لماذا خسر الإسلاميون نقابة المهندسين؟..دراسة تجيب (رابط)

بينت دراسة بعنوان (نهاية هيمنة الإسلاميين؟انتخابات نقابة المهندسين في الأردن)أعدها الباحث في شؤون الجماعات الإسلامية د. حسن أبو هنية أسباب خسارة التيار الإسلامي في انتخابات نقابة المهندسين في 2022 والتي بدأت ارهاصاتها في الانتخابات السابقة  التي جرت عام 2018.

وحسب الدراسة التي نشرتها مؤسسة فريدريش إيبرت، "لم تكن خسارة الإسلاميين انتخابات نقابة المهندسين مفاجئة، فقد جاءت ضمن سلسلة من التحولات في علاقة الإخوان المسلمين بالحكومة من التحالف إلى العداء، في ظل تحول البيئة الجيوسياسية العالمية تجاه الإسلاميين وتحولات البيئة السياسية المحلية، فمسارات صعود وهيمنة الإسلاميين وطرائق التراجع  والانحدار، ترتبط بصورة وثيقة بالسياقات السياسية الدولية والمحلية والسياسات الدينية، وهو ما ينعكس على هيكلية وإيديولوجية الجماعة من خلال بروز الخلافات والانشقاقات الداخلية حول آليات الاستجابة والرد على مواقف وإجراءات الحكومة وأولويات الجماعة المرحلية والاستراتيجية، وهو ما يحدد مصطلحات الاعتدال والراديكالية والمحافظة داخل جماعة الإخوان المسلمين".

ويرى الباحث في الدراسة أن "خسارة الإسلاميين، في انتخابات نقابة المهندسين الأخيرة جاءت في سياق تبدّل العلاقة بين الإخوان المسلمين والحكومة، والتي تدرجت منذ نهاية الحرب الباردة 1990،  وبلغت أوجها عقب انتفاضات "الربيع العربي" والحراكات الشعبية الأردنية 2011، إذ سرعان ما تحول الربيع العربي من فرصة سانحة لتحقيق طموحات جماعة الإخوان المسلمين بالمشاركة في الحكم إلى مجرد الحفاظ على شرعية بقاء ووجود الجماعة، فقد أفضت الظروف الاستراتيجية الدولية والتحولات المحلية الجديدة إلى تبدل التعامل مع جماعة  الإخوان المسلمين من كونهم جماعة معتدلة، إلى جماعة ميسرة للتطرف والعنف، أو اعتبارها منظمة  إرهابية، حيث صنّفت الجماعة منظمة إرهابية في عدة دول عربية،  وفي مقدمتها مصر والسعودية والإمارات".

 

وحسب الدراسة التي تنشرها عمان نت أن خسارة الإسلاميين لانتخابات المهندسين عززت من قناعة جماعة الإخوان المسلمين بوجود قرار حكومي بإقصاء الجماعة والحد من نفوذها وهيمنتها،  وهو ما يطلق عليه حزب جبهة العمل الإسلامي  الذراع السياسي للجماعة  "الإستهداف الممنهج"، وكان الحزب قد أعلن عن  تعليق مشاركته في انتخابات مجالس البلديات والمحافظات ‏وأمانة عمان لعام 2022، نظراً ‏لما اعتبره الحزب تراكماً للممارسات السلبية من قبل الجانب الرسمي واستمرار نهج الإقصاء ‏والتضييق والاستهداف ‏السياسي.

 

 

وحسب أبو هنية الى أن طريق تراجع هيمنة الإسلاميين على النقابات  يشير إلى لحظة  انحسار موجة "الربيع العربي" 2011، وتراجع وتيرة الحراكات الاحتجاجية الأردنية،التي أفضت إلى تبدل الظروف الجيوسياسية الدولية، وبروز تحولات في السياسية المحلية، والتي أدت إلى تغيّر النظرة الحكومية إلى جماعة الإخوان المسلمين، فقد تحولت النظرة الدولية إلى جماعة الإخوان من كونها جماعة معتدلة إلى حركة ميسرة للتطرف العنيف، وأعيد تعريف الإخوان منظمة إرهابية في عدة دول عربية، ورغم عدم تصنيف الجماعة في الأردن منظمة إرهابية، فقد أصبحت الجماعة تعرّف كعنصر تهديد وليس عامل استقرار، فعندما كانت الحركة الاحتجاجية في الأردن تلفظ أنفاسها عقب عامين على فعالياتها، أدلى الملك عبد الله الثاني لمجلة ذي أتلانتيك الأميركية في 20 آذار/ مارس 2013، بتصريح  يلخص فيه رؤية المملكة لمستقبل جماعة الإخوان المسلمين في الأردن ما بعد الربيع العربي، حيث وصف فيها الإخوان المسلمين بأنهم: "ذئاب في ثياب حملان"، واتهمها بتلقي الأوامر من قيادة الجماعة في القاهرة".

 

يتابع إن تراجع الإسلاميين وخسارتهم الانتخابات الأخيرة  لنقابة المهندسين، والتي فرض الإخوان سيطرتهم  علىها  لمدة 26 عاماً، برزت ارهاصاتها في الانتخابات السابقة  التي جرت عام 2018،  مع تبدل التحالفات الحكومية بوضوح تجاه مكون جديد، حيث استطاع  تحالف نقابي واسع  عماده مهندسي التغيير من الجيل الشاب، ومختلف القوى اليسارية والقومية والمستقلين تحت عنوان التيار النقابي المهني الوطني "نمو"، من كسر هيمنة الجماعة على النقابة، في اقتراع انتخابات مجلس نقابة المهندسين بدورتها الثامنة والعشرين للأعوام 2018-2021، وحصلت قائمة "نمو" على 6 مقاعد؛ من بينها النقيب ونائبه، مقابل حصول قائمة "إنجاز" الممثلة للإخوان على 4 مقاعد، وحصد أحمد سمارة الزعبي، المرشح عن قائمة نمو، منصب نقيب المهندسين بـ 7933 صوتا في الانتخابات، متقدماً على مرشح قائمة الإخوان وحلفائهم من الإسلاميين "إنجاز" النقيب الأسبق، عبد الله عبيدات، الذي حصل على 6790 صوتاً. بينما ذهب مركز نائب النقيب إلى المهندس فوزي مسعد، الذي حصد دعم 7717 من المشاركين.

وحسب الباحث"رغم كسر هيمنة الإسلاميين فقد اعتبرت جماعة الإخوان المسلمين أن ذلك لا يُعدّ تراجعا للتيار الإسلامي في النقابات نظراً لنجاح التيار الإسلامي في كل الانتخابات الطلابية والنقابية الأخرى التي جرت في نفس العام، إلى جانب أن قائمة "إنجاز" الإخوانية ما زالت تحتفظ بالأغلبية الساحقة في الهيئة المركزية والشعب الهندسية، إضافة إلى 40% من مجلس النقابة"، لكن الجماعة اعترفت أن "النزاع الداخلي داخل جماعة الإخوان كان له أثر ودور ولو بسيط جداً، من خلال انشغال قيادة الحركة في معارك داخلية، بدلاً من تحشيد الإخوان وتفعيلهم وحشد التيار الإسلامي عموما".

 

طالع كامل الدراسة: 

  

(نهاية هيمنة الإسلاميين؟انتخابات نقابة المهندسين في الأردن)

حسن أبو هنيّة

 مقدمة

عقب الانتهاء من استحقاق انتخابات فروع نقابة المهندسين الأردنيين في المحافظات، في  18 فبراير/ شباط 2022، لانتخاب نقيب ونائب نقيب وأعضاء مجلس النقابة بدورته التاسعة والعشرين للأعوام 2022-2025، وبعد الإعلان عن فوز قائمة التيار النقابي المهني الوطني "نمو" ( تحالف يضم تيارات: وسط، يساريون، قوميون، دولة مدنية). بمقاعد الانتخابات الفرعية للنقابة في جميع المحافظات، أعلنت في  اليوم التالي القائمة النقابية الموحدة (تحالف يضم: القائمة البيضاء، الإخوان المسلمين، والإسلاميين المستقلين) في نقابة المهندسين الأردنيين، الانسحاب من انتخابات مجالس الشعب الهندسية وانتخابات مجلس نقابة المهندسين في مراحلها التالية، وهي انتخابات مجالس الشعب الهندسية وانتخابات مجلس النقابة، ووصفت القائمة الموحدة ما حدث في انتخابات فروع نقابة المهندسين بـ"تدخل رسمي والتفاف على إرادة المهندسين من خلال التدخلات الخارجية، وسوء إدارة وتنظيم، وعدم ضمان حرية ونزاهة وسرية الانتخابات، وهو ما أصبح واضحاً لكل من تابع هذه الانتخابات"[1].

من جهته، رد رئيس لجنة إدارة انتخابات نقابة المهندسين الأردنيين، على الاتهامات، بوجود تلاعب بالقول: إن عملية انتخابات النقابة جرت بكل يسر وحرفية، وتمت العملية بإشراف وإدارة لجان تم انتخابها من قبل الهيئة العامة، موضحاً أن عملية الفرز إلكترونية بالكامل[2]. وقد أكد مجلس نقابة المهندسين أن الانتخابات، كانت نزيهة وحيادية ولم يكن هناك أي تدخلات او خروقات او اختلالات من أي نوع كان، وأن الادعاء بالتدخلات الرسمية في العملية الانتخابية، لا يوجد ما يسندها من دلائل ووثائق، ما يجعلها ادعاءات باطلة هدفها التشويه على العملية ونتائجها. وعبر المجلس عن أسفه حول الادعاءات الباطلة التي تحاول تشويه العملية الديمقراطية ومقاطعة الانتخابات من قبل الزملاء بالقائمة النقابية الموحدة، مشددا على عدم قبوله الطعن بنزاهة وحيادية الاجراءات التي اتخذت من قبل لجان الاشراف على الانتخابات[3]. ومن جهته، كتب أحمد سمارة الزعبي رئيس قائمة "نمو"، في منشور له على موقع "فيسبوك"، إنّ "المهندسين على كامل مساحة الوطن أثبتوا أنّهم جديرون بكل احترام وتقدير، بصدق انتمائهم للوطن والتفافهم حول نقابتهم"، مضيفاً أنّ "عملية الاقتراع سارت بكل يسر وسهولة وضمن أجواء ديمقراطية وتنافس شريف"، ومتمنياً أن "تنسحب الأجواء السائدة على باقي الأطر النقابية المقبلة[4]".

 

كلمة السرّ؛ العلاقة مع الدولة

لم تكن خسارة الإسلاميين انتخابات نقابة المهندسين مفاجئة، فقد جاءت ضمن سلسلة من التحولات في علاقة الإخوان المسلمين بالحكومة من التحالف إلى العداء، في ظل تحول البيئة الجيوسياسية العالمية تجاه الإسلاميين وتحولات البيئة السياسية المحلية، فمسارات صعود وهيمنة الإسلاميين وطرائق التراجع  والانحدار، ترتبط بصورة وثيقة بالسياقات السياسية الدولية والمحلية والسياسات الدينية، وهو ما ينعكس على هيكلية وإيديولوجية الجماعة من خلال بروز الخلافات والانشقاقات الداخلية حول آليات الاستجابة والرد على مواقف وإجراءات الحكومة وأولوبات الجماعة المرحلية والاستراتيجية، وهو ما يحدد مصطلحات الاعتدال والراديكالية والمحافظة داخل جماعة الإخوان المسلمين.

تقوم أطروحة هذه الورقة على أنّه بين سرديتي نزاهة وتزوير انتخابات نقابة المهندسين، ومقولات صعود وأفول الإسلام السياسي في المجال العام[5]، تتموضع الحكومة كفاعل رئيس في تحديد قواعد اللعبة السياسية، وبناء وإلغاء التحالفات الاجتماعية، وحدود وأطر الهيمنة الإيديولوجية، بما تملكه من سلطة سيادية قانونية وأجهزة أيديولوجية ومؤسسات تنفيذية، إذ ترتبط مشاركة وهيمنة الإسلاميين على النقابات المهنية وتمدد الجماعة وانحسارها داخل مؤسسات المجتمع المدني منذ نحو ربع قرن بالتحالفات التاريخية مع الحكومة المبنية على المصالح المشتركة، التي  تعتمد على معطيات الظروف الاستراتيجية الدولية والتحولات السياسية المحلية.

مع تغيّر تلك الظروف وتحولها،  كانت تتبدل التحالفات، فقد تزامنت سيطرة الإخوان المسلمين على النقابات المهنية مع حقبة الانفتاح والديمقراطية عام  1989، التي تلتها رفع حالة الأحكام العرفية عام 1992، حيث برزت الجماعة  كقوة سياسية أولى في البلاد دون منازع،  وهو ما ظهر من خلال الانتخابات النيابية التي جرت في تشرين الثاني/ نوفمير 1989، فقد استثمرت الجماعة البنية التحتية التي وفرها النظام في المساجد والمدارس والجامعات والجمعيات والنقابات، على خلاف الأحزاب القومية واليسارية  التي كانت ما تزال محظورة قانونياً، والتي افتقرت إلى تلك الميزة، ولذلك لم يكن من المفاجئ أن يفوز الإخوان المسلمين وحلفاؤهم من الإسلاميين المستقلين باثنين وثلاثين مقعداً من مجموع ثمانين مقعداً في البرلمان،  حيث ساهم انخراط الإخوان في مؤسسات المجتمع المدني بتحقيق  مزيد من النجاحات من البرلمان إلى النقابات، إذ أثمرت الخبرات التي اكتسبتها الجماعة داخل النقابات المهنية منذ منتصف السبعينيات بفرض الإخوان المسلمين سيطرتهم على النقابات المهنية الكبيرة إبان هذه الفترة، وفي مقدمة هذه النقابات، النقابة الأكبر والأكثر أهمية نقابة المهندسين، وقد شكلت جدلية المهني والسياسي جوهر الخلاف بين الحكومة والنقابات.

جاءت خسارة الإسلاميين، إذاً، في انتخابات نقابة المهندسين الأخيرة، وهنا بيت القصيد، في سياق تبدّل العلاقة بين الإخوان المسلمين والحكومة، والتي تدرجت منذ نهاية الحرب الباردة 1990،  وبلغت أوجها عقب انتفاضات "الربيع العربي" والحراكات الشعبية الأردنية 2011، إذ سرعان ما تحول الربيع العربي من فرصة سانحة لتحقيق طموحات جماعة الإخوان المسلمين بالمشاركة في الحكم إلى مجرد الحفاظ على شرعية بقاء ووجود الجماعة، فقد أفضت الظروف الاستراتيجية الدولية والتحولات المحلية الجديدة إلى تبدل التعامل مع جماعة  الإخوان المسلمين من كونهم جماعة معتدلة، إلى جماعة ميسرة للتطرف والعنف[6]، أو اعتبارها منظمة  إرهابية، حيث صنّفت الجماعة منظمة إرهابية في عدة دول عربية،  وفي مقدمتها مصر والسعودية والإمارات.

انعكست تلك المتغيرات الخارجية (بالإضافة بالطبع للأزمة المتدحرجة بين الدولة والجماعة منذ عقود) على نظرة الحكومة للجماعة وتم إعادة تعريفها، وهو ما سيدفع إلى تغيّر السياسة العامة والسياسة الدينية للحكومة، من خلال تبني استراتيجية متدرجة للحد من نفوذ الجماعة في أجهزة الدولة، وإضعاف هيمنتها على بعض مؤسسات المجتمع المدني عموماً والنقابات خصوصاً، وقد اتبعت الحكومة استراتيجية صبورة تقوم على نزع الشرعية السياسية والقانونية عن الجماعة، بإصدار قرار قانوني بحلها من أعلى سلطة قضائية في البلاد، وهي محكمة التمييز، حيث اعتبرت جماعة "الإخوان المسلمين" منحلة حكماً وفاقدة لشخصيتها القانونية والاعتبارية، فيما مُنيت الجماعة بانتكاسة كبيرة تحت قبة البرلمان بعد حصولها على 8 مقاعد فقط في الانتخابات البرلمانية الأخيرة عام 2020،  وهو العام الذي شهد  حلّ نقابة المعلمين بقرار قضائي، إثر أزمة طويلة مع الحكومة، بدعوى سيطرة جماعة "الإخوان المسلمين" عليها ومحاولة الاستقواء على الدولة[7].

عززت خسارة الإسلاميين لانتخابات المهندسين من قناعة جماعة الإخوان المسلمين بوجود قرار حكومي بإقصاء الجماعة والحد من نفوذها وهيمنتها،  وهو ما يطلق عليه حزب جبهة العمل الإسلامي  الذراع السياسي للجماعة  "الإستهداف الممنهج"، وكان الحزب قد أعلن عن  تعليق مشاركته في انتخابات مجالس البلديات والمحافظات ‏وأمانة عمان لعام 2022، نظراً ‏لما اعتبره الحزب تراكماً للممارسات السلبية من قبل الجانب الرسمي واستمرار نهج الإقصاء ‏والتضييق والاستهداف ‏السياسي[8].

ولذلك فإننا لن نخوض في تفاصيل التكتيكات التي تتبعها الحكومة والإخوان لفرض ونزع الهيمنة، فهي واضحة من خلال الاتهامات المتبادلة بين الطرفين، وما يهمنا هو الاستراتيجية العامة التي تحكمت تاريخياً في مسارات صعود وهيمنة الإخوان على مؤسسات المجتمع المدني والنقابات المهنية، والرؤية التي حكمت عمليات نزع الهيمنة وآليات انحدار وأفول الجماعة.

 

الإخوان والنقابات: مسارات الصعود والهيمنة 

اقتصرت أنشطة جماعة الإخوان المسلمين منذ نشأتها وتأسيسها عام 1946 على المجال الدعوي  والثقافي والخيري، فقد غلب على تكوينها وبنيتها وممارساتها الجانب الهوياتي الأخلاقي والإحيائي الديني، ولم تكن  الجماعة تولي  عناية كبيرة للعمل السياسي المباشر،  والعمل النقابي المهني، فقد ظهر الجيل الأول من النقابات في الأردن بعد الاستقلال سنة  1946 ثم وحدة الضفتين عام 1950، وذلك بعد صدور الدستور الأردني عام 1952 الذي نصت المادة (16/2) على أن: "للأردنيين حق تأليف الجمعيات والنقابات والاحزاب السياسية على أن تكون غاياتها مشروعة ووسائلها سلمية وذات نظم لا تخالف أحكام الدستور". ومنذ نشأه النقابات المهنية سيطرت عليها التيارات القومية والبسارية والشيوعية، وتنوعت أدوارها بين المهني والسياسي، وهي الإشكالية التي سوف تؤدي إلى أزمات متتابعة بين الحكومة والنقابات، حيث استأثرت النقابات المهنية بدور بارز في التعبير عن مصالح منسبيها وهيئاتها العامة في الحفاظ على المهنة وتطوريها والدفاع عنهم أمام الجهات الرسمية والمؤسسات الأخرى، وتم إصدار القوانين والأنظمة التي تحكم عمل النقابات المهنية وتمكنها من ممأسة عملها، وتمارس النقابات المهنية أعمالها بموجب قانون خاص يضم الأهداف التي تسعى النقابات إلى تحقيقها والصلاحيات الممنوحة له من أجل رعاية مصالح المنتسبين، وتنظيم المهنة وشروط مزاولتها  والحفاظ على العلاقات بينهم، والدفاع عن حقوقهم المهنية والمالية من خلال تمثيلهم أمام الجهات الرسمية[9].

تشكّل الجسم الرئيسي للنقابات المهنية في الخمسينيات من القرن الماضي، في ظل غياب التيارات الإسلامية، فخلال السنوات 1950 _ 1958، ظهر الجيل الأول من النقابات، حيث تأسست نقابة المحامين عام 1950، ثم نقابة أطباء الأسنان عام 1952، ثم نقابة الصحافيين عام 1953، وبعدها نقابة الأطباء عام 1954، ثم نقابة الصيادلة عام 1957 وبعدها نقابة المهندسين عام  1958، وفي أواخر الستينيات ومطلع السبعينيات ظهر الجيل الثاني من النقابات المهنية، حيث تأسست نقابة المهندسين الزراعيين عام 1966، وفي عام 1972 ظهرت أربع نقابات مهنية، وهي: نقابة الممرضين، ونقابة الأطباء البيطريين، ونقابة الجيولوجيين، ونقابة مقاولي الإنشاءات، وفي عام 1974 تأسست رابطة الكتاب، ثم تأسست نقابة المحاسبين القانونيين عام 1978، وظهرت نقابة الفنانين عام 1997، وتأسست نقابة المعلمين عام 2011.

شكلت النقابات المهنية في الأردن منذ تأسيسها ساحة بديلة للعمل السياسي، للأحزاب القومية واليسارية المحظورة، حيث شاركت النقابات بشكل فعّال في القضايا الوطنية العامة المحلية، وكان لها مواقف سياسية ثابتة من كافة القضايا الوطنية والعالمية والعربية والإسلامية، وخصوصاً القضية الفلسطينية، وقد ساهمت فترة  فرض الأحكام العرفية وتجميد الحياة السياسية الحزبية في الأردن منذ عام 1957 وحتى استئنافها عام 1989، بإعطاء النقابات المهنية دوراً كبيراً في صياغة الواقع الاجتماعي والسياسي الأردني، وساهم  ضعف دور الأحزاب السياسية التي ظهرت بعد حقبة الانفتاح والديمقراطية والتعددية عقب صدورر قانون الأحزاب عام 1992، باستمرار دور النقابات السياسي، حيث كان للنقابات مواقف سياسية داعمة ومنحازة لقضايا وهموم الشعب الأردني الأساسية.

لم تحظ النقابات المهنية باهتمام جماعة الإخوان المسلمين في مراحل نشأتها وتطورها الأولى في خمسينيات القرن الماضي، إذ لم تولي الجماعة أهمية كبيرة  للشأن  السياسي، وتركزت أنشطتها  في البداية على المجال الدعوي والتربوي والثقافي والخيري من خلال المساجد، باعتبارها جماعة دينية إحيائية، وتدرج اهتمام الجماعة بمؤسسات المجتمع المدني في حقبة الستينيات من خلال تأسيس المدارس ودور تحفيظ القران والجمعيات الخيرية التعليمية والثقافية والصحية والإغاثية، وتنامت أدوار الجماعة في حقبة السبعينيات من خلال الدخول إلى الاتحادات الطلابية،  فحسب إسحاق الفرحان انصب اهتمام الإخوان في الخمسينات على العمل الدعوي والتربوي، وفي الستينات على العمل الاجتماعي والخيري، وكان يطلق على مجمع النقابات داخل الجماعة "مجمع النفايات"، وهي كناية عن سيطرة التيارات اليسارية والقومية غير الإسلامية، وبدأت الجماعة تلتفت إلى أهمية التغلغل في النقابات  في منتصف السبعينيات[10]. وقد شكلت استراتيجية جماعة الإخوان المسلمين بعيدة المدى بالتغلغل داخل مؤسسات المجتمع المدني قلقاً بالغاً للنظام منذ تسعينيات القرن الماضي، وكان تغلغل الجماعة قبل ذلك يجري برعاية حكومية في إطار السياسة الدينية بتوظيف العامل الديني لمواجهة التيارات القومية واليسارية إبان الحرب الباردة،

شكلت حقبة السبعينيات من القرن الماضي بداية دخول الإخوان المسلمين مجال العمل النقابي المهني بصورة فردية، وليس بشكل مؤسسي ومنهجي، بل عن طريق جيل الوسط الشاب الجديد من المهنيين ممن ينتمي إلى التيار الإصلاحي داخل الجماعة، وكذلك الجيل الذي سوف يشكل التيار الرابع داخل الإخوان المرتبط بالمسألة الفلسطينية وقضية المقاومة، وقد وجد هذان التياران في البداية صعوبة باقناع الجماعة التي يسيطر عليها التيار الديني المحافظ المتشدد بضرورة العمل النقابي وأهميته السياسية والثقافية، فقد كانت القيادة المحافظة التي يهيمن عليها الاتجاه الديني من حملة شهادة الشريعة غير مهتمة بالنقابات، وكانت تفضل الاستمرار بالتركيز على العمل الدعوي  والخيري والتربوي، وبدأت النواة الأولى من الشخصيات الإخوانية  المهنية المشاركة في العمل النقابي في منتصف السبعينات،  وأخذت تتحرك بصورة فردية دون استراتيجية عمل  واضحة، إذ لم يكن يوجد لدى الجماعة أي لوائح وأنظمة خاصة  تحكم العمل النقابي، حيث غرست مجموعة من  المهندسين الإخوان من الشباب المهني  يذور العمل النقابي باجتهاد فردي داخل الجماعة، أمثال: إبراهيم غوشة، وعزام الهنيدي، وباسل الدجاني، ووائل السقا، واستندت  رؤيتهم إلى أن مؤسس الإخوان المسلمين حسن البنا، ومفكري الجماعة في مصر قدموا الأساس النظري لتمكين الجماعة في المجتمع، وأكدوا على ضرورة الانخراط في كافة مؤسسات المجتمع المدني، من أجل استئناف حياة إسلامية، وتأسيس  الدولة الإسلامية.

يُعد إبراهيم غوشة  أحد أهم  وأبرز الشخصيات الإخوانية التي أسست للعمل النقابي داخل جماعة الإخوان المسلمين في الأردن، وساهم بتمكينها وسيطرةتها لاحقاً على النقابات المهنية، فبعد عودته من العمل في الكويت بداية السبعينيات من القرن الماضي، انتظم غوشة بالعمل  مع المؤسسات التنظيمية  للجماعة، وأسندت إليه الجماعة مسؤولية رئاسة تيار الإخوان في نقابة المهندسين، وكانت التجربة الأولى للعمل النقابي الإخواني في مجلس النقابة التاسع الممتد في الفترة 1974- 1976، تتلمس بداية  تشكيل تيار إسلامي من خلال بناء تحالفات من المستقلين ذوي التوجهات الإسلامية، وتدرج اهتمام الإخوان بالعمل النقابي نتيجة ظهور جيل جديد داخل الجماعة من المهنيين الإصلاحيين، والمناضلين الذي بدأ يفرض أجندته ورؤيته وتصوراته على التيار المحافظ المتشدد الذي هيمن على قيادة الجماعة تاريخياً لاحتكاره المعرفة الشرعية الدينية، وتبنيه خط  أولوية الدعوة والعمل المسجدي، بينما جاء خط العمل النقابي امتداداً  طبيعياً لنشاط الجماعة الناجح  في مؤسسات المجتمع المدني عموماً، وخصوصاً نجاحهم  في تجربة الاتحادات الطلابية في الجامعات خلال السبعينيات من القرن الماضي[11].

رغم أن جماعة الإخوان المسلمين بدأت تولي عناية للعمل النقابي، وبدأت تتغلغل داخل النقابات المهنية، لكنها لم تحقق اختراقات كبيرة  في سبعينات وثمانينات القرن الماضي، والتي كانت تشكّل حينها "القوائم البيضاء" بالتحالف مع الإسلاميين المستقلين؛ فخلال معظم هذه الحقبة سيطرت "القوائم الخضراء" على النقابات الأردنية، وهذه القوائم كانت التعبير الرمزي عن ائتلاف واسع من القوى السياسية المنظمة، الأردنية والفلسطينية (اليسارية والقومية)، وقد شكلت التجربة  النقابية الإخوانية في مصر نموذجاً إرشادياً لإخوان الأردن،  حيث سارت الأخيرة على نهج الجماعة الأم في مصر، فالجيل النقابي الذي بدأ  يتشكل منتصف السبعينات، لم تكن لديه استراتيجية  واضحة، وعمل دون وجود لوائح داخلية للجماعة تنظم المهنيين، ومع نجاح المهنيين في نقابة المهندسين، أنشأت الجماعة  بداية التسعينيات وحدة خاصة بالعمل النقابي، أطلقت عليه  مجلس الدائرة النقابية.

تزامنت سيطرة الإخوان المسلمين على النقابات المهنية مع حقبة الانفتاح والديمقراطية عام  1989، التي تلتها رفع حالة الأحكام العرفية عام 1992، حيث تمكنت قائمة الإخوان وحلفائهم من الإسلاميين المستقلين من الفوز بكافة مقاعد مجلس نقابة المهندسين في انتخابات عام 1992 _ 1994، وفاز بمنصب نقيب المهندسين حسني أبو غيدا، وهو من المستقلين المقربين من الإخوان، وفي انتخابات 1994 _ 1996 فاز ليث شبيلات بمنصب نقيب المهندسين، وهو إسلامي كان مقرباً من الإخوان، وإعيد انتخابه في 1996 _ 1998،  وعاد حسني أبو غيدا لمنصب النقيب عام 1998، لكنه قدم استقالته عام 1999 بعد تعيينه وزيراً للأشغال العامة، وشغل نائبه عزام الهنيدي وهو إخواني منصب النقيب، وتكشف هذه الانتخابات عن أن الإخوان قد أتقنوا لعبة التحالفات بتقديم شخصيات مقرية من الجماعة وتتمتع بكاريزما ومصداقية عند معظم التيارات السياسية والإيديولوجية والمهنية المسستقلة.

بعد تنامي قوة الإخوان في النقابات بدأت الجماعة تقدم شخصيات من الإخوان لقيادة النقابة في منصب النقيب منذ تولي عزام الهنيدي المنصب، ففي  انتخابات المجلس الثاني والعشرين 2000 _ 2002،  والمجلس الثالث والعشرين 2002 _ 2004، فاز عزام الهنيدي بمنصب النقيب، وفي انتخابات 2002 _ 2006 فاز وائل السقا، وأعيد انتخابه في 2006 _ 2009، وفي انتخابات المجلس الخامس والعشرين 2009 _ 2012 فاز عبدالله عبيدات، وأعيد انتخابه في 2012 _ 2015، وفي انتخابات المجلس السابع والعشرين 2015 _ 2018 فاز ماجد الطباع بمنصب النقيب.

سوف ينعكس نجاح الإخوان المسلمين في نقابة المهندسين على بقية النقابات المهنية باستثناء نقابة الصحفيين والفنانين والكتاب، نظراً لضعف وجود الجماعة في هذه النقابات تظراً لموقف الجماعة الديني المحافظ من هذه المهن، وهامشية هذه النقابات وقلة عدد أعضائها، وضعف تأثيرها، وخصوصاً الفنانين والكتاب، وهو ما يعكس رؤية الجماعة المحافظة، وقد تمكنت الجماعة من اختراق نقابة المحامين التي تعتبر معقلاً  تاريخياً للقوى اليسارية والقومية.

لم تكن طريق الإخوان في النقابات المهنية معبدة، فقد واجهت الجماعة تحديات وصعوبات، ومنافسة شديدة مع باقي التيارات، لكنها استطاعت أن تشق طريقها عن طريق جيل من المهنيين الإخوان، الذين تحدوا التيار المحافظ المتشدد في الجماعة، وواجهوا العقبات الحكومية المحدودة، وسرعان ما فرض التيار النقابي الإخواني حضوره في النقابات المهنية عموماً والمهندسين خصوصاً، وأظهر الإخوان براعة في الصراع النقابي، والفوز فيه، والسداد في إدارته، وعلى غرار الجماعة في مصر أظهرت الكوادر الإخوانية النقابية في الأردن مهارة عالية في الارتباط بقضايا المهنيين والشعب عامة.

 

الصدام مع الحكومات: وجدلية المهننة والسياسة

شكلت جدلية العمل المهني والدور السياسي للنقابات المهنية، إحدى أهم نقاط الخلاف والنزاع بين النقابات والحكومة، إذ تتهم الحكومات المتعاقبة النقابات المهنية بالانشغال بالعمل السياسي على حساب أدوارها المهنية المنصوص عليها في قوانينها[12]، وهو ما ترفضه النقابات، وتؤكد على أن مواقفها السياسية الوطنية لا تتناقض مع قوانينها وأهدافها، فمفهوم استقلالية النقابة عن العمل السياسي يُعدّ قاصراً عن إدراك المعنى الحقيقي لهذه الاستقلاليّة، والتي تقوم على عدم خضوع النقابة لحزب معيّن حتى لا يفرض عليها توجّهاته الإيديولوجية وأهدافه السياسية.

كانت الأنشطة السياسية للنقابات أحد أهم عناصر توتر العلاقة بين الحكومة والنقابات، فقد نشطت النقابات في معارضة السياسات الاقتصادية النيوليبرالية للحكومة من خلال تأسيس "لجنة حماية المستهلك"، وطالبت باطلاق الحريات العامة وأسست "لجنة الحريات"، وناهضت الاحتلال الأمريكي للعراق وقامت بدعم المقاومة من خلال تأسيس "لجنة نصرة العراق"؛ لكن حدة التوتر  في العلاقة  بين الحكومة والنقابات تنامت بعد اتفاقية السلام الأردنية الإسرائيلية وتوقيع "معاهدة وادي عربة" في 26 من أكتوبر/تشرين الأول 1994، عندما دعت النقابات المهنية التي كانت تشهد صعود التيار النقابي الإخواني  إلى رفض المعاهدة، وبادرت بتأسيس "لجنة مقاومة التطبيع"، حيث تسارعت محاولات الحكومة لمنع النقابات من التدخل في الشؤون السياسية، وقصر مجال عملها على الجانب المهني، فقد كثّفت النقابات المهنية أنشطتها المركزية من خلال مجلس النقباء أو مجالس النقابات المختلفة واللجان النقابية.

 لقد شهد مجمع النقابات المهنية العديد من الوقفات الاحتجاجية والاعتصامات والندوات التي عبرت عن رفض التطبيع مع إسرائيل، ودعم القضية الفلسطينية،  حيث أسست النقابات "لجنة فلسطين"، ولم تعترف بقرار فك الارتباط الذي اتخذ عام 1988،  وقامت بجمع التبرعات والمساعدات لإرسالها للشعب الفلسطيني بالضفة الغربية وقطاع غزة وشاركت النقابات المهنية في العديد من الهيئات الدولية والإقليمية الداعمة للشعب الفلسطيني، وقامت بإصدار العديد من النشرات وأصدرت قوائم سوداء للمتعاملين مع الاحتلال الإسرائيلي، وعقدت الندوات والفعاليات المختلفة، واتخذت اجراءات تأديبه بحق المخالفين.

تعاملت الحكومة مع الأنشطة النقابية المتعلقة بمقاومة التطبيع في البداية بشكل سلس، انطلاقاً من حق كل شخص بالموافقة على التطبيع أو عدمه، إلا أن انتفاضة الأقصى عام 2000 شكّلت مرحلة جديدة في العلاقة بين الحكومة والنقابات، تمثلت بتوقيف عدد من  أعضاء لجنة مقاومة التطبيع النقابية في 27 كانون ثاني/ يناير 2001، على خلفية نشر اللجنة للدفعة الثانية من قائمة المطبعين مع إسرائيل، التي تضمنت رئيس وزراء ووزراء ونواب وشخصيات عامة مهمة، وعدد من الشركات الأردنية الكبرى، وسرت أوامر الاعتقال على كل من رئيس اللجنة المهندس علي أبو السكر وهو من جماعة الإخوان، وآخرين، وتم إحالتهم إلى المحكمة، وحاولت الحكومة استغلال الموقف للتأكيد على الدور المهني للنقابات المهنية وفق قوانينها مدعومة بمواقف عدد من نواب البرلمان، وبعض الأحزاب السياسية، الأمر الذي دفع مجلس النقباء لالتقاط الرسالة الحكومية والتزم بإيقاف جميع نشاطات لجنة مقاومة التطبيع، واستمرت الضعوطات الحكومية ضمن سلسلة من الاعتقالات للنشطاء النقابيين[13].

شكل اعتقال لجنة مقاومة التطبيع النقابية 2001، نقطة تحول في تعامل الحكومة مع النقابات المهنية، حيث تواترت محاولات الحكومة للحد من دورها السياسي، من خلال طرح قوانين مقيدة لأنشطتها، وافراغها من مضمونها، ومنعها من العمل في الشؤون السياسية، وطرح تطبيق قانون الصوت الواحد، ففي تشرين أول/ اكتوبر 2004 صرح وزير الداخلية آنذاك سمير حباشنة أن لجنة "حماية الوطن ومقاومة التطبيع" المشكلة من النقابات المهنية التي يهيمن عليها الإسلاميون "غير قانونية وغير شرعية".

شكّل عام 2005 علامة فارقة في علاقة الحكومة بالنقابات بعد تقديمها قانون موحد يستبدل كل قوانين النقابات للحد من دورها ويمهد للسيطرة عليها، حيث قامت الحكومة حينها يسلسلة من الاعتقالات للنشطاء النقابيين، ووقامت بحصار مجمع النقابات، ومنعت تنفيذ نشاطات فيه، واتهمت الحكومة النقابات المهنية بمحاولة تقويض الدولة والحكومة[14].

 

الربيع العربي؛ تحولات مفصلية

إن التجاذبات بين الحكومة  والإخوان وطبيعة العلاقة سوف تتبدل بعد الربيع العربي والحراكات الاحتجاجية في الأردن 2011، وبعد انقلاب النظرة الدولية إلى الإخوان من كونها معتدلة إلى ميسرة للتطرف، وتعريفها منظمة إرهابية في عدة دول، ورغم عدم تصنيف الجماعة في الأردن منظمة إرهابية، فقد أصبحت الجماعة تعرّف كعنصر تهديد وليس عامل استقرار، حيث استخدمت السلطة السيادية القانونية لإضعاف الجماعة بسحب ترخيص الجماعة واعتبارها غبر قانونية، وقد انعكست هذه الرؤية على وجود الجماعة في النقابات المهنية من خلال تفكيك تحالفانها مع القوى والتيارات السياسية القومية واليسارية، وإضعاف تحالفاتها مع الإسلاميين المستقلين.

في سياق تغير العلاقة بين الحكومة والإخوان، نفذت الحكومة  أواخر عام 2014 حملة اعتقالات شملت 26 شخصاً، ثم أفرجت عن 10 منهم، غالبيتهم من المنتمين لجماعة الإخوان المسلمين، ومن موظفي النقابات المهنية خاصة نقابة المهندسين، وبعضهم في لجنة مقاومة التطبيع،  وكان مدعي عام أمن الدولة قد أحال16 متهماً بالقضية التي عرفت باسم قضية "حماس"،  إلى محكمة أمن الدولة، بتهمة "اتصالهم بحركة حماس وتقديم دعم مالي وعسكري للحركة في الضفة الغربية، وتصنيع مواد مفرقعة بقصد استخدامها على وجه غير مشروع"، وقضت محكمة أمن الدولة في 28/ يوليو/ تموز 2015 بحبس 12 متهماً،  من بينهم أربعة غيابياً، فيما قررت تبرئة أربعة آخرين[15].

 دفعت الإجراءات القانونية بنزع الشرعية القانونية والسياسية، والحملة الإعلامية على جماعة الإخوان المسلمين، معظم حلفائها من التيارات القومية واليسارية داخل النقابات إلى فض هذه التحالفات، وتكوين تحالفات جديدة، وشجعت المستقلين الإسلاميين على تأسيس قوائم انتخابية بعيدة عن الإخوان، وكل ذلك ظهر في انتخابات نقابة المهندسين السابقة، حيث تشكّل تحالف واسع في مواجهة الإخوان ضم التيارات اليسارية والقومية والليبرالية والمقربين من الحكومة وبعض المستقليين، لكسر هيمنة الجماعة على النقابة. 

رغم التراجع  النسبي لدور النقابات السياسي خلال العقدين الأخيرين، إلا أنها لا تزال تحتفظ بدور سياسي يتفوق على دور الأحزاب السياسية، وقد بدأت النقابات بالعمل على استعادة دورها السياسي التاريخي منذ انطلاق الحراكات الاحتجاجية 2011، حيث توج نشاطها إلى جانب قوى سياسية أخرى باسقاط الحكومة عام 2018،  عندما دعا مجلس النقباء إلى اضراب شامل في 30 مايو/أيار 2018 احتجاجاً على إحالة الحكومة لمشروع قانون جديد لضريبة الدخل إلى مجلس النواب، إضافة إلى الاحتجاج على السياسات التقشفية الأخرى التي كانت قد أقرتها حكومة رئيس الوزراء الأسبق هاني الملقي، وسرعان ما تحول الإضراب إلى مظاهرات سلمية عمّت البلاد، وقد لقيت دعوة النقابات المهنية إلى الإضراب استجابة كبيرة، شاركت فيه 33 نقابة محلية وشمل كل محافظات البلاد والآلاف من المواطنين الذين تظاهروا في عمان أمام مقر مجمع النقابات المهنية.

رغم أن الاحتجاجات التي قادتها النقابات ليست متجذرة في مصادر السياسة التقليدية، إلا أن مصادر مقربة من الحكومة ادعت أن "جماعة الإخوان المسلمين، التي تسيطر على نقابات أردنية نافذة، أظهرت شهية سياسية زائدة في الاحتجاج لتغيير نهج الحكم في البلاد، ولم تستبعد هذه المصادر من أن يكون إخوان الأردن طرفاً من الأطراف التي تحرض لإفشال التهدئة بين النقابات والحكومة وإعطاء الفرصة للحكومة الجديدة لتعيد تقييم الموقف عبر لقاءات جديدة مع القيادات النقابية، خاصة أن الجماعة ركبت على الاحتجاج بشكل مفضوح حين طالبت بالإصلاح السياسي بدل التعاطي مع الاحتجاجات كأزمة اجتماعية واقتصادية"[16]. واستندت تلك الرواية إلى بيان جماعة الإخوان المسلمين الذي أكد على أن "الحل الجذري والفعال لمشكلاتنا اليوم هو بتغيير النهج وليس مجرد تغيير الأشخاص والوجوه" وشدد البيان على ضرورة إحداث إصلاح حقيقي وشامل يبدأ بالإصلاح السياسي مروراً بالإصلاح الاقتصادي وكذلك الاجتماعي[17].

إن اتهام الإخوان بركوب موجة الإضراب والاحتجاج وتسييسها، هو أحد استراتيجيات التشكيك الراسخة بدوافع الاحتجاجات وأهدافها، لكن الأمر المثير، أنه قبل شهر من  قيادة النقابات المهنية للإضراب والاحتجاج نُظمت انتخابات في نقابة المهندسين، وهي النقابة الأكبر تاريخياً  والأكثر نشاطاً في الأردن قبل تأسيس نقابة المعلمين 2011، وقد تنافس في انتخابات النقابة تحالف "نمو"، المُشكّل من تيارات قومية ويسارية وليبرالية، ضد الإخوان المسلمين. حيث خسر الإخوان مقاعدهم في النقابة، التي كانوا يسيطرون عليها منذ أكثر من 20 سنة[18].

 

على طريق الانحدار  والأفول

يشير طريق تراجع هيمنة الإسلاميين على النقابات إلى لحظة  انحسار موجة "الربيع العربي" 2011، وتراجع وتيرة الحراكات الاحتجاجية الأردنية،التي أفضت إلى تبدل الظروف الجيوسياسية الدولية، وبروز تحولات في السياسية المحلية، والتي أدت إلى تغيّر النظرة الحكومية إلى جماعة الإخوان المسلمين، فقد تحولت النظرة الدولية إلى جماعة الإخوان من كونها جماعة معتدلة إلى حركة ميسرة للتطرف العنيف، وأعيد تعريف الإخوان منظمة إرهابية في عدة دول عربية، ورغم عدم تصنيف الجماعة في الأردن منظمة إرهابية، فقد أصبحت الجماعة تعرّف كعنصر تهديد وليس عامل استقرار، فعندما كانت الحركة الاحتجاجية في الأردن تلفظ أنفاسها عقب عامين على فعالياتها، أدلى الملك عبد الله الثاني لمجلة ذي أتلانتيك الأميركية في 20 آذار/ مارس 2013، بتصريح  يلخص فيه رؤية المملكة لمستقبل جماعة الإخوان المسلمين في الأردن ما بعد الربيع العربي، حيث وصف فيها الإخوان المسلمين بأنهم: "ذئاب في ثياب حملان"، واتهمها بتلقي الأوامر من قيادة الجماعة في القاهرة، [19].

سرعان ما استخدمت السلطة السيادية القانونية للحكومة لإضعاف الجماعة بسحب ترخيص الجماعة واعتبارها غبر قانونية  في نيسان / أبريل 2016، وتم إغلاق المقر الرئيسي لجماعة الإخوان المسلمين بتاريخ 13 نيسان / أبريل 2016، بالإضافة إلى إغلاق ستة شعب إخوانية أخرى تابعة للجماعة في كل من إربد والرمثا والمفرق ومادبا والكرك، كخطوة أولية يتبعها إغلاق كافة الفروع والمقرات لاحقاً، والتي يبلغ عددها  في المملكة (39) مقراً، تمثل (39) شعبة إخوانية[20]، ثم أصدرت محكمة التمييز وهي أعلى سلطة قضائية في المملكة  في  15 يوليو/ تموز 2020 قراراً يقضي باعتبار جماعة الإخوان المسلمين "منحلة حكماً وفاقدة لشخصيتها القانونية والاعتبارية"، وذلك لعدم قيامها بتصويب أوضاعها القانونية وفقاً للقوانين الأردنية[21]،  وهو ما انعكس على وجود ونفوذ الجماعة في النقابات المهنية من خلال تفكيك تحالفانها مع القوى والتيارات السياسية القومية واليسارية، وإضعاف تحالفاتها مع الإسلاميين المستقلين.

أظهرت الإجراءات الحكومية التي تستند إلى مفهوم السلطة السيادية والأطر القانونية، على أن المشاركة السياسية للإخوان المسلمين في الأردن، ترتبط بالمكاسب التي يوفرها الانفتاح البنيوي، تقع في سياق لعبة التحكم شبه السلطوي  التي تعمل على استدخال الجماعة  لتصبح جزءاً من منظمومة ما، واللعب وفقاً لقواعد اللعبة (شبه السلطوية)، وهي قواعد تحددها وتسيطر عليها الأنظمة القائمة[22]، هذه العملية هي ما أطلق عليها صموئيل هنتنغتون "التبادل بين المشاركة والاعتدال"، وهي نوع من "الصفقة الديمقراطية"،  بحيث تصبح جماعات المعارضة مؤهلة للاستفادة من الانفتاح السياسي فقط في حال الالتزام بـ"الاعتدال في التكتيكات والسياسة"، من خلال الموافقة على نبذ العنف وأي التزام آخر بالثورة، وتقبل الشكل القائم للمؤسسات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية[23].

في سياق تبدل العلاقة مع الحكومة تنامت الخلافات بين التيارات  المختلفة داخل جماعة الإخوان المسلمين، وهو ما سيساهم بإضعاف الجماعة والحد من نفوذها داخل النقابات، فقد تدرجت  الخلافات من المجالات الهيكلية التنظيمية إلى المسائل الإيديولوجية الفكرية، وصولاً إلى الصراع على هوية الجماعة وتمثيلها وشرعية وجودها، وبدأت موجة من الانشقاقات تعصف بالحماعة عنوانها التيار الإصلاحي وحلفائه من التيار المحافظ البراغماتي، وقد بدأت الانشقاقات بمجموعة  الوسط الإصلاحي الشاب بقيادة رحيل غرايبة، ونبيل الكوفحي، وجميل دهيسات، في تشرين ثاني/ نوفمبر 2012  بالإعلان عن تأسيس "المبادرة الأردنية للبناء" والتي اشتهرت بـ"مبادرة زمزم"، انتهت بالانشقاق وتأسيس حزب سياسي في 26 آذار/ مارس 2016.

انشق المراقب العام الأسبق للجماعة عبد المجيد ذنيبات مع مجموعة صغيرة من التيار المحافظ البراغماتي ومنهم شرف القضاة ، وتقدم يطلب ترخيص جديد للجماعة باسم جمعية "الإخوان المسلمين" في 8 شباط/ فبراير 2015، بحجة تصحيح الوضع القانوني للجماعة، وعقب فشل التيار المعروف بـ"الحكماء" الذي يتكون من تحالف التيار المحافظ البراغماتي والتيار الإصلاحي من الكهول، أمثال: حمزة منصور، وسالم الفلاحات، وعبد الهادي الفلاحات، وعبداللطيف عربيات، وعبدالحميد القضاة، وإسحاق الفرحان، وجميل أبو بكر، وآخرين، بالوصول إلى حلول مع التيار المحافظ المتشدد، حيث انشق معظم تيار الحكماء عن الجماعة، وأسس التيار حزب "الشراكة والانقاذ" في كانون أول/ ديسمبر 2017.

 

خسارة الإسلاميين؛ الأسباب الموضوعية والذاتية

إن تراجع الإسلاميين وخسارتهم الانتخابات الأخيرة  لنقابة المهندسين، والتي فرض الإخوان سيطرتهم  علىها  لمدة 26 عاماً، برزت ارهاصاتها في الانتخابات السابقة  التي جرت عام 2018،  مع تبدل التحالفات الحكومية بوضوح تجاه مكون جديد، حيث استطاع  تحالف نقابي واسع  عماده مهندسي التغيير من الجيل الشاب، ومختلف القوى اليسارية والقومية والمستقلين تحت عنوان التيار النقابي المهني الوطني "نمو"، من كسر هيمنة الجماعة على النقابة، في اقتراع انتخابات مجلس نقابة المهندسين بدورتها الثامنة والعشرين للأعوام 2018-2021، وحصلت قائمة "نمو" على 6 مقاعد؛ من بينها النقيب ونائبه، مقابل حصول قائمة "إنجاز" الممثلة للإخوان على 4 مقاعد، وحصد أحمد سمارة الزعبي، المرشح عن قائمة نمو، منصب نقيب المهندسين بـ7933 صوتا في الانتخابات، متقدماً على مرشح قائمة الإخوان وحلفائهم من الإسلاميين "إنجاز" النقيب الأسبق، عبد الله عبيدات، الذي حصل على 6790 صوتاً. بينما ذهب مركز نائب النقيب إلى المهندس فوزي مسعد، الذي حصد دعم 7717 من المشاركين.

 ورغم كسر هيمنة الإسلاميين فقد اعتبرت جماعة الإخوان المسلمين أن ذلك لا يُعدّ تراجعا للتيار الإسلامي في النقابات نظراً لنجاح التيار الإسلامي في كل الانتخابات الطلابية والنقابية الأخرى التي جرت في نفس العام، إلى جانب أن قائمة "إنجاز" الإخوانية ما زالت تحتفظ بالأغلبية الساحقة في الهيئة المركزية والشعب الهندسية، إضافة إلى 40% من مجلس النقابة"، لكن الجماعة اعترفت أن "النزاع الداخلي داخل جماعة الإخوان كان له أثر ودور ولو بسيط جداً، من خلال انشغال قيادة الحركة في معارك داخلية، بدلاً من تحشيد الإخوان وتفعيلهم وحشد التيار الإسلامي عموما"[24].

 لا يعني ذلك نهاية مطلقة لهيمنة الإخوان على نقابة المهندسين، فهي لم تحقق تلك الهيمنة مطلقاً، فالمهنيون منقسمون تاريخياً بين كافة التيارات والتوجهات، وهي لا تعني أيضاً هيمنة التيار المنافس، وهو ما ظهر بوضوح من خلال افشال قائمة الإخوان  لمحاولة تعديل قانون نقابة المهندسين الذي تقدمت به قائمة "نمو"  المنافسة من خلال عقد اجتماع هيئة عامة استثنائي للتصويت على التعديلات  المقترحة، في 24  كانون أول/ ديسمير [25]2021.

رغم أن أصواتاً عديدة داخل الإخوان المسلمين أعادت تراجع الجماعة في نقابة المهندسين لأسباب تتعلق بالأزمة الداخلية للجماعة، إلا أن ثمة قناعة لدى الإخوان المسلمين، أن هناك خطة ممنهجة  باستهداف الجماعة من خلال  بروز تحالفات حكومية جديدة مع  قوى وتوجهات واسعة ومتعددة، فالقيادي الإخواني الشيخ سعود أبو محفوظ نشر تغريدة عزا فيها ما حصل  في انتخابات المهندسين إلى تعدد الجهات التي وقفت ضد مرشحي الإخوان المسلمين في النقابة، وأشار إلى الليبراليين والقوميين واليساريين وأنصار الدولة وجماعة الحكومة، وأضاف إلى ذلك "المِثليين والماسون"، وقد أثارت تغريدة أبو محفوظ سجالاً كبيراً[26].

على الجهة المقابلة تؤكد أوساط نقابية على بروز جيل جديد من المهندسين أقرب إلى التوجهات المهنية وأبعد عن التيارات الإيديولوجية، استطاعوا  أن يشكّلوا أوسع تحالف نقابي وطني، عماده مهندسي التغيير من الجيل الشاب ومختلف القوى الوطنية اليسارية والقومية والمستقلين تحت عنوان التيار النقابي المهني الوطني "نمو" وأن التغير الأكبر جاء على خلفية أزمة صندوق التقاعد للنقابة على مدار الدورة الماضية، وتكشف حجم الخلل في إدارة أمواله، والخسائر الفادحة في حلقة الاستثمارات والشركات، ويُعد صندوق تقاعد نقابة المهندسين ثاني أكبر صندوق استثماري  في الأردن بعد صندوق الضمان الاجتماعي، حيث يدير هذا الصندوق استثمارات بعشرات ملايين الدنانير في مشاريع مختلفة[27].

 

بين انتخابات المهندسين والمحامين

هكذا أسدل الستار على هيمنة الإسلاميين على نقابة المهندسين، وذلك نتيجة انقلاب العلاقة بين الحكومة والإخوان، فقد انتهى زمن المصالح المشتركة التي جمعت الإخوان بالحكومة على مدى سنوات طويلة، وطويت صفحة مساندة الإحوان ضد القوى السياسية والنقابية القومية واليسارية والليبرالية، وتشكلت تحالفات جديدة عنوانها انقلاب المشهد التاريخي للتحالفات رأساً على عقب، لكن ذلك لا يعني خروج الإخوان من المشهد العامن فالجماعة لا تزال تحافظ على تماسك هياكلها التنظيمية رغم الانشقاقات التي اتسمت بالنخبوية دون ان تطال القواعد التنظيمية الصلبة للجماعة، ولا تزال الجماعة تتمتع بقدر من الجاذبية لدى القاعدة الاجتماعية الانتخابية المحافظة، كما ان جماعة الإخوان المسلمين لا تزال متغلغلة في الجسم النقابي من خلال جيل المهنيين الإخوان وحلفائهم من الإسلاميين، وهو ما برز بعد أيام من انتخابات نقابة المهندسين، من خلال انتخابات نقابة المحامين التي جرت في 27 مايو/ أيار 2022، فبعد أن غادر الإسلاميون من بوابة نقابة المهندسين عادوا وبقوة من نافذة نقابة المحامين التي تعد تاريخياً من معاقل التيار القومي واليساري،  وذلك بانتزاعهم منصب نقيب المحامين، حيث فاز مرشح  الإخوان والإسلاميين  يحيى أبو عبود على منافسيه النقيب السابق مازن ارشيدات وزميله الدكتور رامي الشواورة، وقدحصل أبو عبود في الجولة الثانية على أكثر من 3300 صوت فيما جمع حاصل إجمالي أنصار كل من ارشيدات والشواورة نحو  2300 صوت[28]، وقد قال أبو عبود  في أول تصريح له بأنه ونقابة المحامين العريقة سيكونون خلف قائد الوطن جلالة الملك عبدالله الثاني في الدفاع عن الحقوق والحريات وبناء دولة القانون والمؤسسات، ودفاعه عن فلسطين وتمسكه بعاصمتها القدس والوصاية على المقدسات الاسلامية والمسيحية في القدس الى ان يأتي التحرير، وهو تصريح يكشف عن استجابة الإخوان لطبيعة التحولات بالتعامل مع الحكومة، وإدراك الجماعة لحدود الهيمنة وماهية العلاقة الممكنة بين الحكومة والإخوان.

تكشف انتخابات نقابات المهندسين والمحامين الأخيرة عن طبيعة استراتيجية الحكومة الصبورة في تدبير العلاقة مع الإخوان، وأنها تنظوي على قطيعة واستمراية، فهي تهدف إلى تطويع الجماعة ونزع هيمنتها على المدى الطويل، من خلال الآليات القانونية  والتحالفات الوقتية، والتكتيكات العملية، وهو ما ينعكس على الهيكلية التنظيمية للإخوان وعلى مواقف وقرارات الجماعة، وترجيح كفة المعتدلين ضد الراديكاليين، وهو ما ظهر جلياً في الانتخابات الداخلية لحزب جبهة العمل الإسلامي الذراع الحزبي لجماعة الإخوان المسلمين التي جرت في26  مايو/ أيار 2022، حيث فاز التيار المعتدل  الذي يقوده مراد العضايلة،  ضد التيار الذي يقوده المهندس علي أبو السكر[29].

 

خاتمة

يشير تراجع الإسلاميين  في الأردن وحضورهم في المجال العام وفي النقابات المهنية إلى أن تمدد الإخوان وحلفائهم من الإسلاميين المستقلين، لا يتعلق بجاذبية خطاباتهم الإيديولوجية، ولا بصلابة البنية الهيكلية، ولا بتماسك قواعدهم الشعبية، ولا بقدرتهم على الحشد والتعبئة فقط، فتلك السمات من ذخيرة الحركة الاجتماعية  رغم أنها ضعفت إلى حد ما  وفقدت بعض بريقها وتراجعت لأسباب ذاتية وموضوعية، فتلك السمات لا تكفي لضمان الشعبية والانتشار وتحقيق الهيمنة دون بناء تحالفات على أسس مصلحية مشتركة مع الحكومة، فجماعة الإخوان المسلمين كسائر الحركات السياسية الاجتماعية تستند في وجودها وممارسة أنشطتها إلى الشرعية القانونية التي حصلت عليها من الدولة، وهي تمارس كافة أنشطتها الاجتماعية والسياسية في إطار السلطة السيادية القانونية التي تحددها الدولة الوطنية.

يشير المسار التاريخي إلى إن تمدد جماعة الإخوان المسلمين في الأردن وانكماشها، لا يستند إلى قوتها الذاتية وجاذبيتها الإيديولوجية وصلابة هيكليتها التنظيمية وبراعتها السياسية، فحسب، إذ لا تنفصل عمليات الهيمنة  ودييناميات التمدد والانحسار عن علاقتها كحركة اجتماعية مع الحكومة والسياسات العامة للدولة، والسياسات الدينية، إذ لم يكن تغلغل الجماعة في مؤسسات المجتمع المدني والنقابات ممكناً بعيداً عن  الإطار السياسي والقانوني للسلطة السيادية للدولة، ولا عن دعم ورعاية الحكومة للجماعة  في معظم الأوقات، ذلك؛ أن النشاط الاجتماعي برمته يتطلب الموافقة القانونية، وبالتالي موافقة الدولة- الأمة، فمجمل الأعمال التي تمكنت الجماعة  عن طريقها من الانتشار والتمدد والهيمنة  في المجتمع  عبر  إنشاء الجمعيات والمستوصفات والمدارس في المناطق المحرومة كانت مرتبطة بموافقة ورضا السلطة ورعايتها في ظروف محددة، وذات الأعمال كانت مهددة في ظروف مختلفة بتهمة عدم الشرعية السياسية والقانونية، فقد استخدمت الحكومة  السلطة السيادية القانونية للدولة للحد من نشاط الجماعة مرات عديدة؛ حيث صودرت "جمعية المركز الإسلامي" التابعة للإخوان بتهم الفساد ومخالفة الأنظمة القانونية عام 2006، والتي تعدّ  عصب القوة الاقتصادية للإخوان، ثم طالت عمليات نزع الشرعية السياسية والقانونية وجود جماعة الإخوان المسلمين نفسها، بسحب ترخيصها واعتبارها فاقدة للصفة الشرعية القانونية المؤسسة لوجودها عام 2020.

وبالرغم من تراجع نفوذ وهيمنة جماعة الإخوان المسلمين في ميادين شتى، فإنها لا تزال حركة اجتماعية محافظة متجذرة  في بنية ومكونات المجتمع،  ورغم تراجع حضور الجماعة في انتخابات النقابات المهنية، إلا أنها لا تزال متجذرة بعمق داخل بنية الجسم النقابي، فقد أصبحت الجماعة في صلب بنية ومكونات النقابات، من خلال طبقة مهنية إخوانية وسطى من المهندسين والأطباء والمحامين وغيرها من المهن، فالجماعة حاضرة دوماً  سواء في الهيئات العامة، أو  مجالس النقابات، وهي متواجدة  في هياكل النقابات الإدارية،

صحيح أنّ هنالك تحولات في بنية الحالة الدينية والسياسية في الأردن تشير إلى تراجع نفوذ وهيمنة الإخوان المسلمين لكن الحكم على نهاية هيمنة الجماعة رهن بتوجهات الحكومة السياسية، فكما نسجت علاقات تاريخية جيدة بين الإخوان والحكومة في ظل ظروف جيوسياسية محددة ارتبطت بالحرب الباردة وبروز العامل الديني في مواجهة خطر الشيوعية والأحزاب اليسارية والقومية، يمكن أن يعاد بناء تلك التحالفات في ظروف مشابهة، ويمكن أن تنشأ تحالفات في ظل ظروف مغايرة تقوم على مفهوم الصفقة والتبادل في حال تبنت الحكومة حكماً ديمقراطياً، وفي حال تمسكت الحكومة بنمط الحكم السلطوي فإنها تتحكم بتمدد الإخوان أو انكماشهم، وقد كشفت انتخابات نقابة المهندسين، أن الحكومة قررت وضع قيود على هيمنة الإخوان المسلمين في النقابات وفي كافة الميادين، لكنها لا تصل حد القطيعة العامة ورفع الغطاء الشرعي والقانوني  والسياسي بالكامل عن الجماعة، فعقب أيام من خروج نقابة المهندسين عن هيمنة الإخوان، كانت الجماعة تفوز برئاسة نقابة المحامين، ولذلك فإن فصول العلاقة بين الإخوان والحكومة لم تكتب بعد، وهي رهن بالتغيرات الجيوسياسية الدولية والإقليمية، والتحولات السياسية والاجتماعية المحلية.

 

 

 

 

 

[1]  انظر: القائمة النقابية الموحدة تعلن انسحابها من انتخابات المهندسين، صحيفة السبيل، 19 فبراير 2022، على  الرابط: https://n9.cl/la9g4

[2]  انظر:  %47 النسبة الاجمالية للمشاركة في انتخابات نقابة المهندسين، قناة المملكة، 19/ 2/ 2022، على الرابط: https://n9.cl/vtou8

 

[3]  انظر: نقابة المهندسين تؤكد نزاهة الانتخابات وحياديتها، وكالة ألنباء الأردنية (بترا)، 19 شباط 2022، على الرابط: https://n9.cl/dxenn

[4]  انظر: نقيب المهندسين: المهندسون اليوم أثبتوا أنهم جديرون بكل احترام وتقدير، صحيفة الغد، 18/2/ 2022، على الرابط: https://2u.pw/VwgNz

[5]  تتموضع الحكومة داخل جدل الفرقاء في انتخابات نقابة المهندسين، فكافة من أجرينا معهم مقابلات من القائمة الموحدة وقائمة نمو المنافسة يصرون على روايتهم الرسمية، فالموحدة تدعي تدخل الحكومة بصورة ممنهجة وتزوير الانتخابات، بينما تزعم تمو أن الحكومة محايدة والانتخابات نزيهة وشفافة,

[6] انظر: مارك لينش، في السلة نفسها أم لا؟ مركز كارنيغي للشرق الأوسط، 28 نيسان/ إبريل 2017، على الرابط: https://tinyurl.com/y2hejfcy

[7]  انظر: طارق ديلواني، الخناق يضيق على "إخوان الأردن"... خسارة وانسحاب من انتخابات "المهندسين"، صحيفة اندبندت عربي، 21 فبراير 2022، على الرابط: https://2u.pw/eO86w

[8]  انظر: “العمل الإسلامي” يقاطع الانتخابات البلدية واللامركزية، صحيفة الغد، 26/1/2022، على الرابط: https://n9.cl/570yx

 

[9]  انظر: د. عبد الحميد عليمات، دور النقابات المهنية في الحياه السياسية جدلية العمل المهني والسياسي، موقع علوم الصيدلة، النشرة الالكترونية، على الرابط: https://tinyurl.com/yxufz2jk

 

[10]  انظر: مراجعات مع المفكر الإسلامي د. إسحاق الفرحان، الحلقة 3، قناة الحوار الفضائية، على الرابط: https://tinyurl.com/yyskma2l

[11]  انظر: إبراهيم غوشة، المئذنة الحمراء: سيرة ذاتية، مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات، بيروت، الطبعة الأولى، 2008.

[12]  انظر: النقابات الاردنية متهمة بتغليب السياسي عل المهني، موقع البيان، على الرابط: https://tinyurl.com/yxory9ud

[13]  انظر: د. محمد نايل عبيدات، النقابات المهنية الأردنية: صراع البقاء، عالم الكتب الحديث للنشر والتوزيع، إربد، 2010، ص 85 _ 98.

[14]  انظر: د. محمد نايل عبيدات، النقابات المهنية الأردنية: صراع البقاء، مرجع  سابق، ص 101.

[15]  انظر: موفق كمال ، محكمة أمن الدولة تقضي بحبس 12 وتبرئ أربعة في قضية "حماس"، جريدة الغد، على الرابط: https://tinyurl.com/y3xfu2e8

 

[16] انظر: شهية زائدة للاحتجاج لدى النقابات والإخوان في الأردن، موقع العرب، على الرابط: https://tinyurl.com/y4pjg8jd

[17]  انظر: "الإخوان": حل مشاكل البلاد في تغيير النهج وليس الوجوه، موقع جريدة السبيل، على الرابط: https://tinyurl.com/y65zjqzc

[18]  انظر: "احتجاجات الأردن": الطبقة الوسطى تدخل خط المواجهة، حوار مع حبر، مدى مصر، على الرابط: https://tinyurl.com/y24ecne3

[19]  انظر: محمد النجار، إخوان الأردن للملك: لسنا ذئابا ولا ماسونيين، الجزيرة نت، على الرابط: https://tinyurl.com/yxmlqpoq ، وانظر المقالة في مجلة أتلانتك على الرابط: https://tinyurl.com/7ucs3xtd

[20]  انظر: هديل غبون وأحمد التميمي وأحمد الشوابكة وهشال العضايلة، إغلاق 6 شعب جديدة للجماعة وتساؤلات إخوانية حول حقيقة النوايا والمطالب، و"الداخلية" تقرر إغلاق جميع مقرات "الإخوان المسلمين’"، جريدة الغد، على الرابط: https://tinyurl.com/yy3gyqje

[21]  انظر: محكمة التمييز الأردنية تعتبر جماعة الإخوان المسلمين "منحلة حكماً"، موقع العربي الجديد،  15 يوليو 2020، على الرابط: https://tinyurl.com/y4vrzcwk

[22]  جيليان شويدلر، ما وراء فرضية الاعتدال؟، ترجمة سابين طاوقجيان و منال خضر، مجلة كلمن، عدد 8، خريف 2013، على الرابط: https://tinyurl.com/y8obpkuq

[23]  صاموئيل هانتنجتون، الموجة الثالثة: التحول الديمقراطي في أواخر القرن العشرين، ترجمة د. عبد الوهاب علوب، دار سعاد الصباح، القاهرة، الطبعة الأولى، 1993، ص 250.

[24]  انظر: محمد العرسان، كيف سُحبت نقابة المهندسين من عرين إخوان الأردن؟، موقع عربي 21، على الرابط: https://tinyurl.com/y2ptn3qs

[25]  لمزيد من التفصيل حول جدل التعديلات المقترحة على قانون نقابة المهندسين بين الأطراف المتنافسة، أنظر: جدل حول قانونية اجتماع الهيئة العامة للتصويت على تعديلات قانون نقابة المهندسين، موقع حسنى، 23/ 12/ 2021، على الرابط: https://2u.pw/aztD7

[26]  انظر: انتخابات المهندسين انتهت في الأردن لكن "السُّخونة"زادت، صحيفة رأي اليوم، على الرابط: https://tinyurl.com/y5zkh9md

[27]  انظر: أزمة صندوق تقاعد "المهندسين" إلى أين: خسائر بالملايين وجيب المهندس هو الحل،  حزب الوحدة الشعبية، على الرابط: https://tinyurl.com/y5xrus77

[28]  انظر: نقابة المحامين الأردنيين "مع الملك": "اكتساح إخواني" واستقرار بفوز "العضايلة" للاعتدال في الحزب، صحيفة القدس العربي، 28 مايو 2022، على الرابط: https://2u.pw/QDfJX

 

[29]  انظر: "العمل الإسلامي" يجدد انتخاب العضايلة أميناً عاماً له، صحيفة السبيل، 26 مايو 2022، على الرابط: https://2u.pw/V3CAR

 

 

 

 

 

 

أضف تعليقك