في مسرحيته "الأرض أوّلاً"، يشير المؤرّخ والكاتب الأردني روكس بن زائد العزيزي (1903 - 2004) إلى تلقّي إبراهيم الضمور، زعيم مدينة الكرك، مطلع ثلاثينيات القرن الماضي رسالة تهديد من إبراهيم باشا بقتل ولديه المأسوريْن لدى جيشه ما لم يسلّمه قاسم الأحمد، الذي لجأ إليه، وهو أحد أعيان نابلس المناوئين لحملته العسكرية، وحينها وجَد الضمور بصعوبة من "يفكّ الخط" ويقرأ له سبع كلمات تضمّنتها الرسالة!
حادثة انتهت بحرق الولدين بعد رفض الخضوع لتهديد الحاكم المصري خشية أن يلحق العار بالكرك، لكنها شكّلت محطّة أساسية في وعي صاحب كتاب "الخلاصة التاريخية" (1956) الذي وُلد لعائلة أردنية مسيحية، معتقداً بوطن حرّ مستقلّ يزيل أبناؤه عارهم بالعلم والتعلّم، ليمضي قرابة ستّة عقود في مهنة التدريس، متنقّلاً بين الأردن وفلسطين يحمل كتبه وأوراقاً ومطبعة لم تفارقه أبداً.
انت آلة "الستنانلس" التي امتلكها منذ عشرينيات القرن الماضي، عبارة عن ألواح رقيقة مفرّغة بالنص المراد طباعته لندرة الكتب المدرسية آنذاك، لكنها تحيل إلى التحديث الذي آمن به كمنظومة متكاملة، محرّضاً طلبته على دراسة الفن والمسرح من خلال أنشطته التي نظّمها لهم ودعوته إلى تأسيس معاهد متخصّصة في الفنون، ولخّصها بقوله: "المعاصرة في ملّتي واعتقادي هي تصوير العصر الذي نعيشه، والأصالة هي عدم التخلّي عن الأصول القديمة، فلا خير في شيء لا أصل له، فلنحترم الماضي على أن لا نعيش فيه".
ارتبط العزيزي بزوجة اختارته رغم معارضة شديدة من أهلها، وظلّ يفاخر لأكثر من نصف قرن بأنه لم يغضبها يوماً، وأنجب خمس بنات وثلاثة أبناء يجمعهم حول حكايات حفظها من قراءاته الغزيرة وتجواله بين الأرياف والمدن الأردنية، مسجّلاً ذاكرتها الشعبية التي أصدرها في مجلّدات ضخمة لا تزال إلى اليوم مرجعاً رئيساً في تأريخ المجتمع وتراثه، وكذلك في توثيق تعبيراته الفنية والأدبية في لحظة انتقاله إلى دولة حديثة.
أمضى ستّة عقود في التدريس متنقّلاً بين الأردن وفلسطين
يكتب في إحدى مقالاته: "يخطئ من يظن أن الاستعمار لم يسعَ إلى تأخير نهضة المرأة العربية. ودليلنا على ذلك أن الإنكليز عندما استولوا على الديار المصرية سنة 1882، كان أوّل ما فعلوه أنهم أقفلوا مدارس البنات في كلّ القُطر المصري مدّعين أنهم فعلوا ذلك من أجل الاقتصاد، وأبقوا في مصر كلّها مدرسة ابتدائية واحدة للبنات هي المدرسة السنّية، ترأسها ناظرة إنكليزية"، وتعكس هذه القراءة انحيازاً مطلقاً لحق النساء في التعليم، وانتصاراً لحركات تحرّرهن.
كان التعليم شغله الشاغل في المرحلة التي أعقبت انهيار الدولة العثمانية، وإحكام بريطانيا قبضتها على البلاد، كما تظهره مذكراته ومقالاته التي كان حريصاً على تدوينها، وجاوزت ثمانية آلاف صفحة عند رحيله، مخصّصاً جزءاً منها لفترة تدريسه في "مدرسة ترانسطة" بالقدس، والتي تضمّنها جزآن من كتاب "العلامة روكس بن زائد العزيزي (1903 - 2004) وجهوده في توثيق "أعلام الأدب والفكر" التي جمعها وقدّم لها أسامة شهاب.
يتحدّث العزيزي بألم وحسرة، في مقابلة تلفزيونية أجريت معه، عن وقائع عاشها حين احتلّت العصابات الصهيونية أجزاء من فلسطين عام 1948 بعد إرهاب وتقتيل مارستهما خلال الأشهر التي سبقت أيار/ مايو من تلك السنة، ومنها قذف باب العمود بالقدس بالمتفجرات، وفقدُ المقدسيّين أطفالهم الذين تقطّعت أشلاؤهم في المكان، وغيرها من شهاداته حول النكبة، حيث أُحرقت مكتبته ومخطوطاته التي بقيت هناك.
الصورة
من ضمن أوراقه التي صدرت بعد رحيله في كتاب، رسائله المتبادلة بينه وبين العديد من الكتّاب والسياسيين، ومنهم إيليا أبو ماضي وعبد المسيح حداد وجبران خليل جبران وعرار، إضافةً إلى رسالة من الرئيس المصري جمال عبد الناصر، وأُخرى من رئيس الوزراء الأردني وصفي التل.
في عام 1938، طلب منه الأب أنستاس ماري الكرملي تأليف كتاب صغير حول اللهجة الأردنية في إطار مشروع لجمع اللهجات العربية ودراسة علاقتها مع الفصحى، إلّا أن العزيزي وضع كتاباً من ألف ومئتي صفحة سيجد طريقه للنشر لاحقاً بسبب اندلاع الحرب الكونية الثانية، بعنوان "معلمة التراث الأردني" بأجزائه الخمسة.
"الأسماء والحكم ومناسباتها وحكاياتها وقصصها" عنوان الجزء الأول من المعلمة، وهو موسوعة مرتّبة هجائياً للأمثال وشروحاتها، ويوثّق الجزء الثاني "الأسمار والحكايات والألغاز"، ويعرّف بالشخصيات الحقيقية التي تناولتها، كما يفصّل العديد من الآداب الاجتماعية المتعلّقة بالمجلس والسفر والحديث وغيرها. وفي الجزء الثالث دراسة مستفيضة في القضاء الشعبي وأصول المرافعات، بينما يضمّ الرابع ترجمة للشعر والشعراء الشعبيين وموضوع الخيل ودلالاتها ومكانتها، واحتوى الجزء الخامس معجماً لشرح وتأصيل الألفاظ الأردنية.
دعا في الثلاثينيات إلى تأسيس معاهد متخصّصة في الفنون
في منتصف السبعينيات، تقاعد المربّي العزيزي عن التدريس، وتفرّغ للكتابة في حقول مختلفة متمثّلاً "الثقافة" بمدلولاتها الواسعة وتأصيلها عند ابن خلدون، بحسب رؤيته، معتبراً أنها عماد العروبة وديدنها، وتأخذ لديه مسارين متلازمين؛ الحداثة المبنية على نشر الآداب والفنون المعاصرة وتعميمها على جميع العرب، والاهتمام بالتراث وفهم لهجاته والتصوّرات المتوارثة حول الإنسان ومحيطه الاجتماعي.
اهتمّ صاحب كتاب "مقدّمة في أنساب العرب" بمسائل تاريخية عديدة ناقشها في جملة مؤلّفات ومخطوطات حقّقها منها: "النظام الإداري في العصر العباسي"، و"النظام المالي في العصر العباسي"، و"المنهل في تاريخ الأدب العربي"، و"فلسفة الخيام"، و"سدنة الترث القومي"، و"الخلافة التاريخية"، و"الزنابق: مختارات من الشعر والنثر"، و"الإمام علي: أسد الإسلام وقدّيسه"، و"علم النميات/ بالاشتراك مع الأب الكرملي".
كما كتب سيرة حياة الشاعر الأردني نمر بن عدوان (1745 - 1823)، و"قاموس العادات واللهجات والأوابد الأردنية"، و"المجتمع البدوي"، و"الأنظمة والقوانين في البادية"، و"أبناء الغساسنة"، و"مادبا وضواحيها" (بالاشتراك مع الأب جورج سابا)، وغيرها الكثير.
نذر العزيزي نفسه لدور رسالي في لحظة مربكة من تأسيس الأردن المعاصر، تنازعتها مواقف سياسية خاض أصحابها خصومات واختلافات حولها، بينما ارتضى هو الثقافة مسكناً وموئلاً في مثابرة وجهد كبيرين من أجل صياغة هوية حديثة لمجتمع ناشئ. رسالة بأمسّ الحاجة اليوم إلى التبصّر والمراجعة.