حين يتدثَّر الألم بقسوةِ السَّر رواية الحرب والسَّلام
لن يبلُغَ الحزنُ منتهاهُ إلا حينَ تُساورهُ تهاويلُ الحربِ، وتتداعَى عليهِ صورها المكتظَّةِ بنواحِ الثكالَى، صراخُ الأطفال وهم ينشدونَ تحنانَ الأمِّ ومسحةِ الأبِّ، دياجير الظلم وقتَ انطفاءِ قناديلِ العدلِ، أزيزَ المدافعِ وقتَ فراغِ البطونِ وامتلاءِ تجاويفِ الأرضِ بشهوةِ البارودِ ورذيلةِ الدم القانيِّ المرشوشِ على عتباتِ المشافيِّ، هكذا فعل الأديب الروسيِّ نيكولا تولستويِّ وهو يرقُم بقلمهِ الأسيفِ مشاهِد الحربِ الضاريَة التي جرت في روسيا تارة وفي أروبَا تارةَ أخرى، تلكَ التي أوقَد نارهَا الملك القصير نابليون بونابارت الذي ابتغَى ترصيعَ نجومَ المجدِ على أكتافِهِ لكنَّه جنَى على الإنسانيَّة كلَّ نواقيسِ الألمِ وعذاباتِ الفقدِ.
لقد اِبتدع الأديب الروسيِّ فنياتِ سرديَّة بارعة اقتدر بِها على توصيفِ المشاهدِ على نحوٍ أقربَ من القارئ، مع بعثهِ في طوايا الرواية مولداتٍ حواريَّة تشخص حالة التمزُّق الوجوديِّ الذي يكتنِه الإنسانِ وهو تحتِ مراسِ الحربِ، و لنتمعَّن في خطواتِ ذلكَ الجنديُّ الروسيُّ الهزيلَ وهو يستجديِّ جرعةَ ماء علَّها تطفئ نيرانَ العَطشِ المستشريةِ في جسدهِ المطحونِ: وجاء جندي هزيل شاحب الوجه، يلفُّ عنقه بجورب ملطَّخٍ بالدَّم، يطلب ماء للمدفعييِّن بلهجة غاضبة، كان يغمغم بانفعال: إنكم لن تدَعوني على كل حال أنْفُق ككلب حقير؟
نعم إنَّها عينُ الحقيقةِ التي استرفدها الجنديُّ المثخنِ بالجراحِ وهو يصارعُ طيفَ الموتِ بنكهتهِ المالحةِ التي أحدثَت ندوبًا في حلقهِ، فقريبًا سيُرمَى في حفرةٍ ترابيَّة ككلبٍ نافقٍ عزلهُ القطيعِ، ولن يسمعَ قرعَ النِّعال المهوسَةِ بالنَّصرِ، ونشيد الوطنِ، وقداسةَ الفداءِ، لأنَّ الحربَ قطعةُ شطرنج تُدار ببيادق خشبيَّة مآلَها التلفُ في النهاية.
أمَّا المتنافسون خلفَ الستائرِ السوداءَ، فسيتعانقونَ في النهايةِ ويقسِّمون الترَّكةِ ثمَّ يُلقِّحونَ التاريخ بنُطفِ التزييفِ وماءِ التدليسِ.
إنَّ الهدنة التي تتخلَّل أشواط الحربِ ما هي إلا رنين مغناطيسيِّ يحاول الكشفَ عن مواضعِ البهجةِ المتواريةِ في خوذةِ الجنديِّ، تلكَ التي تخلَّى عنها قهرًا لصالح حربٍ عبثيَّة تشطُر الأجساد المحمومة بالشرِّ عن الأرواحِ الفئيدةِ التي تودُّ مكاتفَة السِّلمِ للأبد، وفي هذا يصوِّب الكاتبُ تولستوي عدساتهِ لالتقاطِ صورٍ نادرةٍ أين ترتاحُ البندقيَّة برهةً من الزمنِ، وتترجَّل الابتِسامةُ حينًا عسَاها أن تقتلعَ ألغام الكراهية:
انفجرَ الجنود الرُّوس بضحكة بهيجة صريحة، بلغ من تأثيرها أن اِنتقَلت إلى صُفوف الفرنسييِّن المتجهِّمين، كان يُخيَّل للناظر إلى ذلك المشهد أنَّ الجانبين باتا على وشك إطلاق بنادقهم في الهواء وتفجير ذخائرهم استعدادًا للعودة إلى بلادهم.
بيدَ أن تلك اللحظَة آنَ لها أن تتبدَّد في سرابِ الطيشِ الإنسانيِّ حيثُ البحثُ عن التجبُّر والسيادةِ وافتكاكِ الألقابِ السباعيَّة يئدُ التياراتِ الرَّحيمةِ البيضاءِ التي تهفو إلى الجنوحِ نحوَ مباهجِ السِّلمِ والوفاقِ.
وفي الحربِ تضطربُ الأحصنة، ترتجُّ أوتادُ الأرض، ناهيكَ عن الرُّعاشِ الذي يصيبُ الضُّباط وهم يستطلعونَ مرابِض العدوِّ، ذلكَ أنَّ شبح الموتِ بإمكانهِ أن يجثم على رقبتكَ لو استلقَت جفونكَ دقائق معدودةً وهي تتسوَّلُ ذوقَ عسيلةِ النوم الهنيء المفقودِ منذُ أن ابتلعتِ الحربُ أنفاسَ الطمأنينةِ، هذا ما شعَر به القائدِ الروسيِّ روستوف وهو يتحسَّس كمائِن العدو: إنَّ حِصَان روستوف أيضًا نافد الصَّبر، لا يكاد يستقرُّ على الأرض المغطاة بالجمد، كان ينصب أذنيِّه ويضربُ بقوائمه الأرض، ويميل نحو الأضواء، أمَّا الصَّيحات فقد أخذت تزداد وتتعالى وتذوب في جلبة عامة، لا تستطيع القيام بمثلها إلا الألوف المؤلَّفة من الرِّجال، وكانَت النيران منتشرة في تلك اللحظة على طول خط متناهٍ في البعد.
تكادُ الحركيَّة المبثوثة في طوايا السَّرد أن تتهافتَ على القارئ وهو يتحسَّسُ الرواية ويقلِّبُ صفحاتِها بعينٍ باصرةٍ وعقلٍ سبغت عليهِ مظاهرُ الدهشةِ مما صنعه الروائيِّ من هندسةٍ لغويَّة قلَّ نظيرها، وحبكةٍ بلاغيَّة متينة الصناعةِ، حيثُ الرهبة التي تتوقَّد من دياجيرِ المعركةِ فتتسرَّبُ إلى حصان القائد روستوف فيشرعَ في الالتجاجِ والهيجانِ، ثم ينتقلُ السَّرد ليلتقط تلكَ الأصوات المتماوجة المنبعثةِ من حناجر جنودٍ لا همَّ لهم سوى الالتحامِ ومجاراةِ حيثياتِ الحربِ بِنسِقِها المتوحِّش، أما النيرانُ المنتشرة في مضمار الصِّراعِ فماهي إلا رمزيَّة قاتمة تحيلُ إلى هشاشةِ الصورةِ بإطارها الكلاسيكيِّ أينَ الأجسادُ الملفوفة، والنعالُ المكدَّسة، وأبخرةُ الشواءِ البشريِّ الممزوجِ برائحةِ البارودِ.
وفراقُ الأحبَّةِ ومبارحةِ الأهلِ أشدُّ من الحربِ ذاتِها، فكيفَ بمن اِستُكرِهَ على الوداعِ للذهابِ لجبهاتِ القتالِ هكذا يُروي لنا الكاتبُ ذاكَ الحوارَ الذي تشتعلُ بينَ مفاصلِهِ ولعَ الافتراقِ وسعارَ الاشتياقِ بين الأبِ وابنهِ الأمير أندريهِ قبل توجُّههِ لجبهاتِ القتالِ.
فقال الِابن: لقد جئت أودِّعك يا أبيِّ
حسنًا قبِّلني هنا (وأشار إلى وجنته) شكرًا، شكرًا
لِأيِّ شيِّء تَشكرني؟
لأنَّك تلتحق في الجيش في الوقت المناسب، يا للسعادة! إنك لا تتعلق بثياب امرأتك، إنَّ الواجب قبل كلِّ شيِّء، فشكرًا شكرًا
مهما أظهر الأبُ نشوةً بالغة وهو يرى ابنَه يجاسِرُ قلبهُ ويعصيِّ زوجتهُ ويتوجه صوبَ الحربِ للذودِ عن أرضِ في وجهِ الغزاةِ، إلا أن سلوكهُ الفطريِّ الذي لا يمكنُه إخفاءهُ قد فضحهُ، فتلكَ القبلةِ التي ترجَّاها الأب من ولدهِ في وجنتهِ هي بمثابةِ البصمةِ العاطفيَّة التي تهزُّ الكيانِ الإنسانيِّ وتؤرق الشُعورَ الأبويِّ، فَالعاطفة مازالت معلَّقةً في منطقتِها الرماديَّة وهيَ تئنُّ من جدليَّة الأصواتِ المتعارضة، صوتُ الوطنِ والذبِّ عن تُخومهِ وصوتُ الأبوَّة المتكلِّسة في كلِّ قلبٍ متفطِّر من زوالِ نعمةِ الابنِ.
ومهما نازعتكَ نفسُكَ للتَّوغلِ في صفوفِ العدوِّ ابتغاءَ نيلِ البطولةِ وتجذيلِ اسمكِ في حفرياتِ التاريخِ فإنَّ ذلكَ لا يحجبُ ولعِ الحواسِ بدفءِ الشمسِ، مناخَ الحريَّةِ، أبهة العيش تحتَ ظلالِ السَّكينةِ، هذا ما يبوح به القائِدِ روستوف في خضَّمِ تسعُّر المعاركِ ودنو فتيلِ الرَّدى منهُ: مرَّت سحابة غطت الشمس، فرأى روستوف نقالات أخرى أمامه، وعندئذٍ اتَّحد الرُّعب، الذي أحدثه في نفسه تَخوُّفُه من الموت، بحبه للشمس والحياة، وبدت كلها على وجهه في طابع القلق والغم، فغمغم: «آه يا رب! أنت يا من علوت في سمائك، أنقذني وصُنِّي واغفر لي!»
لا غرابَةَ أن يستمسِكَ القائِد بتلابيبِ الحياةِ رغم كلِّ تلك الاستعراضاتِ الجانبيَّة التي تدَّعي ذمَّ بهارجَ الدنيا والانحدار في دوامةِ الموتِ، ولأدلُّ على ذلك تضرُّع روستوف للربِّ بأن يمنحهُ القوَّة والصَّلابة ليس لتكسير ترقوة العدو، بل للِاستمرارِ في دائرةِ الحياةِ والجلوس تحت قرصِ الشَّمسِ الدَّفيء، وهو الذي تشوَّف بعينيِّهِ الذَّابلتيِّن شبحَ الموت وهو يحبو على نقالاتِ الجرحَى، هكذا تُفتضحُ البسالةُ الواهيةُ، والبطولةُ المزعومة فلا شيء يُعادل العيشَ في سلامٍ والمتحَ من قوانينهِ البيضاء، فهضم السَّعادةِ أولى من قضمِ جماجمِ الخصمِ، وإنشاء أسرةٍ أرقى من تأسيسِ فرقِ الموتِ التي تبتغيِّ بشهوةٍ استئصالِ شأفَةِ العدوِّ، وإفشاء الحبِّ أمتعُ من ترويجِ عطورٍ الدَّمار المنسكبةِ على رؤوسِ الأرامل.
لعلَّ أفدح ما في الحروبِ أن تُصدِّرَ لنا قسماتِ المنتصر والمنهزمِ في ملمحٍ صوراتيِّ يمورُ بشتى أنواعِ المفارقاتِ وكأنَّنا أمامَ حارتينِ مُتجاورتينِ: الأولى تعاني التُّخمة في الرَّخاء والامتلاءِ في النَّعيم، والأخرى يكادُ البؤس أن يقتلِعَ وجودَها فلا تسمع منهَا إلا همسَ المعاناةِ.
فهذا نابليون بونابرت على جوادهِ يرفسُ جثثَ القتلَى وكبرياءُ النصر يرفعُ هامتَه غداةَ انتهاءِ المعركة، ثمَّ تتبدَّى نزوتهُ البهيميَّة على نحوٍ حقير وهو يُظهرُ الشَّماتةَ في مقتلِ قناصٍ روسيِّ كانت الحروقُ قد طمسَت آدميَّتهُ: قَالَ وهو يرَى أحد القنَّاصَة الروسييِّن ملقًى على الأرض ووجههُ إلى الأسفَل، مسودَّ العنق وأحد ذراعيه ممتدٌ قليلًا ومتصلِّب: إنهم من أجملِ الرجال!
لا تنفكُ العبارة الأخير بموردها اللُّغويِّ السَّاخر في تعريةِ قساوةِ المنتصر وهو يزجيِّ أَردأَ الكلماتِ في حقِّ جنديٍّ هزمته الحربُ وقساوة الطبيعةِ وتعاسة الحظِّ، فصار جثَّة متعفِّنة تنتظرُ الدِّيدان لتنخرَ أمعاءهُ الخاويةِ ومع ذلكَ لم تسلم من إذايةِ المنتصر المتشخِّص في الملك نابليون بونابرت.
وفي الاتجاه المعاكس نرى الأمير الروسيِّ أندريه على وشكِ الرحيل عن الدنيا بعد أن أنهكتهُ الجراحُ واستبدَّ بهِ الألم بيدَ أنَّ الحروفَ الأخيرة التي نطقَها كانَت المولجَ الأكثرَ تأثيرا في وجدانِ المتلقيِّ ما يوحيِّ بتملُّكِ الكاتب الروسيِّ لأسلوبٍ نادر يصاقبُ اللفظةَ الدَّامغة بحبر الشقاءِ الإنسانيِّ مع الوصفِ الباهرِ في دقائقهِ الاستثنائيَّة: كانت أول فكرة واتَتْه عند يقظته هي: «أين تلك السَّماء العميقة البَعيدة التي لم أكن أعرفها من قبل والتي اكتشفتُها اليوم؟» ثم تساءل: «وهذا الألم أيضًا، أمَا كنتُ أجهله؟ نعم، لقد كنت أجهلُ كلَّ شيء حتى الآن، إطلاقًا كل شيء. لكن أين أنا؟»
تنفتحُ السَّردية على سيلٍ عرمرمٍ من التراجيديا لأمير يشكو الهوانَ في حضرةِ الحربِ التي أمعنت في إذلالهِ وهو سليل أسرةٍ ساميةِ المذهبِ، سامقة المنشئ، ومع ذلكَ راحَ يورِّدُ مشَاهدَ نورانيَّة قلَّما أدركها وهو معانقةُ قممِ السَّماء، وكأن الجسدَ اقتنع بالصمتِ الأبديِّ وهو الذي ألجمتهُ الجراحُ العاتيةِ، وحانَ للأرواحِ أن تعرجَ في مقامِ عليٍّ تكنيةً عن مساراتِ الاحتضارِ بأزمنتِها الباعثةِ على الدَّهشةِ.
ختامًا لا ضير أن يتبوَّأ الأدب الروسيِّ شواهِقَ المجدِ الإبداعيِّ وهذا نظير قوَّتهِ التسريديَّة، ولغتهِ الوصفيَّة الانشطاريَّةِ التي تضع الإنسانَ وأعطابِهِ الوجوديَّة، ونزاعاتهِ النَّفسيَّة في صميمِ الدِّلالةِ النصيَّة الكبرَى، علاوةَ على الرُّؤى الباصرةِ القمينةِ بمكاشفةِ تلاوينَ من المفارقاتِ التي تعتصرُ يومياتِ الناس وهم تحتَ غيمةِ الحربِ السَّوداء، كما فعلَ الأديب الروسيِّ نيكولا تولستوي في رائِعتهِ الحرب والسَّلام.
*مدونات شومان