رحيل من حوّل محراب الحق إلى ساحة حرب

 

 حينما تنتشر أخبار عن ارتكاب محامي أو قاضي لجريمة ما، أو قيام أحد العاملين في منظومة الحماية الاجتماعية بالتحرش بإحدى الضحايا أو ارتكاب رجل دين لفعل مشين.. يشعر المتلقي بصدمة مركبة تتداخل فيها بشاعة الحدث وفظاعته مع صفة من قام بارتكابه وهو الموكول له منع حدوثه والدفاع عمّن يقع عليهم. 

 المركز الوطني لحقوق الإنسان عندنا تحوّل بدوره من حصن الدفاع عن الحقوق والحريات إلى مذبح تنتهك على خشبته هذه الحقوق وتلكم الحريات، وتُقَدَّم قرابين لصنايعيّة تسيس الدين، حرّيفة تلبيس الحق بالباطل وتغليب الطالح على الصالح.. وكله في سياق «المصالح المرسلة.. والمداراة.. والتقيّة.. وسدّ الذرائع.. وياما في الجراب يا حاوي». هذا النقض الداخلي للمركز المتعمد والمصمم عليه ليس مفاجئاً طالما كان جلادوا الحريات قد أوكل لهم مهمة حمايتها، تماماً كما يقول أهلنا في مصر: «سلموا القُطّ مفتاح الكرار»، و«الكرار» هو المكان الذي كانت الأسر تخزن فيه مأونة السنة من الأرز والحبوب والزيت واللحوم المجففة.. فبات المثل كناية عن إطلاق يد من يُعمِل التخريب في الشيء أو يلتهمه عوضاً عن حمايته والمحافظة عليه.

 المؤلم حقاً هو ما جاء في تقرير للزميلة غادة الشيخ منذ أيام تناول بطلان قرار تكليف أحد أعضاء مجلس الأمناء بتسيير أعمال المركز، والخبر هذا بدوره ليس هو المؤلم ولا المفاجئ، فمن يطأ الحقوق بخفّيه، إذ هو يرى فيها «مؤامرة.. ودعوة للمجون.. وهدم للثوابت..»، لن يتورع عن ارتكاب أي مخالفة إجرائية مؤسسية، لأنه دائماً وأبداً «عقبال عند حبايبكو: الضرورات تبيح المحظورات.. وما لا يدرك كلّه لا يترك كلّه..»، ورحم الله شاعر العرب المتنبي إذ يقول: “ما لجرحٍ بميّتٍ إيلامُ”، إلا أن المخجل حقاً في ما ورد في هذا التقرير هو تصريح بعض أعضاء مجلس الأمناء لغادة الشيخ أن القرار فعلاً غير قانوني، لكنهم طلبوا منها عدم ذكر أسمائهم وعدم الكشف عن هوياتهم كما جاء في التقرير!

 أعضاء مجلس الأمناء ليسوا أعضاء إغلبية في برلمان صوري في دولة تدعي عبثاً الديمقراطية؛ مهمتهم أن يستيقظوا من سباتهم وقت التصويت ليرفعوا أيديهم بما يمليه عليهم كبيرهم، بل هم الموكول لهم مراقبة أداء المركز وضمان تنفيذ وإنفاذ سياسته ورؤيته ورسالته التي تقوم برمتها على مبادئ باريس التي استجارت بدورها واستغاثت وكادت تشقّ الأوراق التي كتبت عليها؛ مما يُنسَب ويُنتَسَب إليها، فإذا لم يكن الآن وفي هذا الوقت سيرفع الصوت ويجهر بالحق من هو شاهد عيان على ما يجري من اتخاذ قرارات وإجراءات تخالف صحيح القانون، وما يُرتَكَب من تشهير برفاق الدرب ممن أسسوا هذا المركز، فمتى سيتحدث هؤلاء؟ ما الذي يخشونه؟ إن كان ما يثنيهم عن المجاهرة بالحق هو خشية ضياع المنصب، فالمناصب بأثر أصحابها وتأثيرهم، إذ سيسجل التاريخ أسماء من فعلوا ومن شاركوا ومن صمتوا عمّا يجري بحق هذه المؤسسة التي كانت عظيمة وأصبحت بجهد المجاهدين عظاماً نخرة. لماذا «فضّلوا عدم الكشف عن هويتهم»؟ أم تراهم خافو فعلا؟فإن كان ذلك، فما ومن الذي يخيفهم؟ هل يخشون أن يُدَبَّر لهم بليل كما دُبِّرَ لغيرهم؟ أياً كانت الأسباب، فأعتقد أن التصالح والصدق مع النفس والقدرة على النظر في المرآة دون أن ترمش العين وإعلان البراءة من هذه المذبحة المؤسسية.. هنّ الصالحات الباقيات.

 في الوقت الذي لن يتورع المتسبب بهذه المهزلة عن تسطير ما قام به من خراب في مذكراته على أنه«إنجاز عظيم..وتطهير للمؤسسة من دعاة المساواة.. وتغليب للعادات والتقاليد.. وحماية الأمة من هجمات الغرب الشرسة التي تستهدف عاداتنا وثقافتنا..»، وبغض النظر عن أن أصحاب هذا الخطاب المهترئ يعلمون علم اليقين أن الغرب والشرق والشمال والجنوب لا يدري عنا ولا يعبأ بنا أصلا، فنحن أهل القيل والقال والنقل وطمس هوية وملامح أي مجتمع وبلد كنا نحتله.. فإن بعض المحسوبين على المركز بمجلس إمنائه ممن نأمل فيهم الخير والشجاعة؛ لن يجدوا ما يقولوه إن استمروا في التماهي مع ما يجري بصمتهم غير المبرر، ومسألة أنهم لا يحضروا الجلسات ويتغيبوا عنها، هي نقطة ضدهم وليست لهم، فواجبهم وأصل تكليفهم مناطه حضور الجلسات ورفع الصوت بما يعتقدون أنه الحق والصواب، أعتقد –كما قلت آنفا- يبدوا أن إعضاء مجالس إدارة عدد من مؤسساتنا الوطنية يستصحبون سياقاً برلمانياً صوريا، وليتهم فيه يلعبون دور المعارضة الديكورية، فهم للأسف يتقمصون دور الأغلبية الراضية حتى وإن كانت في قرارة نفسها رافضة.

 لا يمكن أن يقامر بلدنا بسمعته التي حققها على المستوى الدولي بترك هذه المهزلة تستمر إلى ما لا نهاية، خصوصاً مع بدء تنويه عدد من المؤسسات والجهات الحقوقية الدولية بخطورة ما يجري في المركز، بينما كاهن النرجسية تتعالى ضحكاته مقهقهاً محتقراً كل من حوله حتى من يؤيدوه، ناهيك عمّن لا يوافقوه بالصمت أو التغيّب، فمتى رحيل من حوّلوا المركز إلى ساحة حرب أول النهار وإلى معبد هم فيه السدنة والكهنة بل والآلهة في آخره. أم ترى ليس لهم من اسمهم نصيب؟

أضف تعليقك