حبل الكذب الإسرائيلي قصير
بعد مرور أكثر من نصف قرن على الاحتلال الإسرائيلي، أصبح المحتل محترفاً في عملية تبرير القمع، إذ أوجد آلية ناجعة لتغطية أعماله القذرة تحت غطاء قانوني، لتشريع ما هو غير شرعي. ومع مرور السنوات، أصبح الجميع من الطرفين من مدّعين عامين عسكريين أو متهمين ومحامين فلسطينيين كلّهم يلعبون اللعبة نفسها، وكلّهم على دراية بقوانينها، وثمن اللعب خارج النص المتفاهم عليه. لكن حتى هذه الآلية السلسة أصبحت معرّضة للخطر بسبب شجاعة بعض الأبطال الذين يرفضون اللعب، والتعاطي مع طرق عمل المحتل، وتعرّف العالم على أساليب إسرائيل في الفبركة.
أساس اللعبة هو تواطؤ واضح بين الجانبين، الأمني والقانوني، الإسرائيليين، والمحاكم العسكرية، والتي أصلاً هي جزء من النظام الاحتلالي، لكنّها توفر للمحتل صبغة الحياد والقانونية. وتتمركز اللعبة الإسرائيلية القذرة على قدرة المحتل على أن يبقي أي متهم فلسطيني في السجن مدة طويلة من دون إعطائه حق الخروج بكفالة. تضاف إلى ذلك آلية الاعتقال الإداري الذي لا يتطلب توفير لائحة اتهام أو محاكمة. مدة هذا الاعتقال ستة أشهر قابلة للتجديد، بناء على معلومات سرّية غالبا ما تكون مفبركة لإقناع القاضي، إذ يعلم المدّعي العام العسكري أنّ المتهم الفلسطيني ومحاميه لن يعرفا محتوى الملف السري.
وقد وفرت هذه الأمور قدرة كبيرة للجانب السياسي الإسرائيلي على تقييد المعارضين للمحتل واعتقالهم وسجنهم، وذلك كله تحت غطاء "حيادية المحاكم" فلذلك نرى المحتل يعتقل الصحافي والنائب والنقابي والمرأة النشيطة وأيّ شخصٍ يشكّل عمله أو عملها ضرراً محلياً أو عالمياً لإسرائيل. طبعاً، مع مبالغة إسرائيل في استخدام سلاح السجن وتشويه السمعة والاتهام بالإرهاب، ضعفت قدرة إسرائيل، خصوصاً عالمياً، في إقناع الناس ببراءة أعمالها، وتلاشى لدى عديدين التعاطف معها على أساس أنّ إسرائيل "دولة ديمقراطية تحترم سيادة القانون وحقوق الإنسان". وقد أصبح معدل السجن بناء على اعتراف أو صفقة يصل إلى أكثر من 95% من الحالات.
ومع زيادة التعاطف العالمي مع فلسطين، وتراجع الثقة بمؤسسات إسرائيل الديمقراطية، جاء الإعلان المفاجئ عن "إرهابية" ست مؤسسات فلسطينية مشهود لها محلياً وإسرائيلياً وعالمياً أنّها تعمل فقط في مجال حقوق الإنسان والمرأة والزراعة والطفل والأبحاث. ويبدو أنّ المحتل لم يكن يدرك مدى التعاطف الدولي مع تلك المؤسسات، ومعرفة العالم، خصوصاً من خلال قضية السجين، محمد الحلبي، بتلاعب الإسرائيليين في المعلومات لتبرير اتهام غير صحيح لشخص بريء، فقد زادت قناعة المتابعين ببراءة الحلبي، المتهم بأنّه، من موقعه مدير مؤسسة دولية، حوّل 50 مليون دولار إلى منظمات إرهابية، علماً أن المموّل (الحكومة الأسترالية) والمنفذ (مؤسسة وورلد فيجن) أرسلتا، بعد اعتقاله عام 2016، فريقاً من المحققين والمدققين الذين راجعوا كلّ وثائق المؤسسة التي كان الحلبي مسؤولاً عنها، ولم يجدوا أيّ خطأ في عمله الإنساني الفلسطيني. وقد حاولت إسرائيل التغطية على خطأها باعتقال الحلبي بأنّها اعتبرت محاكمته سرّية، وأنّه لا يمكن حتى لمحاميه النطق بأي أمر، بما فيه إجباره على طباعة المرافعة النهائية على حاسوب المدّعي العام الذي لم يوفر له نسخة من مرافعته.
لكنّ الأمر الذي كسر الماكينة الإسرائيلية كان صمود محمد الحلبي، فلم يحصلوا على أيّ أمر منه، على الرغم من تعذيب دام أكثر من خمسين يوماً، نتج عنه فقدان 40% من سمعه. والأهم أنّه رفض أكثر من عشر محاولات لقبول أي صفقةٍ تتطلب منه أن يعترف بأيّ جرم ولو بسيطا، ليحصل على حريته، وأوضح أنه لم يقم بأي جريمة لكي يعترف بها. ودفع ثمناً باهظاً في بقائه مسجوناً أكثر من خمسة أعوام إلّا أنّ صموده أصبح قدوة للآخرين، لعدم قبول الصفقات وفضح النظام الاحتلالي المبني على الكذب والفبركة.
لقد لاحظت حتى الصحف الإسرائيلية الصهيونية مدى تراجع العدالة الإسرائيلية، إذ كتبت صحيفة "جيروزاليم بوست" اليمينية افتتاحية يوم 23 الشهر الماضي (أكتوبر/ تشرين الأول) انتقدت اعتبار المؤسسات الفلسطينية الست إرهابية، وطالبت بإثباتات دامغة، وإلّا سيكون للجمهور الشعور بأنّ غطاء السرّية كما كان في قضية الحلبي هو وسيلة للتغطية على عدم وجود أي أدلةٍ تذكر.
ليس واضحاً إذا ما كانت إسرائيل ستتخذ خطواتٍ عملية لمتابعة إعلانها أنّ تلك المؤسسات الفلسطينية إرهابية، فإذا تم اعتقال مديرين أو قائمين على تلك المؤسسات فستكون هناك مواجهة قانونية مماثلة للتي واجهها ابن مخيم جباليا في قطاع غزة، محمد الحلبي بشجاعة منقطعة النظير. والذي شكّل نموذجاً للتحدّي والصمود أمام آلة القمع الإسرائيلية. وعلى الرغم من أنّه دفع ثمن حريته، ودفعت عائلته ثمناً باهظاً، فقد وفر للشعب الفلسطيني نموذجاً بطولياً، كنا وما زلنا نبحث عنه من القادة الذين ارتاحوا لعملهم، ونسوا معنى التضحية والنضال من أجل التحرّر.
عن العربي الجديد