كلشي بليرة

“المواقف تميْز الناس وتفرز معادنهم”، مقولة تتردد وشبيهاتها على ألسنة الطيبين والثرثارين ومرتدي ثوب الحكمة.. بمناسبة وبدونها مع عدم التفاتهم إلى انعدام قيمة العبارة نفسها من الناحية التأثيرية، حيث أن من احترف التلوّن والرقص على كل نغمة؛ لن يضيره ولا يثنيه انكشاف معدنه الفالصو أصلا.

 حينما اجتاح وباء كورونا العالم وتبنت دول عدة -بغريزة الاستبداد والتسلط- الحلول البوليسية للتعامل مع الأزمة، كان لافتاً –لكنه غير مفاجئ- صمت عدد ملحوظ « ولا مؤاخذة» من المدافعين عن الحريات وحقوق الإنسان الذين هم -كما يقول الواقع- مجرد منسقي ومنسقات ورش عمل وندوات ومنتديات ومؤتمرات حسب خطة المشروع ونشاطاته، أو ربما اكتفاء مغاويرهم بمجرد الهمس؛ عمّا شهدته البلاد من تضيق على الحريات واستمراء انتهاك خصوصية المصابين بالوباء خصوصاً ضحاياه الأوائل والتشهير بهم ثم الفعلة المشينة بمعاقبة شبان خارج نطاق القانون في البحر الميت لمجرد أنهم تجمعوا ليروحوا عن أنفسهم ويخففوا من وحشة العزلة والخوف.

 تلا ذلك حملة التكفير والتشهير التي قادتها قطعان المتطرفين على مواقع التواصل الاجتماعي التي طالت ضحايا كثر بسبب صورة أو منشور أو عبارة، ثم استهداف أعضاء بعينهم في لجنة تحديث منظومة الحياة السياسية بسبب التعبير عن رأي أو –وهذا قعر المهزلة- عدم التعبير عنه كما يريده غلاة الإقصاء والاستئصال؛ مع صمت العدد ذاته أو يزيد من «المنسقين» ، والمشين أكثر صمت عدد وتحريض آخر من زميلاتهم وزملائهم الأعضاء في تلك اللجنة ممن صنّفوا أنفسهم ولم يصنّفهم أحد ب:«المفكر.. الأكاديمي.. المحلل.. اليساري.. الكاتب المعتدل....»، وحقيقة الألقاب التي تجمعهم هي: «المستوزر بالله عليكم.. والراضي بما تجودون به.. والمسترسل بالاستنطاع على أبوابكم..والمستوسل من مانحيكم..». ثمّ   أخيراً وحتماً ليس آخرا؛ مجزرة المركز الوطني لحقوق الإنسان التي ارتكبها »الأخوان كرامازوف» وساهم فيها شرذمة من فقهاء السلطان وإمعات المجالس وعدد من الساكتين عن الحق سواءً بالصمت أو الانسحاب غير البطولي ولا «الشجاع»، والحبل على الجرار.

 هل خسر منسقو ومنسقات ورش العمل والمهرجانات التي يتوجب تنظيمها لرفع نسبة الإنفاق جراء نشازهم ونشوزهم في المواقف التي كان يفترض أن تصدح حناجرهم فيها بكلمة الحق دون مواربة أو تورية؟ الحقيقة أنهم على الصعيد الشخصي لم يخسرُ أبدا، فمنهم من تبوأ ما رامه من المراتب ومنهم من نال ما لا يستحق من «لا مؤاخذة التقدير»، ومنهم من توسعت تجارة دكانه الحقوقية وتضاعف رأس ماله وأصبحت الدكّانة «هيبرماركت أو مول» ومنهم من ينتظر الفرج.

 إن أكثر ما يسيئ ويستفز هؤلاء المبلسون هو أن يقرؤوا مقالةً أو يسمعوا كلمةً في مكانها ووقتها تذود عن ضحية حقوقية، فالقوم مثل رواد الغُرَز والحانات، يكرهون من لا يفعل ما يفعلون لأنه يشعرهم بعوارهم ويكشف عوراتهم، فجميل الصوت حَسَن الأداء في زمرة النشّازين نشاز والحرّ في وكالة النخّاسين غصّة واستفزاز.

 لطالما كنت أندهش وأسأل نفسي بسذاجة: «كيف ينظر الأفاكون والمنافقون من جوقة كتاب اللا رأي ومدعو الدفاع عن الحقوق والحريات لحين» إلى أنفسهم في المرآة وكيف يمكنهم النوم بهدوء؟ لأكتشف السر الذي ليس سرا؛ وهو أنهم لا ينظرون إلى شيء إلا صورة من سيتقربون إليه زلفى وصورة من سيتبرؤون منه ويطون صفحته، أما المرآة فهي فقط للتأكد من كوية ربطة العنق أو تمام المساحيق قبل الذهاب لاعتلاء منصة في مؤتمر أو مقابلة صاحب مقام عليّ علّه يَرْفَعُهُم أو يُرَفِّعُهُم.

 يقول التاريخ والحاضر أن المنقلبون على قيمهم هم أشدهم عليها نقمةً وأقواهم بأهلها بطشاً وتنكيلا، فعدد من الشيوعيين والاشتراكيين كانوا رأس الحربة واليد الضاربة التي عذبت وأهانت «رفاق الأمس» حينما تملكوا رقابهم بعد أن كفروا بماركس وستالين ولينين وآمنوا بالسلاطين وأصبحوا في زمرة «الصالحين»، وأبغض الإسلاماويين وسماسرة الإسلام السياسي لبعضهم؛ هم صحابتهم المنشقون، والشيء نفسه بالنسبة لمنسقي ورش العمل «عدم المؤاخذة الحقوقية» إذا انتهى المشروع وانفض المهرجان وانقضى الموسم، تراهم مع أول عاصفة طأطأوا رؤوسهم مؤثرين الغنيمة والسلامة معلنين براءتهم الصريحة أو الضمنية من الحق والحقوق وعادوا ليمسكوا بالصاجات والبوق.

 الشجاعة أن تقول الكلمة حيث وحين يجب أن تقال، أما الصمت أو الدعاء في القلب أو رفع الصوت بعد أن ينفض المولد وينقضي الأمر؛ فهو العهر الحقوقي والمدني والسياسي الذي بات أصلاً في سوق تصيّد المناصب وتسوّل المنح وسرقة التقدير غير المستحق، وأنت وشطارتك وحظك  على بسطات «كلشي بليرة».

أضف تعليقك