تجليات النّزعة الرّومانسيّة في ديوان أغنية الفجر للشّاعر نجيب القسوس

الرابط المختصر

نجيب سليمان القسوس، شاعرٌ أردنيّ، ولد سنة 1926 في الكرك، إحدى محافظات جنوب الأردن، توفي سنة 1994م(1).

الرّومانسيّة.

في البدايةِ، نشير إلى أنّ موضوعَ الرّومانسيّة يُحيلنا إلى طرحِ تساؤلاتٍ مُناطة بالنشّأةِ والمرتكزات والخصائص. 

تعدّ الرّومانسيّةُ من المذاهبِ الأدبيّةِ النقديّة، وقد ظهرَ المذهبُ الرّومانسي في بداياتِ القرنِ التّاسعِ عشر الميلادي، متحررًا من القيودِ الكلاسيكيّة وقوانينها الصّارمة(2). ويتعيّن هنا التّأكيد، أنّ الأدبَ شعرًا ونثرًا من منظورِ المذهبِ الرّومانسي تعبيرٌ عن الذّاتِ النّفسيّة، من حيثُ العواطفِ، والمشاعرِ، والوجدانِ؛ لهذا، لا نعجب من شيوعِ النّغمةِ الغنائيّة فيه.

 ومن أبرزِ خصائص الرّومانسيّة وسماتها، الارتهان إلى الخيالِ، وشيوع الكآبة، والإحباط، واليأس، والحزن العميق، والوحدة، والشّعور بتفاهةِ الحياةِ والملل، والأمل، والهدوء، إلى جانبِ ذلك، الهروب إلى الطّبيعةِ والتّأمل العميق في الكونِ والحياة. إضافةً إلى ذلك، الذاتيّة الموغلة بالتّشاؤمِ، والتّمردِ على الأنظمةِ والقوانينِ والأعراف السّائدة، والمطالبة بالحريّة. ومما يجدرُ ذكره، بأنّ البطلَ في الأعمالِ الأدبيّة الرّومانسيّة من الشّخصيّاتِ البشريّة، ويستمدُّ ملامحه من الواقعِ والوسطِ الاجتماعي، مع الإشارةِ إلى أنّ طبيعةَ البطل الرّومانسي شديد الحساسيّة النّفسيّة، عاشق، ويائس، وبائس، ومعذّب، وشجاع، وطيّب، ومظلوم، ودائم القلق.

 يأخذُ الحبُّ إلى جانب المرأة حيزًا مهمًّا عند الأدباءِ الرّومانسيين، من حيثُ كونها المحبوبةَ، والمعبودةَ، والملهمة، وعلى العكسِ تمامًا، نجدُ المرأة شكّلت مصدرًا للشرورِ، والشّقاءِ، والتّعاسة، والألم، والعذاب عند بعضِهم الآخر، أمّا اللغة فهي سهلةٌ، ورشيقةٌ، ورقيقة(3). 

من النّاحيةِ الفنّيةِ الشّكليّة، مالَ الرّومانسيون إلى التّحررِ من قيودِ الوزنِ والقافيةِ، والثورةِ على نظامِ القافيةِ العموديّةِ المتصلة، وهذا تمامًا ما يظهر بجلاءٍ في شعرِ نجيب القسوس.

روّاد المذهب الرّومانسيّ

يُعدّ جان جاك روسو رائد الرّومانسيّة، وكذا شاتو بريان، وبودلير، وفكتور هوجو، ولامارتين. ومن أبرز روّاد المذهب الرّومانسي عند العرب جبران خليل جبران، وخليل مطران، وعباس محمود العقاد، وميخائيل نعيمة، وغيرهم.

أغنية الفجر

توزّع ديوانُ أغنية الفجر على ثلاثٍ وستين قصيدة، وما يلفت النّظرَ في هذا الدّيوان، النّمطُ القديمُ في الشّكلِ والتأليفِ والوزنِ العروضي الشّعريّ، ومن الجديرِ بالملاحظةِ بأنّ القافيةَ في شعرِ القسوس على نمطين: القافية العموديّة المتكررة، والقافية العموديّة المتنوّعة باستخدامِ الأسلوبِ المقطعي؛ بحيث تقفُ كلُّ قافية عند حدودِ المقطع، وتتغيّر مع كلّ مقطع جديد. وعلى هذا، كثيرًا ما يلاحظ القارئ تحلل القصيدة من قيودِ القافيةِ التّقليديّة العموديّة في شعرِ القسوس التي تلزم الشّاعر بروي واحد في قصيدته.

النّزعة الرّومانسيّة وتجلياتها.

إنّ انشدادَ نجيب القسوس في ديوانه أغنية الفجر إلى هاجسِ التّحررِ من الشّكلِ التقليدي للقصيدةِ العموديّة من حيثُ البناء المقطعي، يُؤكّد بما لا يدع مجالاً للشكِّ النّزوع الرّومانسي لديه، كما يمكن رصد النّزعة الرّومانسيّة من خلالِ توظيفِ الشّاعرِ الطّبيعةِ بأشيائها المتعددة، حيث تنمية الإحساس بالجمالِ عن طريقِ التّواصلِ بين الطبيعةِ الماديّة والإنسان، يقول على سبيلِ المثال في قصيدةِ أغنية الفجر، ذات البناء المقطعي، التي حمل الدّيوان عنوانها:

الفجرُ أقبلَ يمــــلأُ الدنيا حبورًا وابتسامــــا

والزّهرُ يرتشفُ النَّدى نشوان يحسبهُ مُداما

 

الفجرُ أقبلَ والطّيــورُ تـــــــرف بين الشّجر

والطل في أعلى الغصــون كأنّه حبُّ الدرر

 

إنّ تكرارَ العناصر الطّبيعيّة وحضور موضوع الحبّ جنبًا إلى جنبٍ مع المرأةِ على مدارِ النّصوصِ الشّعريّةِ، ظاهرةٌ منتظمةٌ عند نجيب القسوس وتسترعي الانتباه، من هنا لا بدّ من النّظرِ في  تكرارِ الظّاهرةِ بشكلٍ أوسع في ديوانِ أغنية الفجر، ولعلّ هذا يؤكّد ما سبق أن أشرنا إليه فيما يتعلّق بخصائص الرّومانسيّة وسماتها، من ذلك قوله في قصيدة "على شاطئ يافا"، المشحونة بشوق جارف وحنين طاغٍ للمكان:

لــــــــي من تذكّـــــرها شجو أردده

عند الصّباح وفي ســــــود الدجناتِ

إنْ لفّني الليل في ظلمائـــــه انبثقت

أنـــــوارهن كـــــأقمارٍ بــــــهالاتِ

أبيتُ لا أشتكــــي سقمًا يُـــــؤرقني 

بين الحسان وفي ظـــــلّ الخميلاتِ

ترتسم الرّومانسيّة في نصوصِ القسوس الشّعريّة من خلالِ ثلاثيّةِ الرّموزِ الصّوفيّة، وهي: الطّبيعة، والمرأة، والخمر، في علاقة دائمة الارتداد بدءًا وانعكاسًا، ويمكن الاستدلال على ذلك كشاهدٍ تمثيلي بما ورد في قصيدة "هل تذكرين"، وقد ارتسمت المرأة في وعي الشّاعر على هيئة نداءات وذكريات جميلة، تماهت مع الطبيعة فيما يشبه فكرة الحلول عند المتصوّفة، مما يجعله دائم الشّعور بالقلق والحزن والغربة:

 

فهل تذكريــــــن جلوس الغديـــــــــر

وشرب المدامـــــــــة بين الزهــــــر

وهل تذكريــــــــــــن جمال الغروب

ونحن وحيــدان بين الربـــــــــــــــى

وقد خيّم الصّمت فـــــــــوق المروج

ولاحَ على الأفـقِ طيـف المســـــــــا

إنّ وفرة مشاهد الطّبيعة وعناصرها تتصدّر النّصوص الشّعريّة، من خلالِ تكرارِ مفرداتِ الطّبيعةِ ومتعلّقاتها من مثلِ: الليل، الصّباح، المساء، الغيوم، الأزهار، الضّحى، الماء، الرّيح، السّماء، الرّوض، السّواقي، الرّبى، النّسائم، الخمائل، الزّهر، الثّمر، الشّمس، الطّير، البحر، إلى ما سوى ذلك من مفردات لا يتسع متن المقال بطبيعةِ الحالِ للإفاضةِ فيها، ولنأخذ شاهدًا على ذلك من قصيدة "طلع الفجر"، أقرب ما يكون بفكرةِ حلول المرأةِ بالطّبيعةِ وتماهيها:

طَلَعَ الفجرُ فقومــي، وبشير الصّبح لاح

وشذا البلبلُ نشوانًا، وعرف الزّهر فاح

إنني أفنيتُ عمري بين أحضان الرّبــى

فتعالي واسمعيني نادبًا عهد الصّبــــــى

يعدُّ موضوعُ الحبِّ واحدًا من مواضيع الرّومانسيّة البارزة، تبعًا لذلك، يعبّر القسوس عن الحالةِ النّفسيةِ ووصف معاناته وما يعتريه من لوعةٍ وعذاب وشجنٍ وشوق، حيثُ يقول في قصيدة "سال وانتثر:"

سَالَ وانتثرَ مدمــــع طفرْ

من لواعجَ للهوى وحـــرْ

عاشــــقٌ لهُ في العنا مقرْ

يومــــهُ ضنى، ليلهُ سهرْ

وعلى صعيدٍ آخر، تتحوّل الرّومانسيّة في نصوص نجيب الشّعريّة إلى مناجاةٍ واستغاثةٍ بالطّبيعةِ، لا سيّما حين يلجأ إلى استخدامِ نبرةٍ لا تخلو من ذاتيّة وحساسيّة مفرطة باليأسِ، وعلى هذا الأساسِ، تتجسّد الطبيعةُ من منطوقِ الشّاعرِ كبديلٍ تعويضي عن الافتقادِ، ويكفينا للتدليلِ على ذلك أن ننظر في قصيدةِ "الزّورق المحطّم" المترعة بالشقاءِ والألمِ والتّشاؤم:

 

دعونــــي وحــدي أسكب الدّمـع والمنى

فإنــي أخــــــال الجفن قد فاض بالدمــــا

دعوني أنــــاجِ الزّهر في رونق الضحى

يميــــــــل بأنســــام الصبـــــــا متبسمـا

فرحـــتُ إلى الأجــــــــداث أذرفُ عبرة

وكـــم خلتها مما أُكابـــــــــــــد عندمـــا

وفي إمكاننا أن نرى نزوعًا رومانسيًا آخر، ذلك من خلال التشاؤم، والشّعور العميق بالاغتراب، وانعدام قيمة الحياة، يقول في قصيدة "الزّهرة الذابلة":

وما الحياة بـــه إن الحياة هنـــا

كريهة ملؤهــا الأحقـاد والنــدم

ما قيمة المرء في دنيـاه ممتهنًا 

تضج من حوله البلوى وتلتظم(4)

وأخيرًا، فإنّ هذه المقالة لن تدعي نهاية القول في النزوع الرومانسي، وعلى أيّةِ حالٍ، نستطيع أن نقول، بشكلٍ ما: إنّ قارئ شعر القسوس يلاحظ الطبيعة والمرأة قد شكّلا إطارًا عامًا وخيطًا يتفتقان من بين جوانبه ويتحركان نحو مفهوم كلّي وشموليّ، على أنّ المثير للاهتمام، الذاتية المفرطة بالحساسيّة في النّصوص الشّعريّة الأكثر حضورًا في التّعبير الشّعريّ.

ومن النّاحيةِ الوصفيّةِ التأويليّة، فإنّ توظيفَ القسوس الطّبيعة في نصوصهِ الشّعريّةِ جاء خدمةً لنزوعِهِ الرّومانسي، لتصبح القصيدة نوعًا من العودةِ إلى البراءةِ الأولى. وبهذا، نكتفي بالإحالةِ على ما رصدناه من نماذج شعرية للدلالةِ على نزوعِ الرّومانسيّة في شعرِ نجيب القسوس، وقد تجلّت ملامح النّزوع من حيث الشّكل والمضمون وفي مفردات وتراكيب متصلة تمام الاتصال بالرّومانسيّة، تتقاطع أو يتماس بعضها ببعض.

باحث وناقد مستقل ـ الأردن.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المصادر والمراجع

(1) انظر، معجم الأدباء الأردنيين في العصر الحديث، منشورات وزارة الثقافة الأردنيّة، ط1 ـ 2014، ص 307. 

(2) انظر، الأدب ومذاهبه: محمّد منذور، دار نهضة مصر للطّبع والنّشر، القاهرة، ص 55.

(3) انظر، الرّومانسيّة وتداعياتها في ديوان "أوراق الزّيتون" للشّاعر محمود درويش: أحمد البزور، منشور في موقع الحوار المتمدن https://m.ahewar.org/s.asp?aid=703156&r=0،2020. وهذا المقال، رغم أنّه لا يمسّ موضوعنا هذا إلّا من بعيد، فهو لا يخلو من الأهميّة.

(4) أغنية الفجر: نجيب القسوس، منشورات وزارة الثقافة الأردنية، ط1 ـ 1990، عمّان.

 

أحمد البزور، مواليد الزّرقاء، سنة ١٩٩٠، حاصلٌ على درجة الدّكتوراه في الأدب والنّقد الحديث من الجامعة الأردنيّة، وعضو في الاتّحاد الدّولي للغة العربيّة، ولديه العديد من الأبحاث المنشورة في مجّلات محليّة وعربيّة محكّمة، وكتب عددًا من المقالات والمراجعات عن الأدب والنّقد في الصّحف والمواقع الإلكترونيّة المتخصصة.