خلينا بالمهم

 

 زارني صديقي منذ أيام بعد ظهيرة يوم أقسمت فيه الشمس أن تربّي أهل الأرض ومن عليها ومن تحتها، فخلع نعليه ورفع فوق المقعد رجليه وبدأ يرتشف الماء البارد وهو يردد عقب كل رشفة “الله الله الله”، وكأنه يستمع لتقاسيم على مقام الرصد عالي المزاج.

 تمطّع وتثاءب بعمق وسألني وشفتيه عائدتان لتتعانقا بعد تباعد كبير: “شفت مشروع قانون الجرائم الألكترونية؟”، وبالكاد أخذت شهيقاً عميقاً وأطلقت تنهيدةً تحمل زفرةً غاضبةً شدّت معها أحبالي الصوتية متأهباً لأبدأ وصلة ردح على القانون ودلالته، حتى تابع وهو يحدق في أوفيليا وهي على حجري: “خلينا بالمهم.. من وين جبت هاي الكلبة؟”، أجبته وكان ينسط باهتمام شديد مع أنه يكره الكلاب، وما أن انتهيت حتى عاد من حيث بدأ: “بس يا أخي مش معقول كيف بطلعوا هيك قانون!”. لمت تكتمل فرحتي ولم تنتشي شهيتي التي انفتحت مرةً أخرى للحديث عن مشروع القانون إذ سارع وتابع:”خلينا بالمهم.. حلو هاظ الشبشب.. بالله ما هو من وسط البلد؟”، أخبرته من أين اشتريته، ليدور بيننا حديث طويل عن «علاقتنا الوجدانية والعاطفية والحياتية بالشباشب»، ابتداءً من رمزيتها في توصيف الحال والأحوال، رجوعاً إلى فنون استخدامها في المعارك المنزلية وقدرتها على التحليق من أول الصالة إلى آخرها، انتهاءً باستذكار واستعادة استشعار لَسوَعتها على الجلد حينما كان «الشبشب البلاستيك الأحمر أبو وردة» أداة معظم أمهات السبعينيات والثمانينيات في التربية والتعليم.. ولأن الشيء بالشيء يذكر، نقلنا الحديث عن مقارنة أسعار هذه الشباشب زمان واليوم إلى تناول غلاء الأسعار عموماً وزيادات المحروقات وأزمة الغذاء.

 ساد الصمت وكلانا يبحث عن شيء فارغ يقوله، فإذا به يغالب نعاسه فيسألني مستنكراً وهو يطقطق أصابع يديه عامودياً في الهواء: “بتعرف.. يا زلمة.. لما سمعت إنو مجلس النواب أقر مشروع القانون تقريباً زي ما هو، حكيت خلص.. روّحَت”. هذه المرة تعلمت الدرس، فلم أعقّب وحافظت على بوزي مسدود.. وكما توقعت، قفز إلى موضوع آخر وهو يعبث بطرف الستارة المتدلي خلف ظهره على الكنبة وبادرني بعد قهقهة أعادته من حكاية أو موقف كان يعيشه في مخيّلته: “اليوم. . . رحت أشتري شويت فواكه، وحملت بطيخة وبدي لسه أطبّل عليها عشان أعرف وضعها، اجا صاحب المحل وقلي: خذها على ضمانتي، وإذا طلعت بيضة اسلقها!!! هاهاهاهاهاهاهاهاهاهاها”. سألته بفضول عن ردة فعله على البائع لأنني أعرف صديقي هذا تمام المعرفة، فهو متطرف في مزاجه، فإما خفيف الظل إلى أبعد مدى وإما تنح إلى المدى الأبعد؛ حسب حالته المزاجية شديدة التقلّب، فطمأنني: “لا. . . ضحكت وأخذتها وطلعت زهرية، فأعطيتها لبنتي تلبسها عشان بتحب الزهري! هاهاهاههاهاهاها”.

 بينما أنا أرجو في نفسي أن لا يعود ليتحدث عن مشروع قانون الجرائم الألكترونية بكلمة ثم يقطعها، اعتدل في جلسته وأخذ يهزّ مدالية مفاتيحه ليطرق طرفها أعلى رِجْل الطاولة طرقات خفيفة شبه منتظمة، ثم نظر إلى السقف وجاء صوته مختنقاً مع عنقه المشدود إلى أعلى: “يعني لو مشروع القانون هاظ طِلِع أيام البلاوي اللي صارت قبل سنتين ثلاث، كان حكينا ماشي، وكان ممكن يعني نقول الجماعة والله خايفين وبدهم يهدوا الأمور شوي.. بس هسَّ!!!” وعلى الفور ودون التقاط نفس أو أخذ رست أو «إِسّْ» كما يقول الموسيقيون، تابع مع بحّة حاول التغلب عليها بنحنحة لتنظيف حلقه من لعاب تجمع فيه: “خلينا بالمهم.. امتى بدنا نرتّب طلعة هَش ونَش؟ شو رأيك بعد بكرة؟”، تمكنّت هذه المرة من الإمساك بطرف الحديث وأخبرته أنني مسافر وصعب ترتيب الطلعة، فسألني إلى أين سفري ليدور بيننا حديث عن السفر بصحبة شخص نكد أو كسول ثم عن أسوأ مطار وأسوأ شركة طيران وأسوأ مدينة، وبيما هو يصف لي إحدى تجاربه المريرة مع إحدى لجان الإغاثة الإنسانية حينما زار أحد الأحياء في إحدى الدول فوجد الناس يعبرون الأزقة والشوارع من جانب إلى آخر على جذوع من خشب فوق مياه المجاري المتدفقة... ثم تدارك وشد طرف كُم بلوزتي وهو يقول: “بمناسبة المجاري.. يعني يا معلم هَسَّ لو بعد صدور القانون كتبت على صفحتي: لو في ضمير عند فلان.. ما بترك هاي الحارة في خريبة السوق غرقانة بالمجاري وشارع بيته بضوي ضوي.. بكون هيك اغتلت شخصيته؟”. رغم سخرية المثال، لكن وجدته يستحق التأمل.. لكن هيهات أن يدعني أتأمل.. إذ ضرب كفّيه على ركبتيه وانتفض قائماً بنشاط غير منطقي مقارنةً بما كانت عليه حالته وهو مرمي على السوفة وناولني عبارته المستفزة:  “خلينا بالمهم.. بدي أروح ألحّق أشتري عوامة للسيفون”، ثم  اندفع نحو الحمام وفتحه وسرّح شعره على عجل وألقى بالمشط على رف المرآة حيث كان، ثم فتح باب البيت وهو يضرب على كتفي ويوصيني ساخرا: “بلالك هلنكد والحكي الفاضي. . . سيبك من اللي بتكتبه وما بيجيك من وراه غير وجع الراس ويا ريته بفايدة.. اكتب إشي عليه القيمة. . . بلا جرائم ألكترونية بلا جرائم ورقية. . . كله محصّل بعضه”، ثم تباعد صوته وباب المصعد ينغلق بينما يودعني: “تنساش يوم الخميس.. يالله سلام!”.

 صديقي هذا متخصص بالقانون وعضو لجان دولية للإغاثة وحقوق الإنسان.. خلينا بالمهم. . . أظنه أحكم مَن قابلت مؤخرا.. خلينا بالمهم.. بكفي لهون عشان دّي أروح أتعشى وأُكمِل فرجة على مسرحية «نهاية اللعبة» لرائد المسرح العبثي صامويل بيكيت.. وخلينا بالمهم.

أضف تعليقك