قصة البحر الميّت الذي دمّرته "إسرائيل" عن عمد (ترجمة)

وقع الحدث الكبير الذي غيّر الخريطة الطبيعية للأراضي المحتلة عام 1979: عندما جف الحوض الجنوبي للبحر الميت واختفى من المشهد تماماً.
الرابط المختصر

ترجمة عن هارتس

“ينبغي لأيّ شخص يرغب في الاستمتاع برحلة على طول ساحل البحر الميت المسارعة إلى تحقيق أمنيته”، هكذا كتب واي تيريزي، مراسل صحيفة “هآرتس” عام 1934. مضيفاً أن “حتى أولئك الذين يرغبون في القيام بجولة في الأماكن المدهشة الموجودة على جانبي البحر الميت وزيارة منطقة اللسان عليهم الإسراع أيضاً، وكلما تم التعجيل بتلك الجولة، كان ذلك أفضل. لأنكم إذا لم تفعلوا ذلك الآن، فربما لن تتاح لكم فرصة الاستمتاع بكل هذا في غضون سنوات قليلة… إذ من الجائز للغاية أن تتغير كل منطقة البحر الميت تماماً عن شكلها الحالي وعمّا كانت تبدو عليه قبل مئات آلاف السنين بل وقبل ملايين السنين”.

تحققت نبوءة الاندثار تلك على مر الـ88 سنة التي انقضت منذ ذلك الحين. فمع نهاية عام 2021، أصبحت شواطئ البحر الميت مهجورة، وتدمر كثير منها كلياً بسبب الحفر الخسفية. وبالفعل، لا تمثل الشواطئ الطبيعية للبحر الميت سوى مجرد بقعة زرقاء في الأفق بالنسبة لغالبية سكان فللطين المحتلة، حيث لا يوجد سوى مكانين فقط لا يزال بإمكان المرء الوصول إلى البحر بصورة شرعية من خلالهما، وهما: شواطئ في الجزء الشمالي من البحر (وهي تابعة قانونياً إلى الضفة الغربية)، والرصيف البحري في نيف زوهار في القسم الجنوبي، حيث شيدت فنادق على حافة بركة تبخير صناعية كبيرة أنشأتها شركة “مصانع البحر الميت”. أما سبل الوصول الأخرى للساحل الطبيعي للبحر فتقتصر على المتجولين الجسورين أو أصحاب السيارات رباعية الدفع.

قد تفترض أن تقرير تيريزي هو أول مقال في الصحافة العبرية يحذر من كارثة بيئية وطبيعية في البحر الميت. لكن للمفارقة، سيكون هذا تصوراً خاطئ.اً عندما كتب تيريزي في منتصف ثلاثينات القرن الماضي عن حدوث تغيُّر في منطقة البحر الميت، لم يكن يُشير بالضرورة إلى تغيُّرٍ إلى الأسوأ. بل كان في الواقع يتوقع العكس تماماً: فقد كان يظن أن المنطقة ستشهد تغيُّراً إيجابياً يبشر بمستقبلٍ أفضل. وكتب أن “صوت الجرارات التي تقوم بتسوية مساحات شاسعة من الأراضي سيعلو قوياً، وستُبنى سدود الحماية، وستُشيد الطرق، وستختفي المستنقعات، وستبدأ أماكن المسابح المستقبلية في التشكل، سيشهد  البلد الذي نبنيه تطوراً هائلاً لم نر مثله من قبل”. مثل كثيرين غيره في تلك الفترة وخلال العقود التالية لها، لم يُمثل جفاف البحر الميت أزمةً بالنسبة إليه، بل رأى فيه فرصة تعميرية.

تقول الباحثة وأمينة المتحف أوريت إنغلبرغ برعام، التي تناولت أطروحتها للدكتوراه، في جامعة حيفا، التاريخ البيئي للبحر الميت، إنه “كان يُنظر إلى البحر الميت باعتباره بقرة حلوب”. بحثت الرسالة التي كُتبت تحت إشراف البروفيسور إفرايم ليف ودكتور عساف زلتزر، وجاءت بعنوان “موت مُعلن”، موقف الحركة الصهيونية وإسرائيل تجاه أهم مورد طبيعي موجود في البلاد.

وتوضح أوريت أن تحول البحر الميت من كونه ظاهرة طبيعية عالمية فريدة إلى مصنع كبير لإنتاج البوتاس لم يحدث فجأة أو بسبب خطأ عابر، وإنما كان نتيجة حتمية لسلسلة من القرارات التي اتخذت على مدار القرن الماضي. وتوثق في رسالتها التسلسل الزمني للإجراءات البيروقراطية التي تقف وراء الكارثة البيئية التي توشك على الحدوث.

تقول أوريت، “اندفعنا نحو الهاوية بأقصى سرعة وبأعينٍ مفتوحة، كل شيء كان متوقعاً”، لكنها استدركت كلامها قائلةً، “تقريباً كل شيء. الأمر الوحيد الذي حدث فجأة هو الحفر الخسفية، لم يتوقع أحد أن تصل الأمور لهذا الحد”. ثم أضافت بعد برهةٍ، “في الواقع، الحفر الخسفية هي السبب الوحيد الذي يجعلنا نتوقع حدوث كارثة بيئية، لولاها، ربما لم يكن سيُنظر إلى الأمر باعتباره كارثة، وما كنا سنشبهه بالهاوية على الإطلاق”.

لِتوضيح كلامها، تحدثت أوريت بالتفصيل عن مقال صحافي، يرجع هذه المرة إلى عام 1946، بعنوان “استغلال مياه الأردن في الري لن يضر بالبحر الميت”. ذُكر في المقال أن الاستفادة من مياه الأردن ستؤدي إلى هبوط سريع في مستوى البحر الميت، وإلى جفاف الحوض الجنوبي. سألت أوريت بلاغياً، “كيف يعقل أن جفاف الحوض الجنوبي لن يضر بالبحر؟”، لتجيب في العبارة التالية أنه “في ذلك الوقت كانت المعادن التي في جوفه وليس المنظر الطبيعي هي كل ما يهم. وكان النهج المتبع يهدف إلى استغلال كل ما يمكن من موارد دون الالتفات إلى البحر الميت باعتباره معلماً طبيعياً ذا قيمة جوهرية”. فقد جاء في مقال 1946 أيضاً أن “هبوط منسوب البحر الميت بعشرة أمتار لن يؤثر في تركز الأملاح”، في إشارة إلى المعادن التي يمكن استخراجها من البحر.

تقول أوريت إن نشأة هذا النهج ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالحركة الصهيونية وموقفها تجاه الطبيعة. فقد توقع تيودور هرتزل عملية استخراج المعادن من البحر الميت. وعام 1892، حكت رواية يوتوبيّة للكاتب والناشط الصهيوني إلحنان ليب لوينسكي، بعنوان “رحلة لأرض إسرائيل في عام 5800” -السنة العبرية التي تقابل 2039-2040 بالتقويم الميلادي- عن “مدينة الملح” البالغ عدد سكانها 100 ألف نسمة، والتي تقع على ضفاف البحر الميت. يقول لوينسكي في روايته، “تعج المدينة بالصخب والضجيج، وترتفع أصوات قرع وتلاطم الماكينات بشدة، وتتصاعد الأبخرة من مداخن المصانع حيث يعمل الآلاف”.

كانت شركة البوتاس الفلسطينية المحدودة- السلف التاريخي لشركة إسرائيل للكيماويات، المالكة الحالية لشركة “مصانع البحر الميت”- هي أول من أطلقت العمليات التي غيَّرت شكل البحر الميت من أجل استخراج المعادن. كانت الشركة مثل طير غريب وسط المشهد الصهيوني الرائد في ذلك الوقت: فهي لم تكن تتبع الهستدروت (الاتحاد العام لنقابات العمال الإسرائيلية)، بل كانت شركة خاصة مسجلة في بورصة لندن. لم ترق هذه الفكرة الجديدة لقيادة اليشوڤ (المجتمع اليهودي في فلسطين قبل عام 1948) ذات التوجه الاشتراكي.

تفترض أوريت أن لهذا السبب، يعتبر مؤسس الشركة، المهندس السيبيري الأصل، موشيه نوفوميسكي شخصية منسية إلى حدٍ ما في التاريخ الصهيوني. إذ لا يوجد أيّ مَعلَم يحمل اسمه سوى شارع وحيد صغير في حي رمات شاريت في مدينة القدس. صُحح هذا الوضع بعض الشيء راهناً، عندما افتتحت شركة إسرائيل للكيماويات “مركز زوار موشيه نوفوميسكي التراثي” في موقع مصنع البوتاس التاريخي في جبل سدوم على ضفاف البحر الميت.

فرصة إنقاذ

عندما اندلعت حرب عام 1948، منحت وثائق رأس المال المعتمدة دولياً فرصة لِنوفوميسكي لمحاولة إنقاذ أهم مشروع في حياته. فقد كانت معظم الأنشطة الصناعية تجري آنذاك في الجزء الشمالي من البحر الميت، وهي منطقة كان من المفترض أن تصبح جزءاً من الدولة العربية وفقاً لقرار الأمم المتحدة بتقسيم فلسطين. توصل نوفوميسكي لاتفاق مع مسؤولين بريطانيين وأردنيين بارزين يقضي بالإبقاء على المصنع في أرضٍ تشبه المناطق الدولية المعزولة نوعاً ما.

وفي يوم الإعلان عن قيام الدولة، هرع نوفوميسكي إلى ديفيد بن غوريون ليخبره بشأن تلك الاتفاقية. اقتنع زعيم الدولة الوليدة بالاتفاقية لكنه كان متعجلاً لحضور مراسم الإعلان وأخبر نوفوميسكي أن يأتي لزيارته لاحقاً. بعد خروج نوفوميسكي من اجتماعه مع بن غوريون، صدمته دراجة نارية ونُقل إلى المستشفى. وفي غيابه، انهار الاتفاق، وهدم العاملون في المصنع الشمالي المنشأة بأمرٍ من “الهاغاناه”- الجيش اليهودي قبل تأسيس الدولة- وفروا في قوارب إلى جبل سدوم قبل أن يتعرض الموقع لهجوم محتمل من الأردنيين.

وبذلت جهود في وقت لاحق لتجديد إنتاج البوتاس في سدوم. ونصَّ تقرير لجنة حكومية في العام 1949 على أن “البحر الميت يُشكل أهم الموارد الطبيعية”. وقد تم إعداد التقرير ليكون جزءاً من جهود “لتحقيق الاستغلال الكامل والسريع والأكثر كفاءة لهذا المورِد الأساسي”. ومع ذلك، لكي تكتسب هذه الجهود زخماً استغرق الأمر حتى عام 1952، حين أممت الدولة شركة البوتاس. وقد ضُخّت استثمارات ضخمة في هذه الفترة، ولكن كانت هناك أيضاً إخفاقات كثيرة. وتقول إنغلبرغ برعام “كانت المزحة في ذلك الوقت تقول إن الشيء الوحيد الذي يغرق في البحر الميت هو المال”.

عام 1955، عُيِّن رئيس أركان الجيش الإسرائيلي السابق مُردخاي ماكليف مديراً لشركة “مصانع البحر الميت”. وقد استمر في منصبه هذا لأكثر من عشر سنوات، وكان له تأثير كبير في التطورات في المصنع خلال تلك المدة. ويصف كاتب سيرته، آموس غورين، اجتماعاً عقده ماكليف مع مرشّح لتولّي منصب كبير مهندسي الشركة، حيث عرَض المدير رؤيته؛ فقال للمهندس إن “السدود الكبرى التي ستقسم [الجزء] الجنوبي من البحر إلى برَك تبخير ومحطات ضخّ ومصانع لمُنتَجات البوتاس والبروم والماغنسيوم، تتعامَل مع البحر كأنه منجم ضخم بِكر، بالكاد بدأ العمل فيه”.

نقطة تحوّل

ثمَّ حدثت عام 1961 واحدة من أهمّ نقاط التحول في تاريخ حركة التصنيع في البحر الميت؛ إذ سنّ الكنيست “قانون امتياز البحر الميت”. فقد كان تشريعاً استثنائياً، صيغ على هيئة اتفاقية بين الدولة وبين شركة “مصانع البحر الميت”، التي كانت تمثل أيضاً شركة حكومية. ومنح هذا القانون الشركةَ حقوقاً استثنائية في مناطق شاسعة، بما في ذلك “الحق في الهدم”.

يشير نص القانون إلى “الحق الحصري في استخراج الأملاح المعدنية والمعادن والمواد الكيميائية الموجودة في البحر الميت وتحته، عن طريق التبخير (من خلال الطاقة الشمسية أو الصناعية) أو التبريد أو التعدين أو التحجير، أو بأي طريقة أخرى؛ سواء في محلول أو في صورة صلبة… والحق الحصري في الصناعة والتوسع والتعديل والصيانة في البحر الميت وتحته… بما في ذلك السدود وبرَك التبخير والبرابخ والحواجز المائية ومحطات الضخّ والقنوات والأنابيب وخطوط الكهرباء وكابلاتها والطرق ومنشآت مقاومة الفيضانات والآبار والتجاويف – ولكن دون الانتقاص من عمومية ما سبق”.

وتشير إنغلبرغ برعام إلى أن القانون سُنّ تحت ضغطٍ من البنك الدولي، الذي كان يفترض أن يضمن، إلى جانب البنوك الأميركية، بناء المرافق الجديدة لمعالجة البوتاس في جنوب البحر الميت، وأراد أن يضمن منح الشركة حرية تامة في التشغيل. في هذا المرحلة كان هناك، أيضاً، بعض مَن حذّروا من العواقب؛ فقد حذّر وزيرُ التنمية مُردخاي بنتوف وزيرَ المالية بينهاس سابير، قائلاً “يبدو لي أنه سيكون من الصعب الدفاع، أمام الرأي العام المحلي والعالمي، عن مسألة الاستسلام للمطالب التعسفية التي يقترحها السيد بلاك”، في إشارة إلى يوجين روبرت بلاك، رئيس البنك الدولي آنذاك.

بالطبع رأت أحزاب اليسار تلك الأحداث باعتبارها استيلاء استعمارياً رأسمالياً على الموارد القومية، وهاجمت القانون بشدة. فقد هاجمه ي. تومر، في صحيفة “كول هاآم”، وهي صحيفة الحزب الشيوعي، قائلاً “اختتم مجلس الوزراء، في عجالة غير معهودة، النقاش حول مصادرة كنوز البحر الميت لأصحاب رأس المال من القطاع الخاص، وإلغاء ملكية الدولة لأحد أكبر وأهم الصناعات الأساسية في بلادنا”.

وعلى رغم هذه الاحتجاجات، بدأ تشييد بنية تحتية واسعة النطاق في جنوب البحر الميت، بهدف إنشاء مصانع حديثة لاستخراج البوتاس، تحت إدارة ماكليف. وشهدت هذه الفترة أيضاً بداية ما كان سيصبح أخطر المشكلات البيئية المتعلقة بالبحر الميت؛ وهي مشكلة تعدين الأرض اللازمة لبناء السدود والبنية التحتية التي تحتاجها شركة “مصانع البحر الميت”. وهنا دخل القانون بكامل سطوته حيز التنفيذ. تقول إنغلبرغ برعام، “طلبت سلطة الطبيعة والحدائق الإسرائيلية من ماكليف عدم التنقيب في الأماكن ذات الأهمية من جهة المناظر الطبيعية والبيئة. وقد كان رده (هناك قانون امتياز، وسأنقّب كما يحلو لي). مع أنه في النهاية وافق على الإصغاء إلى التعليمات، ونقل منطقة التنقيب”.

سر جغرافي كبير

خلال ستينات القرن الماضي، بدأت تظهر الأصوات التي ترى أن البحر الميت أكثر من مجرد منجم عملاق. فعام 1963، حين كان بناء المرافق الحديثة لشركة “مصانع البحر الميت” في أوْجِه، نشرت صحيفة “دافار”- الناطقة باسم حزب “ماباي” الحاكم، وهو سلف حزب “العمل” اليوم- مقالةً سابقة لعصرها. وكتب الصحافي ناحوم بونداك في ذلك الوقت: “في البداية حوّلنا بحيرة الحُولة إلى أرضٍ زراعية، ثم حوّلنا بحيرة طبرية إلى بركة ريّ… والآن نحوّل البحر الميّت إلى مصنع للمواد الكيميائية. وقد كان هذا ممكناً لأن مستوى ميزان المدفوعات في تحسُّن، لكن المشهد الطبيعي لدينا في انحدار… جزء كبير من البحر الميت الموجود اليوم داخل حدودنا سيصبح حقلاً ملحياً شاسعاً. ولا بد أن هذا سيحدث خلال 60 إلى 70 عاماً”.

وجاء تحذير آخر عام 1966، على لسان عزريا آلون، أحد مؤسسي “جمعية حماية الطبيعة في إسرائيل”، ويعدّ أبا نداءات الحفاظ على الطبيعة في البلاد. في ذلك العام قال آلون “أمامنا عمليات قانونية وإدارية طويلة ومعقدة؛ وحتى إتمامها، سيكون من الضروري ضمان ألا يقع ما لا يمكن إصلاحه، في الصحراء وشاطئ البحر. علينا أن نتذكّر أنه بسبب الظروف المناخية لا يمكننا أن نتوقع من الطبيعة أن تُصلِح ما يُفسده البشر. إذا كانت المياه والنباتات في الشمال تُساعد على التئام الندوب، فليس هذا هو الحال في الصحراء. فكل مكان نُحدث فيه خدشاً، ولو خفيفاً، سيبقى على ذلك الحال لعشرات ومئات السنين. هذه ميزة الصحراء وعيبها في آن واحد. وإذا أردنا الحفاظ على هذا المشهد الطبيعي الذي لا مثيل له لأنفسنا، فعلينا أولاً عدم الإضرار به”.

أما عام 1973، فقد عُقدت ندوة علمية حول البحر الميت، وكان من المتحدثين فيها البروفيسور ديفيد ڤوفسي، الذي تناوَل واحدة من أخطر المسائل المتعلقة بالبحر الميت، وهي مسألة شغلت اهتمام الدولة وشركة “مصانع البحر الميت” لعقود تالية؛ ألا وهي صعود مستوى البرَك في البحر. فعلى عكس الحوض الشمالي، الذي يعاني من جفاف سريع (إذ ينخفض فيه مستوى المياه بمقدار 1.2 متر سنوياً)، فإن الحوض الجنوبي يواجه مشكلة هي العكس تماماً. مذ جف الحوض في نهاية السبعينات من القرن الماضي، صارت أراضيه هي منطقة برَك التبخير التابعة للشركة؛ إذ تقوم شركة “مصانع البحر الميت” سنوياً بضخّ المياه من الحوض الشمالي، فتُغرِق البرَك. وفي السبعينات أيضاً، حين بدأ بناء أولى الفنادق على شواطئ أكبر بركة للتبخير، كان ارتفاع مستوى البرَك لا يزال يبدو وكأنه مشكلة بعيدة.

وحذّر ڤوفسي، وهو كيميائي، قائلاً “لقد بدأت البرَك في الانسداد، وفي غضون عشر سنوات، مثلاً، سيبدو المكان الذي نجلس فيه الآن وكأنه حقل ملحي كبير. وهذا أمر يجب أن نأخذه بعين الاعتبار؛ لأنه في النهاية تُبنى الفنادق هنا، وسينمو قطاع لن تكون إيراداته ضئيلة بالتأكيد، مقارنةً بإيرادات البوتاس، ومن ثَم سيتحتّم علينا أن نجعل السدود أعلى لنتمكن من تأخير هذا المصير لبعض الوقت… وهكذا، فالعملية كلها التي نفكر فيها يجب أن تضع في اعتبارها مشكلة التخلص من الملح”.

كان ڤوفسي من أوائل المتحدثين عن ضرورة إزالة الملح من مياه البرك. لكن استغرق الأمر عقوداً قبل أن تبدأ النقاشات المكثفة حول الموضوع، وذلك عندما هددت البرك بإغراق الفنادق. وأصبحت مسألة استخراج الملح من البرك من المشكلات الاقتصادية والهندسية المعقدة، التي على الدولة التصدي لها. بعد نقاشات مطولة وبعد تأسيس شركة حكومية مُخصصة لهذا الغرض (شركة حماية البحر الميت)، توصلت الدولة وشركة إسرائيل للكيماويات لاتفاقية، وبدأت طوافة ضخمة في إزالة الملح من قاع البركة خلال العام الماضي. لكن السؤال المطروح حالياً هو ما الذي سيحدث لكل جبال الملح المحصودة تلك التي لا يريدها أحد. تتمثل أحدث أفكار شركة إسرائيل للكيماويات في وضع طبقة شاسعة من الملح إلى الشمال من الأحواض المائية لتشكيل منصة بناء لمزرعة طاقة شمسية.

تغيرت الخريطة…

وقع الحدث الكبير الذي غيّر الخريطة الطبيعية للأراضي في إسرائيل عام 1979: عندما جف الحوض الجنوبي للبحر الميت واختفى من المشهد تماماً. ولَّد هذا الحدث بعض الضجة. عثرت أوريت على مقالة صحافية تتناول هذا الموضوع كتبها إسرائيل تومر في صحيفة “يديعوت أحرنوت اليومية”. يقول تومر، “إذا ذهبت إلى جبل مسعدة، إلى الجنوب منه قليلاً، مقابل منطقة اللسان الشهيرة، ستكتشف السر الكبير. ستلاحظ فجأة أن ثمة شيئاً مفقوداً. ثمة شيء غريب هنا. عندها ستسأل نفسك متعجباً، لحظة واحدة، أين البحر؟… لم يظهر هذا التطور بعد على أيّ خارطة لإسرائيل. لا بد أن هذا أكبر سر جغرافي حدث في زماننا”.

لكن في تلك المرحلة، كان النفس الإنمائي لا يزال سائداً. وكانت شركة “مصانع البحر الميت” لا تزال تمثل رمزاً وطنياً، وحظيت أرباح شركة إسرائيل للكيماويات وكمية البوتاس التي تنتجها بتغطية صحافية مستمرة. تشير أوريت إلى أنه “مثلما ظل الجميع يتابعون منسوب المياه في بحيرة طبرية خلال الأعوام الماضية، كان الناس في ذلك الوقت يتابعون عدد أطنان البوتاس التي يتم إنتاجها كل شهر” من البحر الميت”.

من وجهة نظرها، لم تحدث نقطة التحول الحقيقية إلا في بداية الثمانينات. فقد أدى انسحاب الجيش الإسرائيلي من سيناء- عقب التوقيع على معاهدة سلام مع مصر- إلى زيادة الضغوط الرامية إلى تطوير وتنمية صحراء النقب. تلبية لذلك، بدأ يتنامى شعور بأن ذلك قد يكون مفيداً، في نهاية المطاف، من أجل الحفاظ على المساحات المكشوفة والمهجورة من الصحراء. لاحقاً، عقدت جمعية حماية البيئة في إسرائيل مؤتمراً تاريخياً في موشاف ختسفاه، في وادي عربة عام 1982. خلال المؤتمر، الذي كان بعنوان “عنصر الحفاظ على البيئة في الصهيونية”، قام الكاتبان عاموس عوز يزهار وعاموس كنان بإعادة صوغ معاني حب الأرض وغزو البرية، وبدأ الخطاب المتعلق بالصحراء، ومن ضمنها صحراء البحر الميت، في التغيُّر. قال كنان وقتها “ربما علينا إعادة النظر في تعريفنا لمفهوم الطبيعة. بالنسبة إلي، تشمل الطبيعة كل الذكريات المتعلقة بالأرض والأصوات التي تصدرها، وكل القصص التي يجب سردها عنها”.

رصدت أوريت التغيّرات الأولى في نهج شركة “مصانع البحر الميت” تجاه البيئة عام 1986، عندما بُنيت الحاملة التي تنقل البوتاس من المصنع إلى ميشور روتيم، بالقرب من مدينة ديمونة. علقت على ذلك قائلةً، “لاحظتُ أنهم بدأوا في العمل بصورة مختلفة، ولا يقتصر الأمر على الحد الأدنى المُلزمين به قانونياً”. عينت الشركة مهندس المناظر الطبيعية شلومو أرونسون والتزمت بتوصياته في ما يتعلق بتقليص الآثار التي تتركها الحاملة على التضاريس الطبيعية والسماح بحركة الحيوانات من جانب إلى آخر.

لاحقاً، بعد أقل من عشر سنوات، عندما أراد رئيس الوزراء إسحاق رابين تعديل قانون الامتياز قبل خصخصة شركة “مصانع البحر الميت”، كان من الواضح تماماً أن النقاشات العامة والسياسية المتعلقة بالبحر الميت قد تغيرت، فقد أصبحت التكلفة البيئية المترتبة على التطوير المستمر للبحر محور النقاش.

وقال يوسي سريد، وزير حماية البيئة في ذلك الوقت، “يبدو لي أن هذه كانت المرة الأولى التي تحظى فيها مسألة جودة البيئة بهذا القدر الكبير من الاهتمام، وهو ما يمكن اعتباره على أقل تقدير مكافأة لنا على كل جهودنا. لم تعد قضايا جودة البيئة مجرد مسألة تخص المتعاطفين مع البيئة أو تتعلق بالأشجار والمساحات الخضراء فحسب، بل أصبحت تشكل قضايا اقتصادية حقيقية”.

وأضافت عضوة الكنيست في ذلك الوقت (عن الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة) تمار غوجانسكي، “لا يوجد أمل لتلك الشركات إذا لم تثبت أنها تحاول حماية الجودة البيئية، وحماية المعالم الطبيعية، وحماية كل القيم المهمة للمجتمع بأكمله، بالوسائل الممكنة”. انضمت أصوات مماثلة من أعضاء في التيار اليميني للنقاش. فقد قال عضو الكنيست (عن حزب الليكود) عوزي لانداو، “مع فائق تقديري لتلك الصناعات وإسهاماتها الكبيرة… لكن من المستحيل تقبل هذه الوتيرة السريعة… هذا السعي الحثيث للخصخصة وتلك العجلة هي أمور غير حميدة… إن بناء هذا البلد ورصفه من أوله إلى آخره بالخرسانة سيُقوض جودة الحياة والبيئة وسيُلحق أضراراً جسيمة بهما، بل وسيخل أيضاً بالتوازن القائم بين البشرية والطبيعة والغطاء النباتي”.

في نهاية 2021، شهد تاريخ تطوير واستثمار البحر الميت حدثاً مهماً آخر: عندما بدأ تشغيل محطة ضخ جديدة ضخمة، تسمى “بي-9”. وتُعد المحطة- التي تقع على منصة ترتفع بضعة أمتار عن البحر، مقابل منطقة جبل مسعدة- أقوى منشأة ضخ في إسرائيل. وتتكون المحطة من هيكل معدني هائل مزود بأنابيب ومضخات تتصل بالشاطئ من خلال جسر. وقد شيدت لتحل محل المحطة السابقة، التي بقيت مهجورة بسبب انكماش البحر الميت الآخذ في الزيادة، شأنها شأن باقي سابقاتها. ومن المقرر أن تضخ 450 مليون متر مكعب سنوياً من المياه الغنية بالمعادن إلى ارتفاع يصل إلى 50 متراً من أجل نقلها عبر قناة مفتوحة باتجاه الجنوب إلى برَك التبخير التابعة لشركة “مصانع البحر الميت”.

خلافاً لوجهة النظر التقليدية، فإن عمليات استخراج البوتاس ليست هي المسؤولة عن جفاف البحر، على رغم مساهمتها المهمة. تحرم المضخات الأردنية والإسرائيلية العملاقة البحر، ما يصل إلى 20 سنتيمتراً سنوياً، إضافة إلى فقدان متر كامل نتيجة عملية التبخر، ولأن إسرائيل والأردن وسوريا وفلسطين يستغلون تقريباً كل قطرة من المياه العذبة التي يفترض أن تتدفق إلى البحر الميت. لذا فإن الحصيلة النهائية للمياه المفقودة، تصل إلى 1.2 متر سنوياً.

يقع على بعد كيلومترات قليلة شمال المنصة آخر شاطئ تأثر بفعل هذا السباق بعد انحسار الساحل: وهو “منتجع ينابيع محمية عين جدي الساخنة”، الذي أُغلق خلال الموجة الأولى من جائحة “كورونا”، قبل سنتين. وقد بدأ الغطاء النباتي عند مدخل المنتجع الفاخر يجف بالفعل، وكدس العمال صناديق داخل البناية لِتعبئة محتويات متجر الهدايا التذكارية.

عام 1963، كتب ناحوم فوندا، الذي توقع أن يتحول البحر الميت إلى “حقل ملحٍ”، أنه “عندما سأل صحافي ثاقب البصر، رئيس الوزراء ليفي أشكول، (وما الذي سيحدث تالياً؟) أخبره أشكول، (سجل رقم هاتفي عندك. وفي ما بعد يمكننا التحدث عن المستقبل)”.

هذا المقال مترجم عن haaretz.com ولقراءة الموضوع الأصلي زوروا الرابط التالي.