في أحياء العاصمة الأردنية عمّان المزدحمة ينعكس المشهد الانتخابي الأردني بسوريالية، ومن ذلك أنه فيما تتزاحم يافطات وصور للمرشّحين للانتخابات، في وسط "أحد الدواوير"، تتوسّطها صورةٌ كبيرةٌ لإعلان لـ"سيرك" عالمي يبدأ جولته في العاصمة عشية يوم الانتخابات تقريباً (10 سبتمبر/ أيلول الحالي). مئات الصور للمرشّحين والمرشّحات تغصّ بها شوارع المملكة شمالاً وجنوباً، شرقاً وغرباً، ما يشبه "السيرك" فعلاً، فوضى في نشر المواد الدعائية، وتناقضٌ، وسقوف عالية لوعود (وبيانات) المتنافسين على مقاعد البرلمان المقبل، والظنّ أنّهم يعرفون سلفاً أنّنا جميعاً نعلم أنّ أغلبها لن يتحقّق بعد فضّ هذا "السيرك"، أو "العرس الانتخابي" كما اعتاد الأردنيون تسميته، إمّا قناعة من بعضهم، أو تندّراً من كثيرين.
ببساطة، تظهر لأيّ مراقب حدّة المنافسة في المناطق والدوائر الانتخابية تبعاً للازدحام في المقارّ، وزخم الصور واللافتات في الشوارع والحارات التي لم تسْلَم لا من تدخّلات "الفوتوشوب" افتراضياً، ولا من عبث الأيدي واقعياً، بعد تذمّر كثيرين من الفوضى البصرية التي سبّبتها تلك الصور، حتّى إنّ بعضها كاد أنّ يسبّب حوادث سير كارثية، نتيجة وضعها في أماكن تحجب الرؤية في نقاط عمياء خطرة أو حتّى عند إشارات ضوئية في أكثر المناطق ازدحاماً.
متى يقتنع المجتمع الأردني بأنّ لمشاركة المرأة، ومعها الشباب، تأثيراً إيجابياً حقيقياً في المشهد السياسي، وفي فرص التنمية عامّة؟
عملياً، استبق أردنيون عديدون فترة "الصمت الانتخابي"، ومارسوا الصمت على مضض حيال ممارساتٍ عديدة تعدّت الدعاية الانتخابية، وحيال مرشحين بعضهم برز اسمه فجأة، وكثيرون منهم تجلّى دورهم "حشواتٍ انتخابيةً" لملء فراغِ تشكيل الكتلة في الدوائر المحلّية، والأكثرُ استفزازاً كان كلفةَ مقارّ انتخابيةٍ، وفرقِ دعمٍ ومؤازرةٍ ودعايةٍ انتخابيةٍ وصلت حتّى آلاف الدنانير، في بلدٍ يعاني اقتصادُه الأمرَّين، بسبب عوامل داخلية؛ من سياسات اقتصادية لم تكن مناسبة أو كافية أو غير مطلوبة من حكومات متعاقبة، ولأسباب سياسية؛ لها علاقة بما يحدث في الإقليم، وأبرزها الحرب الدموية على غزّة، التي فرضت نفسها على كلّ بيت أردني، وسارع مُرشّحون إلى تسلّقها كـ"البهلوانات" لجذب أصواتٍ ليست قليلة في حال عزفوا على أوتارها.
يهون هذا كلّه أمام المشهد الحزبي، إذ تشارك في الانتخابات للمرّة الأولى قوائم حزبية، والجميع ينافس بشتّى الأدوات الاقتصادية والسياسة حزباً واحداً بات مُحترِفاً في اللعبة السياسية والانتخابية سنواتٍ، وهو ذاته يبيح لنفسه الأدوات نفسها في اللعبة السياسية الموسمية في الأردن، التي تكاد تُعرَف أسماءُ من ينجح فيها سلفاً، ففي الأردن "حارتنا ضيّقة وبنعرف بعض"، والفرص والاحتمالات تحكمها محاصصةٌ وتبادلُ أدوارٍ قد يستبدل فيها الخِلُّ خليلَه في لحظة، أو أمر دُبِّرَ بليل. انهيار التحالفات، وتبديل المواقف، كان جليّاً في الأشهر التي سبقت الانتخابات، وعكَسَ ذلك بوضوحٍ أنّ السياسة في الأردن لا تُمارَس ضمن منهجٍ وتاريخٍ ومواقفَ راسخةٍ (إلا مَنْ رحم ربّي)، بل تحكمها مصالحُ وأهواء وتسريباتُ، وما أكثرها من تسريبات كثير منها بلا أبٍ ولا أمّ، وإنّما وليدة إشاعة انتخابية أو مزاج أحدهم أو رغبة آخر في إقصاء مُرشَّحٍ أو مُرشَّحة.
وعند الحديث عن المُرشَّحات، ربما كنَّ الأكثر تأثّراً بهذه التسريبات والأهواء والمصالح المُتحكّمة بالمشهد الانتخابي في الأردن، وبالطبع بالمقدرة المالية والاقتصادية للمُرشَّحين، وتعاني النساء أكثر، لأنّهن الأقلّ حظّاً في التمكّن المالي، الذي يبدو العصبَ الأساس في الانتخابات في الأردن، وفي هذه الانتخابات بشكل أوضح. رغم أنّ هذه الانتخابات شهدت مشاركةً أوسعَ من عنصرَي الشباب والمرأة، بسبب توصيات لجنة التحديث السياسي المَلَكية، وإقرارها قانونَي الأحزاب والانتخابات المعمول بهما حالياً، وهو ما سينعكس رقمياً بالفعل في عدد النساء (والشباب) في مجلس النواب المقبل، ولكن هذا لا يحسم (في الأقلّ في السنوات القليلة المقبلة) تساؤلاً مشروعاً مفاده: متى يقتنع المجتمع الأردني فعلاً بأنّ لمشاركة المرأة، ومعها الشباب، تأثيراً إيجابياً حقيقياً في المشهد السياسي، وفي فرص التنمية عامّةً، وأنّ هذا ليس مُجرَّد كلام صالونات ومؤتمرات، فالنساء صنعن كثيراً في مجال التغيير الإيجابي، باعتبارهن الأكثر اهتماماً وقرباً من التفاصيل الحياتية اليومية لأسرهن ومجتمعاتهن.
نساءٌ عديداتٌ في هذه الانتخابات هنَّ مُرشّحات شكليات، لأنّ القانون ينصّ على أن تكون رقمَ ثلاثة في القائمة المحلّية سيّدةٌ، كما أنّ هناك أحزاب لجأت لاستقطاب نساء في قوائمها، أو هيئتها العامة من الأساس، في محاولة لتجميل صورتها إرضاءً لجهات ولمنظّماتٍ ولمؤسّساتٍ تعمل بشكل حثيث لزيادة مشاركة المرأة السياسية، وهذا محمود، ولكن يجب أن يقترن بالقناعة الحقيقية بشراكة المرأة، وبحقّها في العدالة والمساواة، فعلاً وقولاً. إذ كيف نُفسِّر تحويلَ قضايا عنفٍ إنتخابيٍّ تجاه مُرشَّحات، من أصل ستّ حالاتٍ رصدتها الهيئة المستقلّة للانتخاب تجاه مُرشَّحات، تنوّعت ما بين انتهاك وأشكال من التنمّر الإلكتروني. ولا يتضمّن قانون الانتخاب إشارةً واضحةً إلى هذا العنف، باستثناء المادة 22 منه، وفيها "عدم جواز تضمين الخطابات والبيانات والإعلانات ووسائل الدعاية الانتخابية الإساءة لأيّ مُترشّح أو لأيّ قائمة بصورة مباشرة أو غير مباشرة".
مشاركة الأردنيين في هذا الاستحقاق الدستوري (الانتخابات) فرصة لا يجوز أن يهدرها الأردنيون
لا يعكس الرقم الواقع، لانتشار التنمّر والإساءة للمُرشَّحين، وبخاصّة النساء، وهو ما شهدته كاتبة هذه السطور من مواقف، بدءاً من المجالس الخاصّة وبعض ممارسات الإعلام غير المباشرة، وتلك المباشرة جدّاً في صفحات مواقع التواصل الاجتماعي، وحتّى في المقارّ الانتخابية، وصولاً إلى تحالفاتٍ كانت الحلقة الأضعف فيها المرأة المُرشَّحة، واستُبعِدت ثلاث مُرشَّحات تربط الكاتبة بهم علاقةُ معرفةٍ مباشرةٍ. وبالتأكيد، هناك عشرات أخريات في مختلف محافظات المملكة أصبحن خارج المنافسة بسبب تفضيل مُرشّحين رجال، وخاصّة في التفاهمات المصالحية والعشائرية والمناطقية.
ذلك كلّه لا يُغطّي حقيقةً أكيدةً، أنّ صاحب القرار السياسي في الأردن كان شجاعاً جدّاً في إقرار هذه الانتخابات، هذا الخريف، الحافل بهذه التوتّرات المحلّية والإقليمية كلّها. ورغم الصورة النمطية لمشاركة الشباب والمرأة، التي لا يزال معها كثيرون غير مقتنعين بها، والأكثر فقدوا الثقةَ بمؤسّسات كُبرى في الدولة، في مقدّمتها مجلس الأمّة، وتحديداً ذراعه النيابية، بفعل ممارسات نيابية سابقة غير شعبية، بل ضعيفة في أحيان كثيرة، إلّا أنّ ذلك يوجب استعادةَ الثقة بالعملية الديمقراطية في الأردن ومؤسّساتها (مهما كانت الجهة المسؤولة عن ذلك)، إضافة إلى مشاركةٍ حقيقيةٍ في هذا الاستحقاق الدستوري، وهي فرصة لا يجوز أن يهدرها الأردنيون على اختلاف مشاربهم.