ذات يوم، كانوا اطفالاً
كان من العادي جداً أن يتحمم الأطفال بلقن الحديد، أو " طشت " الغسيل، فيما الليفه بقايا من شوال بصل ناعم، والصابون " نعامة "، كل هذا قبل اختراع شامبو جونسون، أكل القفا كفوف لا تحصى من الكفوف الخماسية، أكثر من شعر الرأس، لماذا إذن نهرب من طفولتنا من حقيقتنا الجميلة؟
كان الحمام على رأي الصديق نادر الخطايبة من الجمعة إلى الجمعة، كم احتال الأطفال على الامهات و تحايلوا " بالعمى " لاصراهن على غسل وجه الأبناء بالصابون، فتصاب العينان بشيء من الحرقة.
أما إذا كان الطفل " مقمل " تبدأ معركة اخرى في حرب طويلة، يستخدم " مشط الكف " مع شيء من الكاز ...اه والله كانوا يحطوا كاز لقناعتهم أنه يقتل القمل والصيبان، كما كانوا يضعون الاغطية الثقيلة على من يصاب بالحمى، وكم مات أطفال جراء ذلك !
كان البريموس النحاسي الأصفر و الدكاكة و النكاشة من مستلزمات البيت الأساسية التي لا غنى عنها، والسخان السلفر أو تنكة السمنة وسيلة لتسخين المي خصوصا للحمام، أما عبلة سمنة الغزالين فهذه لسلق البيض قبل أن يكتشف " بكرج القهوة " !
في المطبخ لابد من وجود عدد من طناجر الألومنيوم البيضاء لا تظهر إلا في حال إعداد المنسف أو المقلوبة في الدعوات الكبيرة إضافة إلى "المغرفة" كيف ادخل " التيفال " المسرطن إلى البيوت ومن سمح بإدخاله تبقى أحجية تبحث عن جواب !
كثير من الشباب كانت الحفاضة " فوطة " له بمثابة بقايا قماش " مهتري " لم يكن " بامبرز ، والكورن فليكس، فيما طبق حلوياته خبز وشاي مع شوية سمنة.
كان حبل الملبس بالألوان العديدة حكاية طفولية جميلة، و قبقاب غوار وسيلة لاسترضاء الاطفال، كم قبقاب أكلت في حياتك وما هي الألوان - تذكر وابتسم - لاحقا ظهر البسكوت على شكل الحيوانات - مليح ما انتبه له الشيوخ - بعضه بشكل قرد أو أفعى أو ضفدع، كيف تأكل ضفدعاً أو قرداً أو حمارا ً، كان البعض يرميها خوفاً لكنه يحتفظ بالحَمام والعصافير والاحصنة، الكثير اضاع ممتلكاته الطفولية في سبيل الفوز بسحبة " البالون " الكبير، والذي يكون صاحب اللعبة قد عرف رقمه واخفاه ليبقى له، من الاطفال من كان عقله تجاري، لم تنطلي عليه هذه التجارة، فأثر اعداد صواني من " الكريزة " الملونة ليبيعها للاقران، كان فَرد " الفلين " لعبة الاطفال المدللين، رائحتها نافذة وصوتها مدوي، فيما بوط " الفحمة " وسيلة للتخريب، أما الأطفال اصحاب الحظ فكانوا يلبسون ابواط " التايجر " أو كنادر " التوب صايدر " وقلة يلبسون الصنادل مع الجرابات البيضاء - كانت موضة والله -، الكثير من ذلك الجيل أكل " المحايات " أول ظهورها، فيما الجميع أكل معجون الأسنان، في الإجازات الاسبوعية أو السنوية كان الأطفال يلعبون " بادواحل " أو يجلبون " بواجي " السيارات لصناعة " طرقيعة " منها، آنذاك اشتهرت كبريت الخمس نجوم، البعض كان يجلب " بيليا " السيارات لصناعة مركبته الزاحفة، وسعيد من كان يسكن في شارع منحدر يوفر له " سحسيلية " مجانية، في الربيع والصيف يبدع الاطفال في صناعة " الفخة " لصيد عصافير تخدع، و " المقلعية " لضرب الاصدقاء فتوجع ! كان العسكري في بدايته يشتري أول بنطال من راتبه - نسيت اسمه - يعلق فيه " سنسال " على الجنب.
من يتذكر أثواب المخدات البيضاء المطرزة بالطواويس الملونة، لون االلحف اللحف والبشاكير، وبناطيل الجيش الخضراء الداخلية، أطقم الفناجين الكحلية والزبادي الخزفية المرسومة، ومطبقانيات الأعراس.
كنت اهوي تجميع الساعات الرقمية لتكسيرها لإخراج الحبر السحري من داخلها، اخسرها لكنني أعيد الفعل مرة بعد مرة .
بعض الأطفال كان سافل مختص، الحواري تعج بالدجاج المنزلي والحياة البسيطة، وظيفة السافل تحديد جنس الدجاجات دون الإنتباه إلى أن الدجاجة لا تصير ذكرا لأن هناك ديك، البعض عشق صيد النحل أو الدبور، من العادي جدًا أن يعود إلى البيت " مهبر " بعد لسعه، فيما آخرون لطيفون فضلوا صيد الفراشات لجمع الغبار السحري أو قطف أزهار الأقحوان و الدحنون، لصنع قلادة طفولية لحبيبة صغيرة أو للعبة " بتحبني ما بتحبني " !
في كل بيت كان هناك " كوارة " طحين، و " مجفية، قبعة " للخبز، وطبق قش للفطور، مصنوع من قصب القمح ومزين أحيانا بألوان العلم، لاحقًا تحول إلى تراث يعلق في البيوت، الهاون الأصفر ذو الرنة المدوية كان متواجداً، حجر الرحى البازلتي الخاص بطحن الحبوب والذي بيع أغلبه " بعد رحيل الكبار كان هو الآخر متواجداً وشاهداً.
في كل بيت النساء مدبرات، موسميات في العمل، في الخزائن الخشبية الخضراء أو الزرقاء تجد لبنة " مدحبرة " و رصيع زيتون، حمص، زيت، زبيب، فريكة، عدس، فاصوليا، بندورة مجففة، احيانا مكدوس باذنجان، و باميا، وبصل، وثوم، وفليفلة، و سمن بلدي، وقمح، وجوز، خيرات الأرض وتعب الرجال وادارة النساء في قيادتهن مبادرات الاكتفاء الذاتي والتأقلم للاستمرار ، ياه لرائحة الامهات.
هل كان للاطفال رأي في اختيار الفطور والغداء، نساء ذلك الزمن ملكن من الحرية قبل أن تطل جمعيات الحماية خارجية وقبل أن تنشىء مجموعة النسوية المسترجلة للمطالبة بتحريرهم.
في الطبخ وإدارة البيوت، الامهات كما الجدات سيدات متقنات للصنع، اعطني زوجة اليوم تقدر - هن ندرة - على طبخ المفتول أو الشعاشيل أو المشوش " المشاط " او تخبز الصاج أو الطابون - لا عجيبنة 10 دقائق - بعيدا عن المنسف، المنسف طبخة سهلة الصنع لا تحتاج إلى طول تعليم وتفكير.
بعد رحيل الكبيرات احيانا يحرم البعض بعض الأطعمة لأن الطعم رحل معهن ليصير المشهد جزء من مسلسل طويل للذكريات.
في كل بيت أو حارة مخبز طابون، من يتذكر جلسة وخبز الكبيرات الجميلات، " بدلوقهن وملفعهن السوداء " واشراتهن الملونة، من يتذكر الجلسات السردية للحكايات ونشر للاخبار " رويترز الحي " في حينا من يتذكر ويذكر نساء تلك الرحلة من العمر ومكان المخبز ؟
كانت البيوت حدائق مزروعة مقسمة بين بقدونس ونعنع وميرامية وغيرها، كانت النساء تعشق الزراعة المنزلية قبل دخول منظمات المجتمع المدني وقروضها !
أكاد أجزم أن غالبية أشجار العنب والمعرشات في البيوت زرعت وبنيت بيد الجدات والأمهات، أكاد اقسم أن غالبية أشجار التين زرعت بيد الجدات والأمهات.
من يذكر الغربال - يصنع من خشب الكينا وامعاء الحيوانات - الذي كسر عين الشمس فأشرقت خجلاً لهن، من يذكر تناغم حركته بين اياديهن، للتخلص من الشوائب والأوساخ والاحتفاظ بما نفع وطاب، من يذكر الشكوة - تصنع من جلد السخل - المخصصة لخض وحفظ اللبن، أما زال هناك من يستخدمها في القرى ومعها " السعن " ؟
لنتخيل ضو البنورة، والشنبر، والفانوس، كيف اعتقد الأطفال اعتقد أن ثوب الشنبر عنكبوت قتل فأخرج من داخله خيوطا حريرية لتحترق. كيف كانوا يفكرون أن البنورة سحرية إذا مسحتها خرج منها جني يلبي الطلب. كيف نظروا إلى الفرشات المتقاربة والأرجل المتحاربة تحت الغطاء مع الأشقاء، كيف وكم " هوشة " اشتعلت بين الأطفال للفوز بـ " سفينة " الدجاج بحجة أن أحدهم لا يحب أكل غيرها، لكنه عندما كبر صار يأكل حتى الجنحان !
اسألوا من تبقى من البركات " الأمهات " عن صندوق العروس، اجلسوا اليهن واستمعوا، دعوهن يتذكرن، سجلوا أصواتهن وحفظوها، راقبوا بسماتهن قبل أن يحين يوم ترغبون فيه فلا تجدونه، هذه حكاياتنا، وهنا تشكل " وطن " فكم سراج انطفئ وبقيت نور أيامه تطرقنا طرقا ؟