عنصريون ضد العنصرية
بينما كان عالم التواصل الاجتماعي "العربي" منهمكا جدا في انتقاد كل ما يحدث في الولايات المتحدة الأميركية، وصار كل عربي تقريبا يسطر الإدانات الغاضبة على التمييز والعنصرية عقب مقتل "جورج فلويد" والذي لقبه أحد المعلقين في أحد الصفحات بالشهيد فانهالت عليه الشتائم وفتاوي التكفير لأن فلويد "كافر" ولا يجوز أن يتم احتسابه شهيدا!
في خضم ذلك كله، كان يوم الأحد في الأردن، وهو بحكم نشأتي مصدر أكثر الصفحات التي أتابعها، يوما استثنائيا حين قررت الحكومة فتح الحجر والحظر الذي دام طويلا، فتم السماح للمؤمنين "بالإسلام والمسيحية" أداء الصلوات في المساجد والكنائس.
قامت محطات تلفزيونية أردنية ببث الصلوات وقداس يوم الأحد على شاشاتها، لكنها أيضا قامت بذات البث على صفحاتها في مواقع التواصل التي "وبالضرورة" هي مفتوحة للتعليقات.
كان كم السخرية المؤذية، ذات النفس الإقصائي التي وجهها معلقون "مسلمون" ضد "شركائهم في الوطن" المسيحيين كافيا للتأكد أن مشروع "قندهار" و "بيشاور" على بعد حفنة من الانهيارات الوشيكة.
صرت أقوم بانتقاء بعض التعليقات العنصرية والدينية الإقصائية وأدخل ما تيسر لي إلى صفحات أصحابها الشخصية والمفتوحة للعموم، لأجد العنصري الذي يلغي وجود "شريك المواطنة" بالسخرية من دينه، هو ذاته الذي ينتقد العنصرية في أميركا!
أحدهم، وهو يعرف بنفسه كإعلامي، انتقد بقوة كل العنصرية في الولايات المتحدة الأميركية، لكن صفحته "منبره الإعلامي الوحيد" أيضا مليئة بالعنصرية الجندرية والجنسية ضد المرأة، ودعوات علنية لتحجيم دورها فهي ناقصة عقل ودين، ورمز الشرف للرجل حسب قوله.
ما أثار استغرابي هو أن القائمين على تلك القنوات الأردنية، يعرفون بلا شك أن العنصرية الدينية حاضرة وبشكل متزايد في المجتمع (مثل حضور الشوفينية الوطنية بين شرق النهر وغربه)، لكنهم ومع تلك المعرفة قاموا ببث القداس على صفحات فيسبوك، بخيار مفتوح للتعليقات التي لا يمكن السيطرة عليها، ولك أن تتخيل حجم الاضطهاد والتنمر الذي تعرض له "شركاء الوطن" في دولة ينسحب منها مفهوم المواطنة لحساب مفاهيم متناقضة أقل شأنا وانغلاقا وأكثر ضيقا، وهذا تنمر "مجتمعي" خطير، عواقبه الأكثر قربا، التفكير المباشر بالهجرة والرحيل وفض تلك "الشراكة الوطنية".
وهذا بالضبط ما حدث في الأراضي الفلسطينية مثلا، فحسب تقرير نشرته "الحرة" ، أن نسبة كبيرة من المسيحيين الفلسطينيين البالغ مجمل عددهم 47 ألف مسيحي من أصل 6 مليون في الضفة والقطاع، يرغبون بالهجرة والرحيل أسوة بمن سبقهم.
و"من سبقهم" هم أعداد كبيرة إذا قرأنا في نفس التقرير تلك الأرقام الإحصائية المثيرة للدهشة، ففي بيت لحم، حيث ولد المسيح نفسه، كان نسبة المسيحيين فيها تبلغ 84 في المئة عام 1922، وهذه نسبة منطقية جدا لمدينة هي مهد المسيحية حرفيا، لكن النسبة تنخفض عام 2007 إلى 28 في المئة! وفي ذات الأرقام الإحصائية التي اعتمدت استبيانات منهجية، فإن 43 في المئة من مجمل المسيحيين الفلسطينيين يشعرون أن المسلمين لا يرغبون بوجودهم.
ومع ذلك، فإنك ستضحك كثيرا وأنت تقرأ وتسمع وتشاهد الانتقاد الفلسطيني للعنصرية في أميركا! هذا الفلسطيني نفسه الذي يتعرض أيضا لعنصرية تحت الاحتلال، قادر على أن يكون عنصريا لا ضد المسيحي "شريك الوطن" وحسب، بل ضد المرأة أيضا "شريكة المجتمع" فهي هنا كذلك رمز الشرف والعفة للرجل الغاضب من كل ما يحدث في مينيابوليس من عنصرية!
المصريون، في وسائل التواصل الاجتماعي لم يقصروا كذلك في الانتقاد ثم الوعظ في وسائل الإعلام التي أصبحت ديمقراطية جدا، لكنهم غفلوا "وجل من لا يسهو ويغفل"، عن كل أنواع العنصرية والإقصاء عموديا وأفقيا في مصر؛ العنصرية ضد المرأة، والعنصرية الإقصائية الدموية والتاريخية مع الأقباط، أهل الأرض قبل أن يكونوا "شركاء الوطن" بالضرورة التاريخية.
وطبعا قمة العنصرية هي عنصرية النخبة "البوليسية" الفاسدة والثرية ضد باقي أفراد المجتمع، عنصرية نخب الجيش ضد باقي الأفراد في الجيش نفسه، ثم عنصرية الجيش على الشعب.
لبنان، الرازح تحت عنصرية أمراء الحرب والمال، أيضا أشعلوا في شوارعه "المحترقة غضبا" الشموع تضامنا مع السود في أميركا، لكن هي ذات الشوارع التي يتشرد فيها نساء أفريقيات قدمن للعمل مدبرات منازل، شردهن الإقصاء العنصري، ومن لم تتشرد بعد، فلا تزال أسيرة في منزل له أسياده، تماما مثل أسرى سفن العبودية التي كان لها أسيادها العنصريون.
في الخليج كذلك، هل يمكن لأحد أن ينكر العنصرية من الجميع هناك (مواطنون ووافدون عرب) ضد الهنود والبنغال والفلبينيين، حتى الباكستاني هناك له درجة عبودية أرفع قليلا بحكم الدين، وهذا تمييز حتى في التمييز نفسه، لكن محطات تلك الدول ووسائل التواصل فيها خصوصا "تويتر" تنتقد وبشدة تلك العنصرية ضد السود في أميركا!
العراق، تمزقه الطائفية حد الدم المسفوح مجانا على ذمة الهوية، لكن كثيرا من العراقيين لم يتركوا القصة الأميركية تمر بسلام دون انتقاد هذا التاريخ العنصري في الولايات المتحدة. صار الحديث عن التاريخ نفسه، ونسي الجميع أن العالم الإسلامي كله مقسوم بسبب خلاف على السلطة بين أبناء عم من جد واحد في قريش، والشاهد دوما قميص عثمان الذي كان أول خيط الدم الممتد من القرن السابع حتى اليوم.
المغرب العربي، وتقارير حقوق الإنسان عن العبودية لا العنصرية وحسب في بعض جغرافيته البعيدة، والعنصرية ضد أهل الجغرافيا الأصليين من شعوب الأمازيغ المحرومين من حقوقهم التاريخية على أرضهم، لكن هذا كله يجعل المأساة ملهاة حين تقرأ وتسمع وتشاهد كثيرا من الغضب "المغاربي" على العنصرية في الولايات المتحدة.
في العالم العربي كله، وبالمجمل، هناك عنصرية إقصائية، تلك التي تقصي أغلبية الناس ـ المواطنين افتراضا ـ ليصبحوا تابعية لا أكثر لنخب أقلية، يحكمها قائد ملهم واستثنائي وله رؤية عصرية وتقدمية لرفعة الوطن ونهضته، فلا مؤسسات ولا دستور ولا قانون يمكن أن يضاهي هذا القائد وعصابته من النخبة.
لن أتحدث كثيرا عن الإعلام الإيراني (ومشتقاته العربية المقاومة) فإيران نظامها كله هو عمارة من زجاج بالغ الهشاشة، ومن المضحك أن يرمي سكان العمارة من أولياء الفقيه حجارتهم على العنصرية في أميركا.
♦♦♦
طيب، فلنعد إلى أميركا وتداعيات الحدث فيها.
نعم.. هناك عنصرية، ولها تاريخها الذي لم تنكره أدبيات المجتمع الأميركي، وهناك حرية تعبير سمحت لتلك الأدبيات أن تظهر في السينما والتلفزيون والكتب والمطبوعات والساحات العامة.
العنصرية لم تختف يوما في مجتمع ديناميكي متعدد ومتنوع مثل المجتمع الأميركي.
الفرق بين هناك والعالم العربي، أن جورج فلويد، بموته المؤسف والبشع كان مفصلا تاريخيا لحركة تغيير جديدة، لتطور مجتمعي جديد بعد صدمة كبيرة.
الحزب الديمقراطي تاريخيا هو الذي قاتل بشراسة لترسيخ العبودية في الجنوب الأميركي، وهو المسؤول تاريخيا عن عقود طويلة من العنصرية، وأبراهام لنكولن "محرر العبيد" كما كان لقبه، كان من الحزب الجمهوري.
اليوم، الحزب الديمقراطي بكل قياداته وعلى رأسهم نانسي بيلوسي، تقدموا بتشريع تاريخي قد يغير من منهجية العمل الشرطي في كل الولايات.. تشريع هذا زمانه ربما، وكل تلك القيادات التي ورثت الحزب المسؤول تاريخيا عن العبودية، ركعوا على ركبة واحدة ورؤوسهم منحنية لجورج فلويد وكل المجتمع الملون في الولايات المتحدة.
الحزب الجمهوري، الذي كان تاريخيا صاحب المبادرة في "تحرير العبيد"، متهم اليوم في أميركا بالعنصرية.
ماذا سيحدث برأيكم؟
كل ما سيحدث أن الحزب الجمهوري وضمن ذات الديناميكية سيتغير، سينتفض وربما يستعيد ذاته التي فقدها في لعبة انتخابية عميقة على عهد الرئيس السابق نيكسون.
باختصار أيها السيدات والسادة من كل دين ومذهب وعرق ولون وجنس، تلك هي ديناميكية الدولة الديمقراطية، دولة المؤسسات والقانون. تلك هي الدولة المدنية التي ينقص وجودها في دول العالم العربي، الغارق في أكثر من صيغة للعنصرية في داخله لكنه غاضب جدا من عنصرية أميركا.
وأخيرا...
فلنقرأ هذا التقرير عن العبودية الحديثة في عالمنا اليوم، ولا يندهش أحد من الأرقام التي لا تكذب، حين يرى اسم دولته من بين 19 دولة عربية تم توثيق ممارسات العبودية بها.
*المصدر الحرة