في حقّ الشعب الفلسطيني بالدفاع عن نفسه
بات واضحاً وضوح الشمس بعد الهجوم الهمجي على بلدة حوّارة والقرى المجاورة لها أن موضوع الحماية للشعب الفلسطيني، وخاصة في المناطق المجاورة للمستوطنين، أهم أولوية. فقد ثبت أن الاتفاقيات المبرمة والوعود الأميركية والعربية غير كافية للجم المحتل الإسرائيلي، رغم تغيير بدأ يُرى في المواقف الأميركية المعلنة. فقد شكّل وصف الناطق باسم الخارجية الأميركية، نيد برايس، دعوة وزير إسرائيلي إلى إبادة حوّارة بأنها "غير مسؤولة وبغيضة ومثيرة للاشمئزاز" موقفاً غير مسبوق في السياسة الأميركية. وقد يعتبر بعضهم هذا الوصف اعترافاً من المؤسسة الأميركية الرسمية بأنها بدأت التراجع البطيء عن عشقها دولة الاحتلال الإسرائيلي. ولم يكتفِ الناطق بهذا الوصف، بل اعتبر أن وزيراً إسرائيلياً (وزير المالية بتسلئيل سموتريتش) قام بعملية تحريض على العنف ضد الفلسطينيين. وتبعت هذا الاعتراف مطالبة أميركية من رئيس الوزراء الإسرائيلي وأركان حكومته بضرورة "رفض تصريحات الوزير علناً وإنكارها". والغريب أنه قبل يوم من هذا التغيير الكبير، كان الناطق الأميركي ملتزماً الرواية الإسرائيلية، حيث وصف عملية المقاومة الفلسطينية ضد مستوطنين غير شرعيين في الأراضي المحتلة بأنها عمل إرهابي، ووصف ما ارتكبه المستوطنون المدعومون من الجيش الإسرائيلي، بالعنف. ويبدو أن محاولة إرهاب بلدة بأكملها من خلال قتل وجرح وحرق وتخريب (بما في ذلك حرق مضخّة مياه القرية) عمل عنيف فقط!
من الصعب تخمين أن هذا التحوّل الأميركي جاء مصادفة، فالواضح أن التصريحات العنصرية للوزير الإسرائيلي، وقد تزامنت مع نشر فيديوهات وصور النيران تعلو من بلدة فلسطينية تحت الاحتلال، وفي مناطق تحت مسؤولية الجيش الإسرائيلي، الداعم للمستوطنين كان لها تأثير مباشر بصنّاع القرار في واشنطن. كذلك من الصعب أن يكون الأميركان غير مكترثين برد الفعل العالمي، وحتى في أوساط اليهود الأميركيين لحادثة حوارة. وقد تكون صورة مستوطنين يرقصون أمام البلدة المحترقة، التي زارها في اليوم التالي المسؤول في الخارجية الأميركية، هادي عمر، قد أوضحت، في ما لا شك فيه، أن ما يجري منذ مدة أمر غير مقبول ومنافٍ لعبارة "القيم المشتركة مع إسرائيل" التي يكرّرها المسؤولون الأميركان.
ما يحدُث في واشنطن يشبه تجارب الخلافات بين العشاق عند اكتشاف أحدهما خيانة الآخر. يقول المثل العربي: "الحب عمى والعشق سم قاتل". ويبدو أن العشيق الأميركي الذي كان يغمض عينيه عن الخيانات المتكرّرة اكتشف أخيراً بأم عينه خيانة تلك القيم. والمؤكّد أن عشيقته كانت كل الوقت تخونه وتمثل أمامه بالولاء بوجود قيم مشابهة، ثم طفح الكيل وكانت الخيانة مكشوفة ومفضوحة.
ما حدث في حوارة أمام أعين العالم خلا من المحاولات الإسرائيلية (الغارقة في صراع داخلي) المتكرّرة بضخ رواية معاكسة، فمن العادة أن تلجأ إسرائيل، كما إبّان اغتيال الصحافية الأميركية الفلسطينية شيرين أبو عاقلة، إلى رواية مضلّلة، عندما ادّعت أن الشهيدة ربما قُتلت بنيران فلسطينية صديقة.
من المبكّر الاعتقاد أن هناك تغييراً استراتيجياً، ولكن الأطراف المختلفة حالياً أكثر من أي وقت سابق تعرف بوضوح الجهة المحرضة والقائمة على القتل والإرهاب، ومن هم ضحايا الصراع الإسرائيلي الفلسطيني. فقبل الجريمة في حوارة، كان ممثل الحكومة الأميركية ومسؤولون أمنيون وسياسيون في الأردن يشرفون على مبادرة لتخفيض حدّة التوتر. وكان الطرف الفلسطيني يؤكّد، كما في السابق، أن لا جدوى من قبول الوعود الإسرائيلية، إلا أن الأميركان أصرّوا على عقد اجتماعات العقبة، رغم المجزرة في نابلس قبل أيام، التي أدّت إلى استشهاد 11 بينهم طفل ومسنّون غير مسلحين. وانتهى لقاء العقبة ببيان يتعهد فيه الجميع باحترام الاتفاقيات الموقعة، وعدم القيام بأي "عمل أحادي الجانب يقوّض حل الدولتين". وقد تساءل الجانب الفلسطيني في هذا اللقاء عمّن يضمن التزام إسرائيل به، وكانت الإجابة أن الأميركان، ومعهم الأردن ومصر، يضمنون التزام الإسرائيليين، إلا أن هؤلاء تنصلوا، بعد ساعات، ولم تفد كل تلك الضمانات في حماية أهل قرية حوّارة وبورين وعصيرة القبلية من إرهاب المستوطنين المحميين من جيش الاحتلال، رغم توقيع ممثليهم اتفاق العقبة.
من الصعب التنبؤ بأننا بصدد رؤية طلاق أميركي إسرائيلي، ولكن ما لا شك فيه أن العشق الأميركي لإسرائيل يتقهقر. نحن في فترة انتقالية نوعاً ما، ستشمل إعادة النظر في مبدأ وجود قيم مشتركة مع دولة تطبّق التمييز العنصري، وتحرق القرى انتقاماً وتقوم بأعمال إرهابية، حتى ماكنة إسرائيل الإعلامية لم تستطع أن تبرّرها. وقد جاء التغيير في الموقف الأميركي أيضاً بعد تردّد دول في الخليج مطبّعة، رغم إصرارها على التعاون والتنسيق مع المحتلّ الإسرائيلي، إلا أنها لا تستطيع أن تبرّر أي تعاون في ظل المجازر والحرق والإرهاب ضد الشعب الفلسطيني. وقد رفضت الإمارات استقبال نتنياهو بعد مجزرة جنين. ورغم الوعود الأميركية والإسرائيلية بأن الجيش الإسرائيلي لن يقتحم المدن مقابل سحب قرار مجلس الأمن، إلا أن الجيش المذكور ارتكب مجزرة نابلس، وتعرّض سكان ثلاث قرى فلسطينية لإرهاب المستوطنين المحميين من الجيش، وبدّدت تصريحات الوزير العنصري أي مصداقية إسرائيلية أو أميركية بشأن تصرّفات المحتل الإسرائيلي.
قد يحاول بعضهم إعادة بناء الثقة، ولكن الفترة المقبلة لن تكون كسابقتها، فرغم أن العشق الأميركي (والغربي) لإسرائيل يبدو أنه انتهى، إلا أن واشنطن ولندن وباريس وبروكسل ستستمر بالتعاون مع إسرائيل ودعمها مالياً واقتصادياً وعسكرياً وسياسياً، ولكنه لن يكون دعماً نابعاً من عشق أعمى، بل من المأمول أن يكون بحذر مرتبط بنتائج ملموسة، وليس بوعود لا ضمان لها.
لقد جاء الوقت لأن تعترف القيادة الفلسطينية بأنه لا بد من الاعتماد على النفس، خصوصاً في مجال حماية الشعب، ما دام الاحتلال غير ملتزم الاتفاقيات، والجانب الأميركي غير قادر على محاسبة إسرائيل عند خرقها ضماناتها.
المطلوب من القيادة الفلسطينية، وخصوصاً القوة الأمنية، أن تتوسّع في وجودها المسلح خارج مناطق "أ" إلى القرى، وخصوصاً المحاذية للمستوطنات. كذلك يجب تغيير أسس الاشتباك في مناطق وجوده، بحيث يوضح لإسرائيل وللعالم أن للشعب الفلسطيني الحقّ في الدفاع عن نفسه. يقول المثل العربي: "لا يحكّ جلدك إلا ظفرك"، وقد جاء الوقت للقيادة الفلسطينية لأن تعمل، ليل نهار، للوصول إلى وحدة وطنية حقيقية مبنية على موضوع الحماية. والحماية هي الأمانة التي وفرها الشعب للقيادة، وإذا لم تستطع أي قيادة حماية شعبها، من خلال ضمانات دولية أو عربية، أو من خلال الاعتماد الأمني الذاتي، يجب أن تأخذ العبر، وتقوم بما هو منطقيّ في ظل عدم القدرة على توفير تلك الحماية.