حرية التعبير، "الدُبّ الذي قتل صاحبه"
يحكى أنَّ رجلاً أنقذ دُبّاً من أغلال كان قد صُفِّدَ بها، فأقسَم الدُبّ أن يرُدّ الجميل لصاحبه فَنذَرَ نفسه لخدمته فتَبِعَهُ في حِلّه وترحاله.. استَظلَّ الرجل تحت شجرة يستريح فأخذته سنة من النوم.. جلس الدُبّ الوفي يحرسه.. رأى ذبابةً تحط على رأس صاحبه.. فما كان منه إلا أن أمسك بحجر ثقيل فهوىبه على الذبابة فطارت ومات الرجل. لطالما كان طِيب النوايا وتحكيم العاطفة سلاح الدمار الذي أودى بقضاياعادلة ومشروعة بذل المنافحون عنها مَدََدِهم ومِدادهم. إذا أردت التقليل من هيبة المُهاب والحَط من مقام عالي الجناب؛ فما عليك إلا أن تقحم ذكره في كل شيء وتُلصِق كل ما ليس منه فيه، فيغدو قرين التسطيح ومبعث المللونكتة عفا عليها الزمن. هكذا غدت حرية التعبير عنواناً رخيصاً يُبذَلُ فداءً لكل موتور موهوم صَوَّرَ له تضخم عدد متابعيه على مواقع التواصل الاجتماعي أنّه بات في منعة وحصن مكين يخوّله "حقا" مطلقاً في انتهاك حرمات حيوات الناس الخاصة والتشهير بهم أو السخرية منهم ليس لهدف أو بناءً على رؤيا، وإنما لزيادة عدد ألائك المتابعين وحصد المزيد من النقرات على زر الإعجاب. الفضاءات الافتراضية أوجدت جمهوراً افتراضياً يُنصِّب من نفسه مُحكِّماً ومُصنِّفاً أدبياً وفكرياً يَخلِق "كُتّاباً " و "نُقّاداً" و "مُحَلِّلين" افتراضيين؛ فهذا "كاتب ساخر" وذاك "ناقد ومحلل بارع" وهذه "إعلامية مرموقة".... وهكذا دواليك. إذا كان لا مُعقِّب على الناس في تصنيفهم وتصفيفهم لمن يكتبون ولِما يُكتَب على مواقع التواصل الاجتماعي، فإنّ اللافت للنظر ليس فقط تصديق الكاذب لكذبته وانخداع "الكُتّاب" و "الأدباء" و "الإعلاميين" الافتراضيين بتلكم الألقاب والتصنيفات العشوائية،ولكن أيضاً –وهو الأنكى- تجيير كل ما يصدر عن هؤلاءلحساب قضية حرية التعبير حتى لو كان هرطقةً أو ثرثرةً تطال أفراداً وأُسَراً في أدق شؤونهم الخاصة. في مقال سابق بعنوان "ومن الولاء ما قتل"، أشرت إلى ظاهرة قمع واستئصال الآخر باسم الولاء والانتماء وكيف أنّ هاتان القيمتان الساميتان قد ابتذلها "شبّيحة" وسائل التواصل الاجتماعي وجعلوا منهما مجرد منصة للردح والقدح في حق كل من يخالفهم الرأي. اليوم نحن بصدد الوجه الثاني من أوجه العملة ذاتها المتداولة في سوق القمع والاعتداء على حرية الآخر وخصوصيته باسم حرية التعبير، فالبعض يستغل المزاج العام الغاضب لدى الناس من تردّي الأحوال الاقتصادية وضيق ذات اليد وضعف أداء بعض المسؤولين.. ليتخذ من جماع ذلكم كله مادةً للنقد غير البناء والسخرية التي ظاهرها العفوية وباطنها التحقير والبغضاء، فإذا ما همّ من مَسَّهم سوء من هذا المَسلَك غير القويم بالانتصاف لأنفسهم، هَبّت طلائع الجمهور الافتراضي لتحمل على أكتافها "بطلها" الذي هو من صنيعتها مُسَخِّرةً قاموس اصطلاحات الذود عن حرية التعبير لنجدته من عاقبة فعله الأثيم المتنكر في صورة حرية التعبير في "هالوين" اختلاط المفاهيم. هذا من وجهة نظري أكبر خطر يتهدد حرية التعبير لأنه يهوي بها من سمو الإبداع وقوة التأثير إلى غوغائية العاطفة ورعونة الاندفاع من خلال اقحام ما ليس منها online casino في صميمها. أدى الاستخدام التهافتي العشوائي لقضية "تحرر المرأة" في غير سياقها وتلبيسها ما ليس منها؛ إلى تسطيحها وتنميطها في ذهن الكثيرينلتصبح رديفاً ل "الاستقواء" و "التمرد" و "العصيان" و"الانحلال الأخلاقي".. وفي غمرة هذا التسويف الذي ساهمت في جانب منه –عن قصد في حين وعن غيره في أحيان- نساء معنيات بهذه القضية التي تعد من أنبل قضايا حقوق الإنسان؛ تنافح قيادات نسوية مخلصة وما تزال؛ من أجل إعادة تصحيح المفاهيم وتمييز الشوائب التي اختلطت بقضيتهنّ التي دفع بعضهنّ حريتهنّ بل وحياتهنّثمناً لإبرازها وتأطيرها في قالبها الحقوقي العادل. في المقابل يُعزّز من تسطيح بل وتَقبيح قضية حرية التعبير؛تشجيع بعض المؤسسات الرسمية وشبه الرسمية أبواقاً نشازاً امتهنت السباب والشتائم ضد كل من يعارض أو يختلف مع سياسة أو توجه معين وذلك من خلال إعطاء مساحات وتوفير تغطيات لأداء وصلات مطوَّلة وممنهجة من "الردح الحيّاني" في الفضاء الافتراضي بل ومكافأة بعض من "الردّاحين المدّاحين" بوضعهم في مواقع إعلامية في مؤسسات رسمية أو شبه رسمية أو ربما خاصة في فترة لاحقة بعد أداء وانتهاء دورهم المرحلي؛ دون وجود مؤهلات علمية أو خبرات عملية، أما عن فراغ المضمون وخواء المحتوى فحدّث ولا حرج. هذه الجوقة تنكّرت هي الأخرى بثوب حرية التعبير في نَظْم "معلّقات" الهجاءفي حق ضحايا بلطجتها الإعلامية الافتراضية والحقيقية، وهي من بعد عدو ظاهر لا يُخشى جانبه طالما تبيّنت جوانبه، ولكنّ عظيم الخطر وجسيم الضرر على حرية التعبير يأتي من المتمترسين خلفها و المُتَشَدّقين بها ممن يسيئون فهمها أو ممارستها أو الأمرين معا، فهؤلاء مَثَلُهم مَثَلُ الدُبّ الذي قتل صاحبه بحماقته وسطحيته، ولا عزاء للحمقى ولو كانوا أولي قربى.