله؟ هل رأيت أصابعه الصغيرة وهي تنغرس في ذراع والده فتمسك بقوة تارةً وتنفلت تارةً أخرى كلما زادت رعشته من الخوف مع اشتداد تأرجح القارب؟ هل سمعت صوته الصغير وهو يحاول عبثاً شقّ ضجيج الريح وهدير تلاطم الأمواج ليصل لأذن أبيه ويسأل: "بابا ليش هيك؟"؟ هل رأيت جسده الصغير وهو ينزلق وأنامله الصغيرة تطبق على الهواء باحثةً عن كُمّ قميص أبيه لتمسك به ولكن هيهات؟هل رأيت أي جزء من جسده بدأ البحر في ابتلاعه؟؟ هل رأيتهكيف غاص ثم طفى ثم غاص ثم طفى ثم وجهه يجتاحه سؤال ليس له إجابة ولا حتى في السماء: "ليش هيك؟" ثم غاص ليَظهَر على الشاطئ مصوّباً وجهه الملائكي إلى الأرض سائلاً ومعاتباً: "ليش هيك؟"؟ هل سمعتصوت غرغرة ماء البحر في فمه الصغيروهو يستنجد بأبيه فلايخرج منه سوى حرفين: "با... با...."؟ هل عددت كم مرةً ابتلعه البحر نحو الأعمق ثم قذف به إلى الأعلى ليُظهِر للحظة جزءً من رأسه الحالم وموج الله يقذف به ذات اليمينوذات الشمال قبل أن يلقيه على الشاطئ؟ هل رأيت قطعةً من حطام قارب طافيةً بجواره وهي ترتطم بكتفه الصغير أو بساقه المثنيّة إلى الأعلى فتثقب بنطاله ولكنه لا يبكي حزناً عليه ولا يشكوها لأمه؟ هل لاحظت في الصورة المتداولة ذراعاه تمتدان وأصابعه الصغيرة بها انثناءة بسيطة كأنها لا زالت تبحث عن ذراع تتشبث به؟ هل رأيت آخر صورة تخيّلها قبل غرقه عن ألعاب ومدرسة وحديقة وبيت كبير وشكولاتا حدثه أبواه عنهاوهم في طريقهم إلى اليونان؟ هل شعرت ببرودة الماء التي بللت ثيابه وشعره؟ هل لمست الطين الذي تشكل تحت جسده الصغير وهو ملقى على رمال احتضنته كما لم يحتضنه بشر؟ ليتني أرى ما تراه فقط فلربما تمكنت من النوم ولو قليلاً. ولكن مهلا صديقي، يمكنك أن تحسدني على أنني لا أرى وجوه عليها غبرة ترهقها قترة، وجوه شياطين وسلاطين المال الذين حيثما مال الإجرام والإرهاب هواهم مال، وجوه أَلّهَت من قبل تجار الحشيش والأفيون في أفغانستان وسمتهم "مجاهدين" وحاكت لهم "الكرامات" واخترعت لهم "المعجزات"، وجوه علّمت وربّت مجرمين عجزت عقولهم عن استيعاب أفضلية أمم علينا فقادوا طائرات بركابها الأبرياء وهدموا ما بناه الآخرون بجدهم وتعبهم وهدموا معه مستقبل آلاف من المهاجرين من أبناء جلدتهم، وجوه تستبشر بلمعان السيف يهوي على رقاب الأبرياء وتطرب لصوت السوط على ظهور الرجال والنساء؟ وجوه لا ترى في المرأة سوى فَرْج ونهدين وطاعة وسجود كسجودهم ل"رب العالمين"، وجوه تدلّت منها لحى تهشّ للسلطان وتكتم أنفاس كل من يذود عن حقوق الإنسان، وجوه مُسفِرة إذا حضرت المُتَع والملذّات - عابسة مُستنفِرة إذا جَدَ الجِدّ وأزفت التضحيات، وجوه ليس فيها من البشر سوى الملامح ومن الإنسانية آثار خدوش أعملتها أظافر ضحية إفتُرِسَت بوازع من شهوة أو نشوة سطوة. صديقي، محظوظٌ أنا لأنني لم أرَ دموع "الكافرة بنت الكافر" وزيرة خارجية السويد وهي ترثي لحالنا، ولأنني لم أُشاهد ملامح وجه زميلتها "السافرة المُتَبَرِّجَة الكافرة" ميركل الألمانية وهي تُلَخِّص ماضينا وحاضرنا المُخجِل وتَكشِف سوءاتنا التي ما استترت يوما وهي تقول: "سنخبر أطفالنا أن أطفال سوريا هربوا إلينا ومكة أقرب لهم"؟ كلّا سيدتي، لو كان الأقرب يقاس بالجغرافيا لما فرّ أسلافنا إلى الحبشة ليستجيروا بملك يَقطَع المجاهدون الأشاوس اليوم رؤوس أحفاده ويمثلون في جثثهم. رَحَل آلان قبل أن يستشرف الحياة تاركاً وراءه دولاً بكى رؤساؤها ووزراؤها عليه ثم اجتمعوا ليفتحوا أبوابهم أوسع لمن خلفه من الأطفال والرجال والنساء، وفي الجهة الأخرى دولاً تستشعر "رجولتها" بقصف جيرانها وتجويعهم وتنشئة أجيال متعاقبة من الجلادين كارِهي الحياة وتمويلهم وتصديرهم إلى حيث دُفِن جسد آلان الصغير.