ديكتاتورية الأطباء

الرابط المختصر

 ما يزال كثير من متخذي القرار في بلدي يراوحون مكانهم في ما يخص الأشخاص ذوي الإعاقة في الوقت الذي بات فيه هؤلاء الأشخاص يحكمون دولاً مثل الإكوادور التي رئيسها لديه إعاقة حركية، ويديرون وزارات سيادية في دول عظمى مثل وزارة الداخلية في بريطانيا التي تربع على سدتها لسنوات طويلة الوزير الكفيف ديفيد بلانكيت الذي كان على وشك تشكيل حكومة حزب العمال بعد توني بلير، هذا فضلاً عن وزراء حكومة مالطة الذين لدى بعضهم طيف التوحد، وغير ذلك من الأمثلة الحديثة والقديمة أيضاً التي من بينها رئيس الولايات المتحدة الأمريكية فرانكلين روزفلت الذي كان لديه إعاقة حركية، بل إن الأشخاص ذوي الإعاقة كان لديهم من المكانة والتمكين في صدر الدولة الإسلامية في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ما يشير إلى رفعة مكانتهم ومدى احترام الشارع الحكيم لهم، فقد كان عبد الله أو عمرو بن أم مكتوم من الصحابة المكفوفين الذين اعترف لهم النبي عليه السلام بأهلية الحكم، حيث كان يخلف الرسول عليه السلام في إدارة شؤون المدينة والقضاء بين أهلها وإمامة الناس في الصلاة حينما كان عليه السلام يخرج منها للجهاد.

 مع كل هذه الأمثلة والممارسات المعاصرة والقديمة التي تقطع بأهلية وكفاءة الأفراد بغض النظر عن إعاقاتهم، ما يزال المشرع والجهات التنفيذية عندنا ينظرون إلى الأشخاص ذوي الإعاقة نظرةً ملؤها الازدراء والتحقير، إذتفترض وزارة الصحة عندنا بقرينة غير قابلة لإثبات العكس أننا نحن الأشخاص ذوو الإعاقة غير لائقين لشغل الوظائف الحكومية مهما كانت مؤهلاتنا العلمية وخبراتنا العملية.

 

 فقد جلس مجموعة من الأطباء والمشرعين منفصلون عن الواقع والمنطق في العقد السابع من القرن المنصرم، ووضعوا نظاماً يسمى نظام اللجان الطبية الذي يشتمل على نص عز نظيره في كل دول العالم، إذ تنص المادة (17) منه في فقرتها الأولى على أنه: "يصدر الوزير الجداول التالية:- 1- جدولا بالأمراض التي تحول دون التعيين أو الابتعاث"، وقراءة الجدول المشار إليه في النص السابق تبين أنه لم يبقِ ولم يذر، فما من شخصٍ ذي إعاقة إلا وشمله هذا الجدول، ثم جاء نص المادة (43) فقرة (ج) من نظام الخدمة المدنية ليعزز من افتراءات نظام اللجان الطبية على حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة، فجعل تعيين الأشخاص ذوي الإعاقة منوطاً بشهادة "من المرجع الطبي المختص" تفيد "أن إعاقة الشخص لا تحول دون قيامه بمهام العمل أو الوظيفة المرشح لها". والحقيقة أن جماع هذين النصين بالإضافة إلى البنود الكارثية التي تضمنها الجدول الملحق بنظام اللجان الطبية، يرسم صورةً قاتمةً تسيء إلى سمعة الأردن ومكانته في مجال حقوق الإنسان بوجه عام وحقوق الأشخاص ذوي الإعاقة على وجه الخصوص. إذ أن هذه النصوص تمخضت عن واقع عملي مفاده، أن الشخص ذي الإعاقة في كل مرة يتقدم فيها للتعيين في جهة حكومية يجب أن يعرض على لجنة طبية ليس مهمة أعضائها النطاسيين تشخيص الإعاقة وتحديد طبيعتها ودرجتها فحسب بل تجاوز هذا الأمر إلى ما هو أبعد منه، إذ هم من يقررون ما إذا كان الشخص لائقاً أو غير لائق للعمل، ولما كانت مرجعية هؤلاء الأطباء ودستورهم هو نظام اللجان الطبية آنف الذكر، فإن تقاريرهم تأتي دائماً مذيلةً بعبارة "غير لائق" متى كان المتقدم للفحص من الأشخاص ذوي الإعاقة.

 

 إن افتراض عدم اللياقة والقدرة في شخص ما سلفاً وحكماً بسبب إعاقته؛ يعد مؤشراً على سيطرة التفكير النمطي السلبي الذي يصنف الناس إلى "عاديين" و"غير عاديين"، وهو من بعد دليل على ضحالة المعرفة وتخلف الركب عن ما وصلت إليه حركة حقوق الإنسان وبصفة خاصة في مجال الإعاقة منذ عقود. فإن مجرد سؤال الشخص عن حالته المرضية أو الصحية لغايات التعيين يعد خرقاً وانتهاكاً  صارخاً لخصوصيته ودلالةً على وجود نوايا مبيتة للتمييز ضده، أما نحن فقد كرسنا هذا التمييز في تشريع منشور على صفحات الجريدة الرسمية بملاحقة يقصي ويستبعد الأشخاص ذوي الإعاقة من التعيين سلفاً فلا يشغلون الوظيفة المرشحين لها إلا بشق الأنفس وشقائها وبعد أن يطلب منهم إثبات أنهم "لائقون" على خلاف القرينة غير القابلة لإثبات العكس المنصوص عليها في نظام اللجان الطبية وجداوله الملحقة.

 إنني أحمد الله وأثني عليه أن عالماً فذاً مثل ستيفن هوكينغ الذي كان لديه ضمور في العضلات فلم يكن يقوى إلا على تحريك بعض عضلات وجنتيه؛ قد ولد ونشأ في دولة أخرى فلم يعرض على لجاننا الطبية التي كانت ستكتب له في تقريره "غير لائق" ليكون مآله البيت أو مؤسسة إيوائية، هذا العالم الذي غير شكل العالم بنظرياته الفيزيائية وحصد أعلى الجوائز وأرقاها بفضل عقله الألمعي وذكائه الخارق.

 إن ما يحدث عندنا لهو ضرب من ضروب الخيال العلمي، فعلى الرغم من أن قانون حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة رقم 20 لسنة 2017 نص صراحةً في مادته الخامسة على أن الأشخاص ذوي الإعاقة لا تحول إعاقتهم من اعتبارهم لائقين صحيا للعمل، إلا أن أطباء اللجان يقولون: "هذا ما ألفينا عليه آباءنا، ولا نعرف إلا نظام لجاننا،" ولو كان القانون أعلى من النظام ينسخه ويجبّه، فالنظام قدّسَ الله سره هو الفيصل وله الغلبة والسؤدد ".

 

 يا حسرةً على سيادة القانون كيف يهدرها من يجهلون أحكامه وتراتبية قوة إلزام نصوصه، لا لشيء إلا لأنهم يغلبون ما تراكم وتعاظم في وجدانهم من صور نمطية عن الأشخاص ذوي الإعاقة، ولما أَلْفوا عليه أسلافهم منذ أربعة عقود ونصف وما خلفوه لهم من تركة ثقيلة علينا لا عليهم اسمها نظام اللجان الطبية وملحقاته.

 

 إلى كل ذي لبٍّ رشيد، ارتقو إلى مستوى الإنجاز الكبير الذي حققه بلدنا على المستوى التشريعي بإصدار قانون نموذجي لحقوق الأشخاص ذوي الإعاقة أفسح له عن جدارة واستحقاق مكانةً عاليةً وعليَّةً بين مصاف دول العالم المتحضر، فسارعوا إلى إلغاء المادة 17 من نظام اللجان الطبية وملحقاتها ولتكفّو يد الأطباء عن التحكم بمصائر الناس والحكم عليهم باللياقة من عدمها فما هم أهل لذلك وما درسوه وما خبروه ولكن فُرِضَ عليهم وتلبَّسهم تلبيسا.