تقاسيم وجوه سبعينية..عمال يروون تحدياتهم في زمن "كورونا"
وسط صخب المدينة وضوضائها، وزحمة الشوارع والأسواق، وأصوات الباعة المتجولين، أو الذين يصطفون على جانبي الشوارع مع عرباتهم التي تحمل بضائعهم من الخضار والفواكه أو قطع النثريات وغيرها،هكذا يبدو المشهد وسط مدينة اربد،أو على السفح المجاور للسوق فيما يعرف بـ"تل اربد".
وبين ازدحام المارة وهتافات الباعة " تفضل يابا" " نقي عمي" " طازة وقطفة اليوم" تستقبلك ما إن دخلت السوق عبارات ممزوجة ببحة صوت البائع السبعيني وعمال يروون قصص عقود انقضت من أعمارهم في السوق يبيعون متجولين أو على بسطاتهم بوصمة "غير مصنفين".
قصصهم ترويها تجاعيد وجوههم السبعينية، وأيديهم المعرورقة قبل أن ترويها ارتجافة أصواتهم، أو نظرات عيونهم الغائرة التي طوت معها عناء الأعمال المجهدة وهموم الأسرة وتوفير لقمة العيش لهم ولمن يعيلون.
هذا التقرير يعرض جانبًا من قصص عمال غير منظمين من فئة كبار السن وما يواجهونه من تحديات، وكيف أثرت عليهم جائحة كورونا صحيًا واقتصاديًا.
في الشارع المحاذي لمسجد اربد الكبير، يركن أبو أسامة عربته التي تحمل الليمون والذرة، سبعيني بدت عليه ملامح التعب وجور الزمان وضيق الحال بعد أن عمل مربيًا للأجيال ومدرسًا للرياضيات تتلمذ على يده الأطباء والمهندسين والأساتذة لكن حرب الخليج آنذاك أفقدته عمله.
يخرج من منزله فجرًا حاله حال أقرانه في السوق يستقل حافلة النقل العام والتي منعته "كورونا" منها فترة الإغلاق فكان يقطع عشرات الكيلومترات سيراً على أقدامه جيئةً وإيابًا كل يوم، مرتديًا كمامته وملتزمًا قدر الإمكان بإجراءات التباعد الاجتماعي.
لم يكن عمله ميسوراً قبل "كورونا"، وما إن حل الوباء المستجد حتى تراجع الحال وأصبح مدينًا لسوق الخضاربمبلغ 300 دينار، وتراكمت عليه فواتير الكهرباء وازدادت أعباء المعيشة التي أثقلت كاهله.
"العمل مجهد والوباء بخوف وأنا زلمة كبير وصحتي على قدي ، بس مجبر وراي كومة بنات"
بهذه الكلمات برر أبو أسامه وجوده في عمله رغم تردي الأوضاع الصحية والاقتصادية، إلا أن لقمة العيش ونفقات الحياة أقوى من أية ظروف يتابع حديثه " ربما أسوء ما يمر علينا في السوق هو نظرة المجتمع لنا "قوم يا ختيار شو بدك بهالشغلة" عملنا ليس اختيار بل " مجبر أخاك لا بطل" .
يرى أبو أسامة (72عامًا) أن عمله في "الحسبة" هو وأقرانه يشكل هاجسًا يؤرقهم سيما وأن عملهم يتطلب الاحتكاك بمئات المارة والمتسوقين يومياً، وأن السوق يشكل بيئة سهلة لانتقال العدوى بين مرتاديه الذين لا يلتزم بعضهم بإجراءات السلامة العامة.
يؤكد أبو أسامه أن الكوادر الصحية قامت بجولات رقابية مشددة على الإلتزام بالتباعد الاجتماعي داخل السوق، وأن بلدية اربد خلال الجائحة تعاملت ب" إنسانية" مع أصحاب البسطات غير المرخصة فلم تقم بحملات إزالة للبسطات كما تقوم عادة لما يرد من شكاوى من قبل أصحاب المحال التجارية أن البسطات تعيق عملهم وتغلق الطريق واصفين إياهم "بقاطعي الأرزاق".
"العمالة غير المنظمة من كبار السن"
تعتبر العمالة غير المنظمة وتحديدًا كبار السن فئةً تواجه الكثير من التحديات وهي التي لا تتمتع بأي شكل من أشكال الحماية الاجتماعية المنصوص عليها في التشريعات الأردنية خاصة الضمان الاجتماعي .
"وفق تقديرات دائرة الإحصاءات العامة لعام 2019 تبلغ نسبة العمالة غير المنظمة في الأردن ما نسبته 48% .
وقد أثرت جائحة كورونا وظروفها الاستثنائية على مناحي الحياة كافة، سيما الاقتصادية منها، إذ أنهت حياة بعض الشركات العابرة للقارات والعلامات التجارية العالمية، والعمالة غير المنظمة والإقتصاد غير الرسمي في الأردن لم يكونا بحال أفضل ، فقد خسر 47٪ من العمالة غير المنتظمة عملهم بسبب الجائحة، وفقًا لتقييم أجرته منظمة العمل الدولية ومعهد "فافو" للعمل والبحوث الاجتماعية.
"يؤكد التقييم بأن إضفاء الطابع الرسمي والعمل اللائق هما من الإجراءات الناجعة لدعم العمال وحماية حقوقهم في الأزمات "
وعن التحديات يشير تقرير أصدره المرصد العمالي في نيسان الماضي يستعرض التحديات المتوقع أن يواجهها سوق العمل في الأردن جراء تداعيات انتشار وباء كورونا المستجد وكان على رأس هذه التحديات، الاختلالات العميقة في سوق العمل الأردني وأول هذه الاختلالات هو العمالة غير المنظمة.
وفيما يتعلق بالجانب الحقوقي لكبار السن، تعتبر الشيخوخة إحدى الوسائل التي قد تنتهك بوساطتها حقوق الإنسان ،والحرمان من تساوي الفرص والحقوق الأساسية، كما يؤدي التمييز على أساس السن إلى استبعاد العمال المسنين من العمالة النظامية ،كما هو الحال مع عمال البسطات والباعة المتجولين وغيرهم وفقاً لدراسة تحليل واقع كبار السن في الأردن عام 2017.
" لقمة العيش وحب العمل "
ستون عامًا قضاها العم صالح "أبو سعيد" في وسط اربد بائع شاي متجول يجول السوق برشاقة ووقار يلقي التحية على الباعة والتجار وبكل حب يقدم لهم كأس الشاي ممزوجًا بحديث مقتضب ذاكرته حاضرة لكن بجسده الهزيل وهمته وبالرغم من كل ما مر به وعاناه لتوفير كفاف يومه له ولمن يعول ، ما زال يحب عمله ويجد أن وسط البلد هو بيته الذي قضى فيه عقودًا من عمره ,حديثه لبق مبتسمًا بطبعه محبًا لعمله ويتمتم دائمًا "الحمدلله".
يتحرك بغرابة ملفتة بالنسبة لرجل سبعيني أنهكه الإعياء و أحنى ظهره جور الزمان يقول: "منذ عملي في السوق لم أجلس في البيت بدون عمل إلا في فترة الإغلاق أحب عملي على صينية الشاي منذ أن كنت صبيًا ".
تشبهه السيدة سمية (مزارعة وبائعة فواكه) في حبها لعملها والذي يدفعها إلى المجيء صباح كل يوم من عجلون إلى سوق اربد مبتسمة تبدو عليها ملامح القوة والعزيمة رغم تقدم سنها ترتدي الزي الفلاحي و بلهجتها القروية الرصينة تودع زبائنها قائلة "بي العافية يمه" .
يؤكد المجتمع المدني أن الإنسان له الحق في العمل مهما كان عمره بما أن لديه الرغبة في العمل، وأنه لا أحد يملك الحق أن يمارس أي نوع من أنواع التمييز على فئة عمالة كبار السن أو أن يفاضل بإعطاء الفرص والأولويات على حساب حقهم في العمل. كما تدعم عدد من المنظمات ومؤسسات المجتمع المدني في الأردن نهج حقوق الإنسان لفئة كبار السن في الأردن بما يتماشى مع التشريعات الدستورية التي عززتها الحكومة الأردنية من خلال وثيقة الأردن 2025 والخطة الوطنية الشاملة لحقوق الانسان للأعوام 2016-2025 كما تعمل هذه المؤسسات على تمكين فئة كبار السن أو الجهات التي تعمل مع هذه الفئة ،كما تقوم بتوفير برامج الحماية والدعم والادماج وتوفير سبل العيش والعمل اللائق لهم.
وحول الاستراتيجية الوطنية لكبار السن للأعوام 2018-2022 تقول رئيس قسم المتابعة والاتصال في المجلس الوطني لشؤون الأسرة خديجة علاوين إن الاستراتيجية والتي أعدها المجلس بالتعاون مع المؤسسات الحكومية والوطنية والمجتمع المدني تعمل على محور كبار السن والعمل ، حيث أشارت في حديثها إلى أن الخروج من سوق العمل بعد سن التقاعد، لا يعني بالضرورة إنقطاع كبير السن عن المشاركة المجتمعية، ولكن يبقى هنالك فرص متنوعة للمشاركة تأخذ أنماطًا و أدوارًا متعددة،كالعمل خارج سوق العمل الرسمي،أو القيام بأعمال متعددة،كالعمل خارج سوق العمل الرسمي،أو القيام بالأعمال التطوعية، أو الانضمام للجمعيات، أو العمل كمستشارين وغيرها.
كما أشارت العلاوين إلى أن خيار العمل بعد سن التقاعد يُعدَ تحديًا أمام الشيخوخة الإيجابية مؤكدة أن التجربة العملية أثبتت أن من يعملون لفترة أطول يتمتعون بصحة أفضل عند تقدمهم بالعمر.
الجائحة وعمالة كبار السن"
" مثل ما انت شايفة بشتغل على بسطة فواكه ، كنت أشتغل مراقب تركيب أنابيب في الخليج وتركت هالشغل بسبب المرض,معي ديسك وضغط وسكري يعني وضعي ما بتحمل أنصاب بكورونا .....لقمة العيش صعبة والله الحافظ "
العم أبو أحمد والذي يعمل على بسطة بجوار فندق حجازي القديم وسط اربد ،ترك عمله في مجال مراقبة تمديدات الأنابيب في الشركات الصناعية وصناعات البترول بسبب أمراضه المزمنة وخوفًا من مضاعفاتها على صحته، وبعد عشرين عام قضاها في السوق يعود له هاجس الخوف مرة أخرى لكن اليوم بسبب كورونا المستجد.
يقول عضو اللجنة الوطنية للأوبئة واختصاصي الأمراض المعدية الدكتور جمال الرمحي إنه وبلا شك أن فئة كبار السن هم الفئة الأكثر عرضة للإصابة بفيروس كورونا بعيدا عن ظروف العمل وبيئته التي قد تكون مجهدة للعمال غير المنظمين من كبار السن.
ووفقًا للرمحي فإن الخطورة تكمن للعمال من كبار السن فيما إذا كانوا يعانون من أمراض مزمنة تضعف الجهاز المناعي كأمراض القلب وأمراض الجهاز التنفسي والرئتين والسكري. مؤكدا أن حركة السوق وعدم إلتزام البعض بالتباعد الاجتماعي قد يزيد من احتمالية إصابتهم بفيروس كورونا.
مؤكدا أن مرضى السكري يتأثرون بتغيرات مستوى ا في الدم مما يضعف جهازهم المناعي ويقلل بالتالي من قدرتهم على التصدي لأي عدوى فيروسية، وهذا ما حذرت منه دراسة صينية أكدت أن ارتفاع مستوى الغلوكوز يزيد من احتمالية الوفاة جراء "كوفيد-19".
وعلى سياق متصل تؤكد منظمة "هيلب إيج إنترناشونال " أن القضايا الصحية كانت من أهم التحديات التي تواجه فئة كبار السن وفقا لدراسات أجرتها العام الماضي أي ما قبل كوفيد-19 وبما أن هذه الفئة هي الأكثر عرضة للإصابة بالفيروس فبالتالي تبقى التحديات الصحية لكبار السن في الأردن على سلم الأولويات.
ومع عودة إغلاق الأسواق الشعبية والتي تشكل مركز العمالة غير المنظمة وبين واقع هذه العمالة من كبار السن، والتحديات التي تواجههم مع غياب مظلة الحماية القانونية والحماية الاجتماعية لحقوقهم ووسط مساعي المجتمع المدني لتحسين واقعهم المعيشي وتوفير سبل العمل اللائق لهم، تبقى هنالك فجوة بين الواقع والمأمول للعمالة غير المنظمة من كبار السن في الأردن.