دار النور للمسنين

الرابط المختصر

 ولدته أمه في دار للمسنين.. أرضعته سنوات مرارتها فاصطبغ شعره باللون الأبيض.. لم يتعلم المشي.. ظل على وضعية الحبو إلى أن حانت ساعته.. قرر أن يفعل شيءً.. أمسك بطرف السرير.. شدّ جسده إلى الأعلى.. انحنى واقفاً.. مدّ يده فوق وسادة خالية.. لم يبحث عن شيء لأنه لم يفتقد شيءً.. نظر إلى يمينه.. لمح نافذةً.. تهادى نحوها.. رفع رأسه قليلاً بعد عناء.. لمح السماء.. رمادية.. نظر إلى الأرض من تحتها.. رمادية.. نظر صوب الحائط.. حدّق في وجه لا تكاد تظهر ملامحه من بين تجاعيده.. عينان رماديتان.. شعراً رماديا.. تفاجأ.. ليس أبيض.. هل كان حقّاً أبيض حينما ولد.. اليوم عيد ميلاده الثالث عشر.. لم يعرف ذلك لكنه قرر أن يحتفل.. استدار بينما  تنغرس أظافره في فجوات رخامة حافة النافذة.. تركت تحتها حرفاً غريباً لكنه مألوف.. إنه حرف ال"مين".. هو كل ما تعلمه من مفردات اللغة لكثرة ما تلفظت به أمه حين ولدته وحين أرضعته وكلما حرك الهواء شيءً في ردهات دار النور لولادة المسنين القسرية.. قرر أن يبدأ رحلته نحو الباب.. اتكأ على كل شيء.. المغسلة.. المنضدة.. السرير.. لوحة العشاء الأخير المقلدة المتدلية فوق السرير.. بينه وبين الباب 3 خطوات.. لم يبقَ شيء يتكئ عليه.. تردد.. تنهد.. تمايل.. تباعد.. أفلت من بين إبهامه وأصابعه الأربع لوحة العشاء الأخير.. سقطت.. تحطمت.. تطايرت شظاياها واستقرت في قدمه اليمنى وكلتا عينيه.. فارت من قدمه دماؤه وسالت من عينيه على لحيته.. ما من أحد ليخبره.. شرب قطرات دمه المتساقطة على شفتيه.. ازداد ظمأه.. قدّم قدمه اليسرى.. ترنح.. تمايل.. تباعد.. سقط.. ارتطم بالباب رأسه.. عاد رضيعاً مرةً أخرى لكن بقي شعره رمادي اللون.. تعمّقت تجاعد وجهه.. حان عيد ميلاده الثالث عشر مرةً أخرى.. مرَّ بيده على الباب من الأسفل صاعدا.. ارتطمت راحته بشيء استعذب برودته.. أمسك به.. نهض.. نزلت يد الباب فانفتح.. اتكئ عليها..  خطى أول خطوةً إلى الخارج.. استنشق الهواء عن غير قصد.. امتلأ جوفه بالتراب.. خطى خطوةً ثم أخرى.. صار في الشارع.. نظر إلى يساره.. إنها النافذة التي نظر منها وهو في الداخل.. تهادى نحوها.. اتكأ على حافتها الإسمنتية..حدّق في الغرفة ليرى نفسه من زاوية أخرى.. لا شيء.. عتمة يتوسطها ظلام..  نظر إلى السماء.. ما تزال  رمادية.. وجه عينيه صوب الأرض.. أكثر رماديةً مما رآها من الداخل.. لم ينزعج.. لم تخب آماله المعدومة.. هذا هو العالم إذن.. هل من فرق.. هل يعود.. هل يسير خطوات أخرى لعله يعثر على جديد.. قرر ألّا يعود.. ولم يقتنع بفكرة متابعة السير والبحث عن جديد.. رفض أن يظل على وضعه متجمداً في مكانه.. لقد جرب البقاء والمسير والعودة إلى نقطة الصفر.. إذن.. ليفعل كل هذا في آن واحد لعله يحصل على نتيجة مختلفة.. أخذ يدور حول نفسه.. ترنح.. تمايل.. تباعد.. يوشك على السقوط ثم بالكاد ينهض.. أعاد الكرّة مراراً وتكراراً.. لم يستفق لما يفعل إلّا حينما استشعر أشعة الشمس تخترق تجاويف ثنايا وجهه.. رفع رأسه.. رأى نورا.. ارتعب.. ارتعد.. ارتجف.. لم يكن لوطواط مثله شاخ في مهده أن يواجه النور في أول رحلة له خارج معبد الظلام.. سقط أرضاً بعد أن ارتطم رأسه بحافة النافذة ذاتها..  زادت غزارة دمائه المتدفقة.. لم يغسّلوه.. لم يصلِّ عليه أحد، لكنهم  كفنوه ثم دفنوه وكتبوا على شاهد قبره  حرف ال"مين".