عبده لم يعد مشتاق
مثل كثيرين، أختلف سياسياً مع الراحلين الكبيرين الفنان مصطفى حسين رسام الكاريكاتير الأشهر في مؤسسة أخبار اليوم المصرية والكاتب الساخر أحمد رجب في المؤسسة نفسها، إلا أن ما لا يمكن إنكاره هو التأثير العميق الذي تركه هذان العملاقان في وجدان القارئ المصري والعربي من خلال الشخصيات التي جسدها رجب بقلمه وحسين بريشته، وكأني بهما ينطقان بلسان حال الدول العربية من خلال تلكم الشخصيات التي عاشت معهما لعقود وستظل حيةً في الوجدان ربما لقرون.
عبده مشتاق، هي إحدى شخصيات رجب وحسين التي تجسد الإنسان المتملق التواق للمنصب والسلطة الذي يستشعر إرهاصات التغييرات في المناصب والمواقع كما تستشعر الحيوانات وقوع الزلازل قبل البشر، ليبدأ بالإحماء والاستعداد لخوض معركة جذب الانتباه وإشعار من لا يقيمون له وزناً بوجوده زائراً لعتبات أولي الأمر المقدسة بحلّته الرمادية القاتمة ونظاراته "كعب الكُبّاية"، ليعود بعد تقديم القرابين لصاد وسين، إلى بيته فيرتدي دشداشته البيضاء ويتسمر أمام هاتفه الأرضي ذي القرص منتظراً الرَنّة المنشودة التي تزف إليه نبأ شموله بالعطف والنعمة وتبشّره بمنصب لا يهم عبده طبيعته أو ملائمته له لا سمح الله، فهذا آخر ما يشغل باله لأن عبده يعلم ويؤمن أن لو كان في المناصب الشخص المناسب؛ لما كان لطريقه إليها دليل ولا لطموحه لشغلها سبيل. كل ما يهم عبده نوال المراد وأن يصبح من "رجال الدولة" وسادة البلاد، إلا أن أمل عبده في كل مرة كان يخيب وضربة حظه لا تصيب؛ ليظل للمنصب مشتاقاً ولزهوته توّاقاً، فلا يحقق عبده مرامه ولا هو ينقطع رجائه، هكذا كتب أحمد رجب ومصطفى حسين قدر عبده مشتاق، أن يقضي حياته أسير الهاتف والشاشة وحبيس البدلة والدشداشة.
تغير قدر عبده مشتاق بعد أن تجاوز حقبة رجب وحسين، فبات أكثر حداثةً ومواكبةً للتطورات التي اجتاحت وسائل الإعلام والاتصال، فلم يعد عبده بحاجة للتنقل وزيارة العتبات والمقامات وأصحاب الياقات، فما عليه إلا أن ينشر على صفحته على فيسبوك أو غيره عبارات تشيد وتثني بكل قادم وتلعن وتسب من رحلوا، ولم يعد أيضاً بحاجة للجلوس منتظراً أمام الهاتف الأرضي، فكل ما عليه هو أن يبقي جهازه الخلوي مشحوناً وأن يحرص دائماً على حمله معه في اليقظة والمنام، في الشارع وفي الحمام، وأن يبقيه دائماً على وضعية غير صامتة، فصوت الجرس وذبذبات الاهتزاز مع كل مكالمة واردة من رقم لا يعرفه خصوصاً لو كان رقماً أرضيا؛ تثير في جسمه قشعريرة ينكمش منها جلده ويتبثّر، فللإنتظار ولوعة الشوق السياسي لذةً لا يعرفها إلا العاشقون.
ظاهرة تسريب أسماء وقوائم ما أنزل الله بها من سلطان التي تسبق أي تغييرات وتشكيلات مزمعة في المواقع القيادية في الدول التي ما تزال فيها الحاكمية طفلاً قاصراً فلم تصبح رشيدة بعد، هي إحدى تكتيكات عبده مشتاق الجديدة التي تستثمر وسائل التواصل الاجتماعي بقليل من الإبداع وكثير من التبجح؛ ليضع عبده نفسه المكتوية بجوى الاشتياق للمنصب على رادار من يقودون المشهد ويهندسونه، وهذا المسلك يؤشر إلى تطور يستحق التأمل في شخصية عبده ونمط تفكيره وسلوكياته، فهو لم يعد يُلبِس شوقه المستعر للمنصب ثوب التؤدة والرصانة المصطنعتين كما كان يفعل والده المشتاق الأكبر الذي عاش في كنف رجب وحسين، فهو الآن يجاهر برغبته الجامحة بعقد قرانه على السلطة حتى لو تفاوتت الأحجام والقدرات بينه وبين المنصب، ولا يأبه عبده بسائر شروط عقد القران، فلا شهود ولا كفاءة، لكن لا بد من إذن الولي والإشهار طبعا، أما المهر بعاجله وآجله، فذاك أيسر المطلوب، إذ يوقن عبده أن مجرد تعلق شغاف قلبه بالمنصب مع شيء من التسلّق وبعض التملق المدروس يكفي مهراً لينال المراد ممن بيده عقدة النكاح.
عبده مشتاق أيامنا هذه ليس مثل والده المشتاق الأكبر الذي كانت حرفته في الحياة الاشتياق وانتظار المكالمة الموعودة، إذ ثمة تكتيك جديد تعلمه عبده مشتاقنا مما عاينه من تجارب حية، فهو حينما يستبد به الشوق وينفد صبره؛ لا يؤجل حلمه ويعود للجلوس بجوار الهاتف كما كان يفعل أبوه، بل يحمل طبلته التي يتكسب منها وله فيها مآرب أخرى، مسارعاً للوقوف تحت نافذة من استخفّوا باشتياقه وسفّهوا حلمه ليبدأ وصلة ردح ظاهرها النقد والتنكيل، وباطنها العتب والتطبيل، فإذا ما أراد المعنيون بردح عبده الستر والسكينة، ألقوا إليه لقمةً ليلوكها وينشغل بها عنهم.
الأقلام التي تنبري مع كل تغيير لا يغير في الواقع شيءً، لتلون الباهت وتزركش القاحط، والمعارضة المعلقة على شرط واقف هو الظفر ولو بالنذر اليسير من الكعكة أو حتى بقطعة "بيتيفور"، بشائر تشير إلى أن عبده لم يعد مشتاق ولن يُكتَب عليه كما كُتِبَ على والده شقاء الاشتياق.