قراءة تأويليّة في المجموعةِ القصصيّة الموسومة بـ "مسكن الصّلصال" لسحر ملص
سحر ملص، كاتبة، وقاصّة، وروائيّة أردنيّة، وُلدتْ في دمشق، سنة 1958م، وعضوة في رابطةِ الكتّابِ الأردنيين، على أنّ أكثرَ الدّارسينَ يعرفونها قاصّة، حتّى غلبتْ شهرتها القصصيّة على شهرتها الرّوائيّة.
من أعمالها الأدبيّة القصصيّة، نذكرُ على سبيلِ المثالِ لا الحصر: شقائقَ النّعمان 1989م، وإكليل الجبل 1990م، وضجّة النّورس 1991م، ومسكن الصّلصال 1995م، وغيرها. أمّا الرّواية: العين الزّجاجيّة 2012م، ومطارح 2014(1).
القصّة القصيرة
تُعدّ القصّةُ القصيرةُ واحدةً من الفنونِ الأدبيّة النّثريّة المعبّرة والموجزة، الّتي يُمكن قراءتها في جلسةٍ واحدة، وتستمدُ بناءها الفنّيّ من الواقعِ أو الخيالِ أو كليهما معًا، وتتكوّن من مجموعةِ عناصرَ رئيسة: الفكرة، والحدث، والزّمن، والمكان، والشّخصيّات.
القراءة التأويليّة
قبل الخوضِ في القراءةِ التّأويليّة، يتعيّن هُنا التّأكيد والإقرار أنّ قراءةَ النّصّ الأدبيّ شعرًا كان أم نثرًا، فعلٌ ذهنيٌّ، ومشروع ثقافيّ، وحضاريّ، وليس من بابِ التّسليةِ والتّرف.
إنّ التّأويلَ مصطلحٌ نقديّ، وفي أبسطِ تعاريفه، فَهْمُ النّصِّ الأدبيّ، وتحليلهُ، واستكناه مضامينه، وقد استثمرَ هذا المفهوم في سياقِ هذا التّوجه ميجان الرّويلي وسعد البازعي، بحيث يُمكننا تعريف التّأويل بأنّه "إعادةُ صياغةِ المفردات والتّراكيب، من خلالِ التّعليق على النّصِّ الأدبيّ، وتوضيح مراميه بصورةٍ كلّية، وإظهار مقاصده، وشرح خصائصه وسماته" (2).
من هُنا كانتْ فكرة وضع هذه المقالة في تفسيرِ المجموعةِ القصصيّة الموسومة بمسكن الصّلصال للقاصّة الأردنيّة سحر ملص، واستنطاق المضامين انطلاقًا من السّياقِ الدّلاليّ.
وتجدر الإشارةُ إلى أنّ هذه المجموعة القصصيّة صدرتْ عن دارِ البشير، وتتضمن ثلاث عشرة قصّة، موزعة على ستٍ وثمانين صفحة (3).
إنّ البنيةَ السّرديّة في قصّةِ "العابث بالدّمى"، تحفل بالتّفاصيلِ، وطافحة بإدانةِ الآخر/الرّجل، الّذي لا يرى في المرأةِ سِوى نزوة، وشهوة، زيادةً على أنّها مجرّدة من العقلِ والعاطفةِ، تمامًا كما لو أنها الدّمية، يلهو بها ويعبث، ومن ثمّ يهجرها.
إنّ مشكلةَ السّاردةِ في القصّةِ ليس في الهجرِ، وإنّما في الحبّ الّذي ألقاهُ الرّجلُ في نفسِها، ولا تستطيع أنْ تتخلّصَ منهُ، وقد عانتْ أشدّ المعاناة والانكسار، مكتوية بحمّى سعيره ولهيبه.
والنّاظر للقصّةِ، سُرعان ما يُدرك أنّ الصّورة الّتي ترتسم للرّجلِ هي صورةٌ في منتهى الرّفض والكره، عبر سخرية مُبطّنة من منطقه المتشدد والمتذبذب، بوصفه إنسانًا حجريًّا لا تهزّه المشاعر، خبيثًا وغادرًا، وجائعًا جنسيًا.
يُفهم من القصّةِ ضمنًا، أنّ إحساسَ السّاردةِ بهذا الشّعور في القصّةِ يُعزى إلى الخيبةِ، والخذلانِ، والفشلِ من الحبِّ في إقامةِ علاقةٍ عاطفيّة طويلة الأمد مع الرّجل، وقد وهبتْ نفسَها وجسدها لهُ.
القصّة تذهبُ بالقارئ نحو المجتمع الشّرقيّ، الّذي ما زال يعيش هذه اللحظة عبر هيمنة الذكورة، حيثُ تقولُ السّاردة: "تُسافر يا سيّدي بحثًا عن تلك الدّمية، تُعجبك واحدة، شقراء باهتة، تأخذها بين يديك، وتلهو بها، والثّانية إنّها جميلة، تذهبُ إلى سوقِ الأغنام، وتتفحصها، لا شكّ أنها جيّدة للأكلِ، تدخل مزاجَك وعقلك، والحصيلة تملّها، وتبحث عن الثّالثةِ، دمية صامتة، تشتريها من سوقِ الدّمى، محنطة وجميلة، وتدخل إلى القصرِ، فلا تنعم من عبيدِك وأشيائك إلا لبضعةِ أشهر. دمية تَعصي أمرك.. دمية كاذبة.. وتملّ فتتركها أو قلْ تحطّمها، وترمي بها مع مهملات العالم القذرة".
باختصار، تُعدُّ القصة تسوية حساب المرأة مع الرّجلِ عبر رحلة في ذاكرةِ المرأة، تقتحم السّاردة نفسيّة الرّجل/يحيى، المضطربة والهشّة، وتتوغّل فيها، على أنّه معقّدٌ ومريضٌ نفسيًا، وتقدّم نموذجًا للعلاقةِ بين الرّجل والمرأة، بحيث يظهر الرّجل في حالةِ من عدمِ الإشباع الغريزي والعاطفيّ.
وفي قصّة "جروة"، جاءتْ لغةُ السّاردِ محمّلة بالدّلالةِ الرّمزية في وصفِ الحالةِ النّفسيّة، عبر تقنيةِ التّذكرِ والاسترجاع انطلاقًا من ثنائيّةِ الموت والحياة.
ومن الانطباعاتِ الرّئيسة التي يخرج بها قارئ هذه القصّة من النّظرةِ الأولى، أنّه أمام سارد، يُشكّل في القصّةِ شخصيّة محوريّة، ذلك من خلالِ السّرد بضميرِ المتكلّم.
تدور القصّة حول شخصيّة أكرم، يُعاني من حالةِ نفسيّة حادّة جدًّا، متمثلة بالخوفِ والقلقِ الدّائمين، على هيأةِ كوابيس، وأحلام، وهذيانات، إذ كثيرًا ما كان يقفُ السّاردُ عند بائعِ الدّجاج في صغره، حيث تُدرك الدّجاجات أنّ خمسَ دقائقَ لا أكثر هي ما يفصل بين موتِ الواحدةِ والأخرى، وقد كان يرقب سكّينه الحادّ، تلوّح خلف القفص، ويتخيّل نفسه إحداها.
وفقًا للقراءةِ التّأويليّة، يقفُ القارئ إزاء حالة عصابيّة ناتجة بالأساسِ عن مرحلةِ الطّفولة، استبدّتْ بالسّاردِ، لهذا لا يستطيع في وعيه التخلّص من واقعٍ قديم، يجثم بثقله عليه.
جروة بطلة القصّة، وتُشكّل شخصيّة مأساويّة، هوتْ في البئرِ، وما زال شبحُ موتها يُطارد السّارد. أحبّ السّارد/أكرم جروة، كانا يلتقيانِ قرب البئر برغمِ العداوة التي بين أبيه وأبيها والثارات بين العائلتين، وأقسم أبوها على مسمعٍ منه أن يقتلها، ولا يزوجّها إيّاه.
تتحدّثُ السّاردةُ في قصّة "العجوز" عن الحاجِ مرجي، أمّيٌّ لا يقرأ، ولا يكتب، كان يرعى الجِمال، وأعطاهُ الله ما به الآن من ملكٍ وثراء، وبالرّغمِ من فخامةِ (الفيلا)، جعل غرفة جلوسه تُشبه بيت الشَّعر، وبجانبه ترقد محماسة القهوة العربيّة.
بناءً على هذا التّوصيف، يغدو بيت الشَّعر ومتعلقاته في ضوءِ القراءةِ التّأويليّة، رمزًا ومعادلًا للماضي في مستواه الثّقافيّ بما يشكّلهُ من صفاءٍ ونقاء في مقابلِ الحنين وتوق العودةِ إلى الأيامِ الماضية، الّذي يُوحي بحياةِ البداوة الشّاقة الّتي كان يعيشها الإنسان العربيّ، فالبيت لا يعني بالنّسبةِ للعجوزِ مجرّد مكانٍ بسيطٍ، ولكنّهُ الذّكريات، والطّفولة، والوطن.
أمّا قصّة "الانتظار" الّتي تأخذ طابع الذّكريات، فتنبض بالدّلالةِ السّلبيّة؛ إذ نقفُ على المضمونِ منذ العنوان، مما يُوحي إلى المصيرِ المجهول، حيثُ تروي السّاردةُ قصّة أبيها، الّذي كان يعمل في محطّةِ القطّار، وقد أصرّ على قضاءِ الليلة في بيته القريب من سكّة القطار، وإذا ما نظرنا في دلالةِ محطّة القطار تبعًا للقراءةِ التّأويليّة، سنجدُ بأنّها تحملُ دلالة سلبيّة، فهي تشير إلى اقترابِ الأجلِ والموت، ومما يؤكّد ما ذهبنا إليه موت الأب في نهايةِ القصّة. عندما تنبهت السّاردة من رقدتها أدركتْ أنّها غفت قليلًا، أسرعتْ إلى سرير أبيها لتجده ميتًا ساكنًا.
و"عامل الحانوتي"، قصّة لا تخلو من السّخريةِ والنّقد، والحانوتي، الشّخص الّذي يقوم بعملِ توابيتَ للميتين، ومن ثم تغسيلهم وتكفينهم، وعامل الحانوتي في القصّةِ شخصيّة ظريفة وفقيرة، اضطر إلى هذا العمل؛ بسبب الجوع.
قصّة تدور حول نقد طقوس الجنازة عند المسيحيّين الموسرين، حيثُ الاحتفالاتُ المهيبة، والمواكبُ الجليلة، وصبغُ الجسم بالزّعفران، والمسكُ، والعطورُ الفاخرة.
وكثيرًا ما كان عامل الحانوتي يتساءل عن سببِ اختيارِ ذوي الميت التّابوت، فهذا تابوت أمريكي، وذاك فرنسي، كما لو كانتْ الملائكة ستخاطب الميّت حسب لغة بلد صانع التّابوت!
وتتأسس قصّة "مدينة الدّمى" على ثنائيّةٍ محوريّة، طرفاها: البقاء والفناء، تفرض نفسها في هذه القصّة، التي تُلمح إلى حالةِ من الصّراعِ الدّائر في العالمِ والواقع، قصّة البحث عن الحقيقةِ، والكشف عن سرّ الحياة.
وعلى الثّنائيةِ ذاتها، نجد الكاتبةَ تواصل تجربتها في بناءِ قصّة "وجوه بين الموت والحياة" بالمضمونِ السّابق نفسه تقريبًا، إذ تدورُ أحداثُ القصّةِ حول إدانة الحرب الضّارية، وقد حصدتْ جرّاء ذلك أرواحًا كثيرة، كما تتحدثُ عن طبيبٍ، كرّس حياته للطّب، عازف عن الزّواج لأسباب لم يبح بها بتاتًا، والسّبب في ذلك عدم الاستقرار في الحياة، فالعيش في ظلّ الحربِ أشبه ما يكون بالمقبرة من وجهة نظر الطّبيب. الحرب من منطوق القصّة ليس طريقًا للسّلام، إذ لا تميّز بين طفل وشيخ، مسلم ومسيحي، مدني وعسكري.
قصّة "الأوكالبتوس" تتضمن الحديث عن جلاءِ المحتّل الفرنسيّ من سورية ومناهضته ومقاومته، والحصول على الاستقلالِ ـ من وجهةِ نظر الشّخصيّة ـ لا يكون إلاّ بالجهادِ، والعمل، والإيمان. والأوكالبتوس نبات تُستعمل أوراقه لمعالجةِ الجروح، على أنّ القراءةَ التّأويليّة تُشير إلى أنّ الأوكالبتوس في القصّةِ يرمز إلى النّضالِ والكفاح والمقاومة، حيثُ بطلُ القصّةِ مؤذن، وثوري، ومقاوم، بترتْ قدمه إثر سقوط صندوق الذّخيرة عليها، حيثُ طلبَ الطّبيب الشّعبيّ أن يغلي أوراق الأوكالبتوس، ويضعها على ساقهِ المبتورة.
و"الموت الأصفر" قصّة تُدين الإنسان بوصفه محراكًا للشّرِ، ومصدرًا للحربِ، هذا وقد ظهر الواقعُ في صورةٍ منفّرة، تبعثُ على الرّعبِ والخوف، حيثُ الجثثُ، والأشلاءُ الميتة، والوجوهُ المهشّمة، والدّماءُ النازفة، والأيدي المقطوعة، مما يشي بقلقِ السّاردةِ وحاجتها إلى الطّمأنينةِ والسّلامِ الّذي يخلصها من رعبِ الواقع. قصّة تدين الحرب، ومن النّاحيةِ البنائيّةِ تنهض القصّة على ثنائيّةِ الحياة والموت، السّلام والحرب، الحبّ والكره. والنّاظر في القصّةِ، سُرعان ما يُدرك فظاعة المشاهد وبشاعتها، بحيث يرتسم المكان بها، من خلالِ صورة في منتهى البشاعةِ والفظاعة.
ولا تخرج قصّة "الجنرال" المكتنزة بالطّاقةِ المجازيّة والرّمزيّة عن موضوعِ المعركة والحرب، فالجنرال رمز البطش، والرّعب، والخوف، هذا وقد قدّم ساردُ القصّةِ الجنرال كطاغية مستبد، وقد خاض معارك كثيرة، وقتل من الأرواحِ ما يقشعر له البدن، وكثيرًا ما كان يُعاني من القلقِ إلى الحدّ الذي جعلهُ يهذي إلى أن مات وحيدًا.
و"مدينة السّلام"، قصّة من وحي الواقعِ والحقيقة، تدور حول سفينة تحمل خبزًا وماء للأطفال. وقصّة "القط الأسود" قصّة رمزيّة، بما يمثله القطّ الأسود من كنايةٍ عن الموتِ والقدر، إذ تُقسم السّاردةُ في استهلالِ القصّة بأنها قصّةٌ حقيقيّةٌ، ولا علاقة لها بالنّاقدِ الأدبيّ والشّاعر الأمريكي الرّومانسيّ أدجار بو وإرهاصاته، الذي اشتهر بحكاياته المروّعة. وعلى العمومِ، فإنّ القصّة تدور حول دهس قط أسود وانزلاقه تحت عجلات السّيارة، في مشهدٍ دراماتيكي مخيف ومرعب، والشّيء المدهش أنّ هذا القطّ كثيرًا ما يلاحق السّاردة ويتمثل لها في جميعِ الأماكن.
نجد أن قصّة "مسكن الصّلصال"، وهي القصّة الأخيرة في تعدادِ القصّص، قصّة تأخذ الطّابع الفلسفيّ في نقلِ واقعِ التّجربةِ إلى واقعِ القصّةِ ولغة الرّمزِ والإيحاء.
الحاصلُ في القصّة، أنها تدورُ حول زوج السّاردةِ، يعملُ نحاتًا، وكانتْ مخلوقاته المنحوتة لا تُشبه كثيرًا المخلوقات، تمثال صلصاليّ مسجّى، وطحالب عفنة، بدأتْ تأكل الوجه والأصابع. وبالتّأويلِ فإنّ التّمثالَ معادلٌ موضوعي للإنسانِ بعد الموت، حيثُ تلتهمهُ العفونة في باطنِ الأرض.
وفي الختامِ يُمكن أنْ نُشير إلى الخلاصةِ الّتي توصلّ إليها المقال من منظورِ القراءة التّأويليّة؛ فمجموعة مسكن الصّلصال تحتفي بلغةِ المجاز النّاهضة على البلاغةِ، وتحمل في الوقتِ نفسِهِ أبعادًا دلاليّة تتجلّى في الصّورةِ والرّمز.
باحث وناقد مستقل ـ الأردن.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصادر والمراجع
(1) انظر، معجم الأدباء الأردنيين في العصر الحديث، ط1 ـ 2014م، منشورات وزارة الثقافة الأردنيّة، ص 123.
(2) دليل النّاقد الأدبيّ: سعد البازعي، وميجان الرّويلي، ط3 ـ 2002م، المركز الثقافيّ العربي، المغرب، ص 88.
(3) مسكن الصّلصال: سحر ملص، ط1 ـ 1995م، دار البشير للنّشر والتّوزيع، عمّان.