حرية الصحافة بالأردن والقراءة غير الدستورية

الرابط المختصر

تعيش اليوم حرية الرأي والتعبير والصحافة والنشر في الأردن منعطفا مقلقا منذ دخول قانون الجرائم الإلكترونية الجديد حيّز التنفيذ، تزامنا مع حالة التعاطف والغضب الشعبي الأردني إزاء حرب الإبادة الجماعية الإسرائيلية على قطاع غزة.

يتجسد هذا المنعطف في توقيف عدد من الصحفيين والعاملين في حقل الإعلام أو سجنهم، مثل خير الدين الجابري، وإسراء الشيخ، وعبد الجبار زيتون، وأحمد محسن (الذين أطلق سراحهم لاحقا)، إضافة إلى حقوقيين وناشطين على وسائل التواصل الاجتماعي. ولعل من أبرز هذه القضايا تأييد محكمة البداية بصفتها الاستئنافية الحكم على الصحفية هبة أبو طه بالحبس لمدة سنة بعد نشرها مقالا ناقدا لسياسة الدولة في اعتراض المسيّرات الإيرانية في سماء الأردن وهي متجهة إلى إسرائيل (وليس بسبب تحقيق صحفي بشأن الجسر البري كما تناقلت عدة وسائل إعلامية). وتعد أبو طه أول صحفية أردنية يحكم عليها بهذه العقوبة القاسية استنادا إلى قانون الجرائم الإلكترونية الجديد (2023). كذلك بدأ الكاتب أحمد حسن الزعبي تنفيذ عقوبة الحبس لمدة سنة بعد الحكم عليه بناءً على قانون الجرائم الإلكترونية القديم (2015) على خلفية منشور له على وسائل التواصل الاجتماعي، إلى جانب إغلاق السلطات مكاتب قناة اليرموك الفضائية في عمان، بحجة بثها من دون ترخيص كما تقول هيئة الإعلام، الأمر الذي نفته إدارة القناة.

 

إن التضييق على ممارسة حرية الرأي والتعبير -بالتوقيف أو الحبس أو إغلاق المؤسسات الإعلامية- يجعل ممارسة الحقوق المدنية والسياسية محفوفة بالخوف، ويفرض الصمت بالقوة في وقت تحتاج فيه البلاد إلى تعدد الآراء والأفكار وتنوعها، مع تنامي خطر اليمين الإسرائيلي المتطرف على الأردن في ظل حرب الإبادة الإسرائيلية على فلسطين.

وهنا يصبح نقد الخطط والإجراءات والسياسات الحكومية وكشف عيوبها وتفضيل بعضها على بعض لتحقيق المصلحة العامة[1] واجبا وطنيا على أصحاب الفكر والرأي، ووظيفة مهنية للصحفيين ومؤسسات الإعلام، وضرورة أخلاقية تجاه الجمهور، وصونا لحق الشعب في المعرفة وتقييمه البدائل واختيار ما يناسبه بوصفه مصدر السلطات.

التضييق على ممارسة حرية الرأي والتعبير يجعل ممارسة الحقوق المدنية والسياسية محفوفة بالخوف، ويفرض الصمت بالقوة في وقت تحتاج فيه البلاد إلى تعدد الآراء والأفكار وتنوعها، مع تنامي خطر اليمين الإسرائيلي المتطرف على الأردن في ظل حرب الإبادة الإسرائيلية على فلسطين.

إن حجز الحرية مدان ومستنكر لأي صحفي أو مدون أو ناشط مارس حقه في الرأي والتعبير تجاه ما يحدث في غزة أو انتقد السياسات العامة بخصوصها؛ فلا يمكن أن يكون هناك اعتداء على أي شخص بسبب ممارسته لتلك الحقوق، بما في ذلك الحجز التعسفي، أو الحبس، أو التعذيب، أو التهديد والتخويف، أو الترهيب النفسي، ولا يمكن أيضا تبرير ذلك استنادا إلى القانون أو استشهادا بالاستثناءات الواردة في القانون الدولي لحقوق الإنسان[2].

تحظُر المعايير الدولية فرض أي قيود على حرية الرأي والتعبير، إلا بشروط ثلاثة مجتمعة يجب أن يكون منصوصا عليها في القانون، وأن تكون تلك القيود ضرورية وواضحة في كلماتها ومدلولها وفي أضيق الحـدود لحمايـة أهداف معينة ومحددة ومقبولة في مجتمع ديمقراطي[3]، ويعد انتهاك السلطات لتلك المعايير مخالفة للاتفاقيات والمعاهدات التي صادق عليها الأردن؛ بما في ذلك العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية.

في هذا المقال ندرس الفقه الدستوري وتفسيراته التشريعية والقضائية في ضمان حرية الرأي والتعبير والصحافة والنشر ومدى انسجام ممارسات السلطة وتوافقها مع أحكام الدستور؛ إذ تنص المادة 15 من الدستور الأردني على ما يلي: 1- تكفل الدولة حرية الرأي، ولكل أردني أن يعرب بحرية عن رأيه بالقول والكتابة والتصوير وسائر وسائل التعبير بشرط ألا يتجاوز حدود القانون، 2-... 3- تكفل الدولة حرية الصحافة والطباعة والنشر ووسائل الإعلام ضمن حدود القانون، 4- لا يجوز تعطيل الصحف ووسائل الإعلام ولا إلغاء ترخيصها إلا بأمر قضائي وفق أحكام القانون.

ولا بد من الإشارة إلى أن إشكالية عدم احترام منظومة حقوق الإنسان وحرياته في الأنظمة السلطوية لا تعود إلى عدم وجود النص الدستوري، أو ضعفه، أو التباسه، وإنما ترتبط بمحددات أشار إليها حسن طارق، أستاذ القانون الدستوري بجامعة محمد الخامس، ترتبط بالالتفاف على القيم الدستورية وتفريغها من مضمونها بتشريعات وقوانين غير دستورية، وتوسيع الاستثناءات الواردة على القواعد العامة حتى تغدو هي الأصل. يضاف إلى ذلك استغلال الحالة السياسية بتحايل المؤسسات على الدستور، وعدم احترام سيادة القانون، دونما مساءلة أو حساب[4]، وتغول السلطة التنفيذية على السلطتين التشريعية والقضائية، وتغليب الحلول والمقاربات الأمنية على المقاربات السياسية والحقوقية في إدارة الدولة.

 

أولا: معنى حرية الرأي والتعبير

تعد حرية الرأي حرية مطلقة وحقا طبيعيا وأصيلا ولصيقا بالإنسان؛ فالرأي عملية فكرية يقوم بها عقل الفرد بينه وبين ذاته كمسألة داخلية كامنة في النفس[5]؛ لذا فإن حرية الرأي لا تحتاج إلى تشريع لضمان حمايتها، كذلك لا سبيل للرقابة عليها ما دامت ساكنة في عقل صاحبها كما يرى القانوني عادل الحياري[6]، ومن ثَمّ فإن الحريات الشخصية -وإن أعلنتها إدارة السلطة السياسية- مستمدةٌ من الطبيعة الإنسانية للفرد، "وهي ليست منحة قابلة للعطاء أو المنح، وإنما هي قيمة إنسانية يحميها الدستور"[7].

ولكن كيف تتحقق حرية تكوين الرأي، إذا كانت هناك قيود على حق الناس في التجمع والمعرفة وتدفق المعلومات بسلاسة، مثل منع الندوات وحظر نشر الكتب وحجب المواقع الإلكترونية والتطبيقات وإغلاق محطات التلفزيون؟ إن حرية الرأي/ الاعتقاد -حتى وإن كان حبيس عقل الإنسان وضميره- لا يمكن أن تمارس دون إعمال الحقوق الإنسانية المجاورة.

تقتضي المادة 19 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، حماية حق الفرد في اعتناق الآراء والأفكار من دون مضايقة؛ فلا يجوز إخضاع هذا الحق لاستثناء أو تقييد، بما في ذلك حق الإنسان في تغيير رأيه في أي وقت ولأي سبب يختاره بملء إرادته الحرة، كذلك لا يجوز انتهاك حقوق الفرد أو مضايقته بسبب رأيه وفكره الفعلي أو المتصور أو المفترض، سواء أكان ذا طابع سياسي أو علمي أو تاريخي أو أخلاقي أو ديني[8].

تعرّف لجنة الأمم المتحدة المعنية بحقوق الإنسان في تعليقها العام رقم 34 لسنة 2011 الحقَّ في التعبير الوارد في المادة 19 من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية بأنه "التماس مختلف ضروب المعلومات والأفكار والآراء وتلقيها ونقلها إلى آخرين دون اعتبار للحدود، والتعبير عنها بأي شكل من الأشكال ونقلها إلى الآخرين أو استلامها"، وتشمل: حق الخطاب السياسي، والتعليقات الذاتية، والتعليق على الشؤون العامة، واستطلاع الرأي، ومناقشة حقوق الإنسان، والصحافة، والتعبير الثقافي والفني، والتدريس، والخطاب الديني، والإعلان التجاري. ولضمان حرية الرأي والتعبير، تشكل الصحافة ووسائل الإعلام الحرة والمستقلة وغير الخاضعة للرقابة أو القيود والعراقيل حجر الزاوية لمجتمع تسوده الديمقراطية[9].

إن حرية التعبير هي "الحرية الأصل التي لا يتم الحوار  المفتوح إلا في نطاقها، ودونها تفقد حرية الاجتماع مغزاها، ولا تكون لها فائدة، وبها يكون الأفراد أحرارا لا يتهيبون موقفا، ولا يترددون وجلا، ولا ينتصفون لغير الحق طريقا" وفق ما نص عليه قرار المحكمة الدستورية العليا المصرية رقم 6 لسنة 15، واستندت إليه محكمة بداية عمان في قرارها رقم 765/2010"[10].

 

ثانيا: كفالة الدولة لحرية الرأي والتعبير

في عام 2010، أحالت النيابة العامة الكاتب موفق محادين، والناشط السياسي سفيان التل، إلى المحاكمة بسبب انتقادهما الدور العسكري الأردني في أفغانستان آنذاك، وانتهت المحاكمة بعدم مسؤوليتهما، وشكل الحكم انتصارا لحرية الصحافة، والنشر والرأي والتعبير. ونستذكر في هذا السياق المرافعة الشهيرة للمحامي نعيم المدني للدفاع عن محادين والتل، الذي فسر فيها عبارة "تكفل الدولة حرية الرأي والتعبير" الواردة في الدستور، قائلا إنها "تعني الإطلاق دون تخصيص، والتعميم دون تقييد، وأن دور القانون في هذه العبارة هو تنظيم هذه الحرية على نحو لا يقبل التقييد أو الانتقاص أو المصادرة، بل ولا حتى المساس بهذه الحرية بأي شكل كان، واللافت للنظر أن المشرع الدستوري قد استعمل لفظة دولة وليس لفظ الحكومة، إمعانا منه في التأكيد على التزام السلطات الثلاث؛ التشريعية عند ممارسة دورها في التشريع، والتنفيذية عند ممارسة دورها في تنفيذ القانون، والقضائية عند تطبيق أحكام القانون على أي نزاع، ووجب إعمال هذه الكفالة وإلا وقعت في مخالفة الدستور"[11].

في عام 2010، أحالت النيابة العامة الكاتب موفق محادين، والناشط السياسي سفيان التل، إلى المحاكمة بسبب انتقادهما الدور العسكري الأردني في أفغانستان آنذاك، وانتهت المحاكمة بعدم مسؤوليتهما، وشكل الحكم انتصارا لحرية الصحافة، والنشر والرأي والتعبير

وقد عللت محكمة بداية عمان في ذلك القرار كفالة الدولة قائلة: "عندما يورد المشرع الدستوري كلمة (الدولة) في مطلع الفقرة الأولى من المادة 15 من الدستور، فإن ذلك لا يقصد به الحكومة (السلطة التنفيذية) بل الدولة بكل سلطاتها، وإن التزامها (أي الدولة) لا بد أن يكون إيجابيا؛ ذلك أن استخدام المشرع لكلمة (تكفل) فهذه تعني التزاما ايجابيا، ذلك أن أصل هذه الكلمة من "كفل" وهي تعني ضَمِنَ أو التزم، الأمر الذي يستفاد منه أنه يقع على عاتق الدولة بكل مؤسساتها وسلطاتها توفير الحماية الكاملة لحرية الرأي والتعبير ما دامت لا تضر بالمصلحة العامة"[12].

أما الفقيه الدستوري محمد الحموري فيفسر معنى كفالة الدولة في شهادته بالقضية ذاتها بالقول: "كلمة (تكفل) تعني أن تتدخل الدولة وأجهزتها بفتح الأبواب على مصراعيها لكل صاحب رأي بأن يقول ما عنده وبشكل خاص، إذا كان هذا الرأي من أجل مصلحة الوطن ولحماية دماء أبنائه. ونصت المادة السادسة من الدستور على "تكفل الدولة حق الطمأنينة"، وحق الطمأنينة يعني أن الدولة تتدخل إيجابيا من أجل ألا يشعر مواطن بضيم، وأن ينام ليله مطمئنا على غده وأن رأيه لن يُحرَّف وأن معتقده بانتمائه للوطن لن يشكك فيه أحد، ولن يزاود عليه أحد"[13].

 

ثالثا: ضمان تعدد الآراء

ينص الدستور الأردني في الفقرة الأولى من المادة 15 على أن الدولة "تكفل حرية الرأي، ولكل أردني أن يعرب بحرية عن رأيه بالقول والكتابة والتصوير وسائر وسائل التعبير". وهنا يوضح الأستاذ يحيى شقير في شهادته في محاكمة محادين والتل، أن المشرع الدستوري الأردني "أراد من كلمة "لكل أردني ضمان تعددية الآراء في الأردن وألا يجمع الشعب الأردني على رأي واحد، وألا تسيطر أية حكومة كانت على العقل العام للأردنيين" إتاحة المجال لكل أردني أن يعبّر عن رأيه بحرية تامة... فلا يوجد رأي خاطئ في هذا الكون، لأن كل شخص يعبر عن رأيه الشخصي"[14].

لقد فسرت المحكمة الدستورية العليا في مصر ضمانة الدستور لتعدد الآراء قائلة: "إن الدستور لا يرمي من وراء ضمان حرية التعبير أن يكون مدخلا إلى توافق عام، بل تغيا بصونها أن يكون كفيلا لتعدد الآراء وإرسائها على قاعدة من حيدة المعلومات ليكون ضوء الحقيقة منارا لكل عمل ومحددا لكل اتجاه"[15].

وتدافع المحكمة الدستورية العليا المصرية في أحد أحكامها، بالقول "حيث إن حرية التعبير –وكلما كان نبضها فاعلا وتأثيرها عريضا– هي الطريق لبناء نظم ديمقراطية تتعدد معها مراكز اتخاذ القرار، وتتسم بتسامحها مع خصومها، ومسؤوليتها قبل مواطنيها، وبرفضها لكل قيد يخل بمصداقيتها، واستجابتها بالإقناع لإرادة التغيير، وطرحها من خلال الحوار لبدائل يفاضلون بينها لاختيار أصلحها، أيّا كان مضمونها... بما مؤداه أن الآراء على اختلافها لا يجوز إجهاضها، ولا مصادرة أدواتها، أو فصلها عن غاياتها، ولو كان الآخرون لا يرضون بها، أو يناهضونها، أو يرونها منافية لقيم محدودة أهميتها يرجونها، أو يحيطون ذيوعها بمخاطر يدّعونها، ولا يكون لها من وضوحها وواقعها، ما يبرر القول بوجودها"[16].

"إن الطبيعة البناءة للنقد لا تفيد لزومًا رصد كل عبارة احتواها مطبوع، وتقييمها- منفصلة عن سياقها- بمقاييس صارمة، ذلك أن ما قد يراه إنسان صواباً في جزئية بذاتها، قد يكون هو الخطأ بعينه عند آخرين، ولا شبهة في أن المدافعين عن آرائهم ومعتقداتهم كثيراً ما يلجؤون إلى المغالاة، وأنه إذا أُريد لحرية التعبير أن تتنفس في المجال الذي لا يمكن أن تحيا بدونه، فإن قدراً من التجاوز يتعين التسامح فيه".[17]

 

رابعا: ضمان حماية الآراء القاسية و"غير الدقيقة"

استقرت اجتهادات القضاء الأردني على أن المشرع اشترط في قانون المطبوعات والنشر عند نشر المادة الصحفية تحري الحقيقة، بأن يبذل الصحفي الجهد في ذلك، من دون أن يشترط أن تكون المادة الصحفية مطابقة للحقيقة والواقع فعلا؛ فالصحافة تهدف إلى كشف الأخطاء والتجاوزات في مواضيع تهم الناس والمجتمع، الأمر الذي يتطلب قيام الصحفي بأعمال استقصاء وتحقيقات والحصول على المعلومات[18]. وعليه، ليس كل معلومة غير دقيقة نُشِرت تستوجب العقاب، ما دام الصحفي قد بذل ما في وسعه للتأكد من صحة المعلومات، إضافة إلى حسن نية الصحفي في تناول الموضوع، وأن يكون النقد منصبًّا على العمل ويخدم المصلحة العامة.

ليس كل معلومة غير دقيقة نُشِرت تستوجب العقاب، ما دام الصحفي قد بذل ما في وسعه للتأكد من صحة المعلومات، إضافة إلى حسن نية الصحفي في تناول الموضوع، وأن يكون النقد منصبًّا على العمل ويخدم المصلحة العامة

إن القواعد العامة في القصد الجنائي في قضايا الصحافة والنشر تكتفي بالاعتقاد بصحة الواقعة حتى لو ثبت أنها غير صحيحة، ما دام الاعتقاد بصحتها مبنيًّا على مبررات معقولة ومستندا إلى التحري الواجب في مثل هذه الظروف؛ فأساس الإباحة في النقد هو الاجتهاد لخدمة المجتمع[19]. ويضرب بعض الخبراء مثلًا بالقول إن استناد الناشر إلى واقعة نشرتها وسائل الإعلام ولم يصدر تكذيب بشأنها بعد، تعتبر سببًا من أسباب الإباحة إذا تضمنت ذمًا أو قدحًا[20].

لقد أكدت المحكمة الدستورية العليا في مصر أن "حرية التعبير أبلغ ما تكون أثرا في مجال اتصالها بالشؤون العامة، وعرض أوضاعها تبيانا لنواحي التقصير فيها تقويما لاعوجاجها، وكان حق الفرد في التعبير عن الآراء التي يريد إعلانها ليس معلقا على صحتها ولا مرتبطا بتماشيها مع الاتجاه العام في بيئة بذاتها ولا بالفائدة العلمية التي يمكن أن تنتهجها، وإنما أراد الدستور ضمان حرية التعبير أن تهيمن مفاهيمها على مظاهر الحياة في أعماق منابتها بما يحول بين السلطة العامة وفرض وصايتها على العقل العام، فلا تكون معاييرها مرجعا لتقييم الآراء التي تتصل بتكوينها ولا عائقا دون تدفقها".

كذلك ترى المحكمة الدستورية العليا المصرية جواز استخدام الكلم القارص وحمايته أيضا، "ولا يسوغ بحال أن يكون الشطط في بعض الآراء مستوجبا إعاقة تداولها، وتقتضي الحماية الدستورية لحرية التعبير، بل وغايتها النهائية في مجال انتقاد القائمين بالعمل العام، أن يكون نفاذ الكافة إلى الحقائق المتصلة بالشؤون العامة وإلى المعلومات الضرورية الكاشفة عنها متاحا، وألا يحال بينهم وبينها اتقاءً لشبهة التعريض بالسمعة... مما يخل في النهاية بالحق في تدفق المعلومات. إن انتقاد الشخصيات العامة بمراجعة سلوكها وتقييمه، هو حق متفرع من الرقابة الشعبية النابعة من يقظة المواطنين المعنيين بالشؤون العامة الحريصين على متابعة جوانبها السلبية وتقرير موقفهم منها، ومؤدى إنكاره أن حرية النقد لن يزاولها أو يلتمس طرقها إلا أكثر الناس اندفاعا أو أقواهم عزما"[21].

 

خامسا: حرية الرأي والتعبير في الشأن العام

إن الضمانة الدستورية لحرية الرأي والتعبير تبيح نقد الاعتبار السياسي للشخص والمناقشة والبحث والشك والإنكار، دون أن يعد المساس به قذفا، وهذا ينطبق على أعمال جميع المؤسسات الوطنية الرسمية والأهلية والخاصة التي تقدم خدمة عامة، كما لا يجوز اعتبار ذلك سبًّا أو جريمة يعاقب عليها القانون؛ لأن طبيعة النظام الديمقراطي بما تستوجبه من حق المعارضة ورقابة الرأي العام، على الساسة والقادة، وضرورة الاحتكام إلى الناخبين في أوقات دورية، وإشراك الشعب في مسؤوليات الحكم، تجعل من المستحيل حماية الاعتبار السياسي بجزاء جنائي[22].

الضمانة الدستورية لحرية الرأي والتعبير تبيح نقد الاعتبار السياسي للشخص والمناقشة والبحث والشك والإنكار، دون أن يعد المساس به قذفا، وهذا ينطبق على أعمال جميع المؤسسات الوطنية الرسمية والأهلية والخاصة التي تقدم خدمة عامة، كما لا يجوز اعتبار ذلك سبًّا أو جريمة يعاقب عليها القانون

كذلك فإن "كل من يدخل في ميدان السياسة يجب أن يكون تحت المراقبة والمراجعة والنقد والانتقاد؛ إذ إن المصالح التي تتزاحم في هذا الميدان من الأهمية والخطورة بحيث لا يمكن إعطاؤها حقها من الحماية مع تقييد الألسنة والأقلام"[23].

ولئن كان الدستور قد كفل بهذا النص "حرية التعبير عن الرأي" بمدلوله الذي جاء عامًّا مطلقا يشمل الرأي في مختلف المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، فإنه مع ذلك قد خص حرية الآراء السياسية بالرعاية لما لها من ارتباط وثيق بالحياة السياسية وبسَيْر النظام الديموقراطي في طريقه الصحيح؛ ذلك أن الضمانات التي قررها الدستور بشأن حرية الصحافة واستقلالها في أداء رسالتها وحظر الرقابة عليها أو إنذارها أو وقفها أو إلغائها بالطريق الإداري، إنما تستهدف أساسا كفالة حرية الآراء السياسية باعتبار أن حرية الصحافة هي السياج لحرية الرأي والفكر[24].

إن اعتبار أشكال من التعبير مهينةً للشخصيات العامة لا يكفي لتبرير فرض عقوبات على الناقد، حتى وإن كانت هذه الشخصيات مستفيدة من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية، وهذا ينطبق على الشخصيات العامة جميعها بمن فيها التي تمارس أعلى السلطات السياسية في البلاد[25]؛ لذا فإن إباحة النقد "تفترض أن الناقد قد صان حقًّا أهم وأجدر بالرعاية من حق المجني عليه في الشرف والاعتبار"[26].

أعربت اللجنة الأممية الخاصة بتفسير العهد بالحقوق المدنية والسياسية عن قلقها إزاء القوانين التي تتعلق بحماية رؤساء الدول والحكومات وتحصينهم من النقد والمعارضة السياسية المشروعة، عبر التعابير القانونية مثل إطالة اللسان على الملك أو العيب في الذات الملكية، أو إهانة الموظف الرسمي، أو عدم احترام السلطات، أو عدم احترام العلَم والرموز أو التشهير برئيس الدولة، أو حماية شرف الموظفين العموميين، مشيرة إلى أنه لا ينبغي أن تنص القوانين على فرض عقوبات أشد صرامة على أساس هوية الشخص المطعون فيه ليس إلا، وأنه ينبغي للدول الأطراف ألا تحظر انتقاد مؤسسات مثل الجيش أو الجهاز الإداري[27].

ينظر العديد من الفقهاء إلى الصحافة من زاوية علاقتها بالسلطات العامة؛ فهي تشغل بال الحكام، وتجعل مهمة حكمهم صعبة، لذلك أي سلطة لا تصطدم بمعارضة سوف تصبح في لحظة ما سلطة غير مسؤولة بالمفهوم المعنوي، كما يذهب إلى ذلك الدكتور أمين العضايلة[28].

 

سادسا: سمو الدستور وعدم مخالفة القانون

وجدت محكمة بداية جزاء عمان في قضية محادين والتل عام 2010 في حكمها التاريخي أن نص المادة 118/2 من قانون العقوبات، الذي يتطلب إجازة مسبقة على حرية الرأي والتعبير، لا يتفق مع النص الدستوري الوارد في المادة 15 من الدستور، الذي كفل تلك الحرية، وترى المحكمة أنه يقع على عاتق الدولة بحسب المادة 15 من الدستور الأردني "عند إصدارها أي تشريع  في مجال حرية الرأي والتعبير، أن يضمن هذا التشريع التأكيد على المبدأ الدستوري، وألا يكون من شأن التشريع مصادرة هذه الحرية أو إفراغها من محتواها، أو تقييدها بشكل يتنافى مع ابتغاء المشرع الدستوري من إقراره لهذا المبدأ المتصل بحقوق الإنسان الأساسية، وأنه يفترض على الدولة (وفق ما ورد في نص المادة 15 من الدستور) أن تصدر القوانين والتشريعات التي تنظم ممارسة هذه الحرية فقط، وبشرط ألا يبلغ هذا التنظيم حد وضع الرقابة المسبقة على حرية الرأي والتعبير"[29].

استقرت اجتهادات القضاء الأردني على أن المشرع اشترط في قانون المطبوعات والنشر عند نشر المادة الصحفية تحري الحقيقة، بأن يبذل الصحفي الجهد في ذلك، من دون أن يشترط أن تكون المادة الصحفية مطابقة للحقيقة والواقع فعلا

لقد فصلنا في مقال سابق شبهات عدم الدستورية للمسودة النهائية لمشروع قانون الجرائم الإلكترونية 2024، إلا أننا هنا نؤكد أن جملة "ضمن حدود القانون" لا تعني إلا تنظيم الحق لا تقييده؛ لذا استقر الفقه الدستوري والجنائي على "أن دستورية النصوص الجنائية تحكمها مقاييس صارمة تتعلق بها وحدها، ومعايير حادة تلتئم مع طبيعتها ولا يزاحمها في تطبيقها ما سواها من القواعد القانونية؛ فقد أعلى الدستور قدر الحرية الشخصية، واعتبرها من الحقوق الطبيعية الكامنة في النفس البشرية الغائرة في أعماقها، التي لا يمكن فصلها عنها، ومنَحَها بذلك الرعاية الأوفى والأشمل توكيدا لقيمتها، وبما لا إخلال فيه بالحق في تنظيمها، وبمراعاة أن القوانين الجنائية قد تفرض على هذه الحرية -بطريق مباشر أو غير مباشر- أخطر القيود وأبلغها أثرا. وكان لزاما، من ثَم، ألا يكون النص العقابي محمّلا بأكثر من معنى، مرهَقا بأغلال تعدد تأويلاته، مرنا متراميا على ضوء الصيغة التي أفرغ فيها، متغولا -من خلال انفلات عباراته- على حقوق أرساها الدستور، مقتحما ضماناتها، عاصفا بها، حائلا دون تنفسها بغير عائق. ويتعين من ثَم أن يكون إنفاذ القيود التي تفرضها القوانين الجنائية على الحرية الشخصية رهنا بمشروعيتها الدستورية [30].

 

عدم حبس الصحفيين

من حق الناس الاتفاق والاختلاف في الرأي مع الذين يمسكون بزمام السلطة، هذا الحق يجب ألّا يُعتدى عليه أو يُصادر أو يُضيق عليه؛ فهو أساس مجتمع العدالة وسيادة القانون والتعددية واحترام حقوق الإنسان والتمتع بها.

وفي ضوء تفسير المادة 15 من الدستور، فإن حبس أصحاب الرأي والصحفيين أو اعتقالهم أو توقيفهم بسبب آرائهم السلمية -وإن كانت قاسية– يضرب الكفالة الدستورية؛ لما يفرضه من خوف وعسف وغياب للطمأنينة تحول بين الناس وحريتهم في الرأي والتعبير؛ لذا رأت المحكمة الدستورية العليا المصرية أن "إدانة المتهم بجريمة إنما تعرضه لأخطر القيود على حريته الشخصية، وأكثرها تهديدا لحقه في الحياة، وهي مخاطر لا سبيل إلى توقيها إلا على ضوء ضمانات فعلية توازن بين حق الفرد في الحرية من ناحية، وحق الجماعة في الدفاع عن مصالحها الأساسية من ناحية أخرى"[31].

من حق الناس الاتفاق والاختلاف في الرأي مع الذين يمسكون بزمام السلطة، هذا الحق يجب ألّا يُعتدى عليه أو يُصادر أو يُضيق عليه؛ فهو أساس مجتمع العدالة وسيادة القانون والتعددية واحترام حقوق الإنسان والتمتع بها

إن احترام السلطات لنص الدستور وروحه، يكون في دولة القانون لا دولة الأشخاص، في دولة يتراجع فيها خوف الناس من السلطة، وينكسر فيها موروث الأجداد القائل إن العاقل لا يعادي سلطانا ولا يقترب من سلطانه لأن عقابه لا يرحم[32]؛ ذلك أن أولى الناس في الدفاع عن حرية الصحافة والرأي والتعبير والتضامن مع سجناء الرأي مثل هبة أبو طه وأحمد حسن الزعبي هم زملاء المهنة، وجمعيات الصحفيين ونقابتهم، ومؤسسات الإعلام، وقادة الرأي والمجتمع؛ لأنهم يدافعون أولا عن احترام الدستور وحقوق الناس وحرياتهم، وثانيا يدافعون عن شرف المهنة وكرامتها، وثالثا يدافعون عن أنفسهم.

يشرف الأردن على أعتاب برلمان جديد، وهو بحاجة ماسة إلى احترام تام لحقوق المواطنين وواجباتهم المنصوص عليها في الدستور كافة، ومراجعة كل القوانين الناظمة لحرية الرأي والتعبير والصحافة والنشر في البلاد، على نحو تنسجم فيه مع نص الدستور وروحه، وفتح الفضاء العام، والفصل الحقيقي بين السلطات، وتعزيز استقلال القضاء -حامي الحقوق والحريات والشرعية والمشروعية-، وبناء شراكة حقيقية مع المجتمع المدني، والتخلي التام عن نظام الريع والأبوية، والتراجع عن الإجراءات والممارسات المشابهة لمناخ ما قبل عام 1989، وتعزيز الحوار وتعدد الآراء، وإطلاق سراح سجناء الرأي؛ لأن في ذلك صونا لكرامة الوطن والمواطن، وقوة للدولة وتحصينا لجبهتها الداخلية والخارجية، في ظل حرب الإبادة الجماعية على فلسطين.

أضف تعليقك