ما أن بدأ انسحاب الولايات المتحدة من أفغانستان منتصف الشهر الماضي حتى بدأ المنظرون في هذه المنطقة يهللون ويكبرون على مواقع التواصل الاجتماعي وشاشات التلفزيون. من العناوين التي انتشرت فورا ما يلي: "أميركا انهزمت في أفغانستان والبقية تأتي!"، "أميركا تجرجر أذيال الهزيمة وإسرائيل ستأتي بعدها"، "هذه بداية انسحاب أميركا من المنطقة العربية وعلى أصدقاء أميركا أن يتعلموا الدروس"، "أميركا رفعت الغطاء عن حلفائها في أفغانستان وسترفعه عن إسرائيل"، وما إلى ذلك الكثير، الكثير، ومنها عناوين أكثر خيالية بل هي أقرب إلى الأحلام والتمنيات منها إلى الحقيقة والواقع.
هذه عناوين كان يمكن أن تصدر عن جهاز للتعبئة المعنوية لحزب أو لميليشيا ما أو حتى لجيش أو حكومة ما. ولكنها كان يجب ألا تصدر عن مؤسسات تسمي نفسها إعلامية. ولكن هذه هي الحقيقة. فلا فرق في هذه المنطقة بين أجهزة وهيئات التعبئة المعنوية ووسائل الإعلام، وغالبيتها رسمية وتابعة لهذه الدولة أو تلك، أو لهذا الحزب أو ذاك، كما الحال في لبنان. وسائل الإعلام هذه، للأسف، ربما ترفع قليلا وبصورة مؤقتة من معنويات شعوب مهزومة، مقهورة، مسحوقة، ضائعة وتسير في قارب أخذ فيه قائده غفوة طويلة في بحر متلاطم الأمواج. ولكن سرعان ما يستيقظ جمهور هذه الوسائل ليكتشف أن كل ما عبأته به وسائل الإعلام هذه لم يكن أكثر من تمنيات أو أحلام أو خيال جامح ولا علاقة له بالواقع أو الحقيقة، فيصاب بالإحباط الشديد من جديد ويعود إلى فراشه باحثا عن أحلام جديدة. لكن هذا الجمهور لا يصحوا على أحلام جميلة جديدة، بل على كوابيس قاسية تعيده إلى الوراء لا لسنوات فحسب، بل ولربما لعقود أو حتى أطول من ذلك. والنتيجة هي دوامة لامنتهية من هذه التعبئة وهذه الكوابيس.
أعرف أنني أكتب ضد التيار، وأن البعض سيكرهني وربما أسوأ من ذلك، ولكنني أريد أن أقول الحقيقة لجماهير هذه المنطقة، حسب أفضل ما يتوفر لي من معلومات وتحليلات. هكذا يجب أن تكون مهمة الصحفي أو اصنع الرأي في هذه المنطقة: أن يوفر المعلومة الصحيحة والتحليل الصحيح حسب أفضل ما لديه من معلومات واتصالات وعلاقات للجمهور ويترك للجمهور اتخاذ القرار المناسب. وإذا لم تتغير مهمة الإعلام في هذه المنطقة، فإنني أرى أن لا فرصة لديها للنهوض ولا للتقدم وتغيير واقعها المزري على كل الصعد والمستويات.
أصدقائي، أميركا لم تُهزم في أفغانستان، وإنما قررت الانسحاب من هذه الدولة بعد عشرين سنة من الاحتلال الذي كلفها أكثر من 6,000 قتيل (بين العسكريين والمتعاقدين الشركاتيين الأميركيين) وعشرات الآلاف من الجرحى وأكثر من تريليوني دولار، ربما تصل إلى أكثر من 6 تريليونات دولار بعد أن يدفع العم سام الفائدة على القروض التي استدانتها أميركا لتمويل هذه الحرب التي هي الأطول في تاريخ أميركا. هذا فضلا بالطبع عن عشرات الآلاف من القتلى والجرحى الأفغان. وكما حصل في حروب أميركا السابقة – من كمبوديا إلى فيتنام ومن كوريا إلى العراق وأفغانستان في الآونة الأخيرة، أميركا حزمت أمرها أخيرا بقيادة شجاعة من الرئيس جو بايدن وقررت أن تقول: كفى، علينا أن نوقف هذه المهزلة وأن ننسحب. هي التي قررت أن تنسحب، ولم تُجبر على الانسحاب في هذه اللحظة من التاريخ. هي التي قررت الانسحاب، وكما قال الرئيس بايدن نفسه، "فلو مكثنا 20 عاما أخرى في أفغانستان، فلربما كانت النتيجة هي نفسها اليوم". لم يكن أمام أميركا بايدن إلا خيارين: البقاء فترة أطول وهو ما يعني زيادة وجودها العسكري بعشرات الآلاف من الجنود وزيادة الإنفاق بعشرات المليارات وتقديم كم أكبر من التضحيات البشرية والمالية، أو وقف الهدر والخسائر والانسحاب، فاختارت الخيار الثاني، وهو الخيار السليم. لم تتبق هنالك مصالح أمن قومي أميركية حيوية في أفغانستان، ولالتالي لم يعد هناك مبرر للولايات المتحدة لمواصلة تلك الحرب المكلفة والمدمرة.
هذا هو كل ما حصل، باختصار وموضوعية وبساطة. أميركا بلد ديمقراطي وقراراتها تُتخذ على أساس ما يريده الجمهور. المشكلة أحيانا أن السياسات الداخلية في أميركا، كما في الديمقراطيات الأخرى، تضطر رئيسا لأن يغض الطرف عن مشكلة أو أزمة، داخلية كانت أو خارجية، بسبب ضغوط سياسية داخلية. ولكن الديمقراطية سرعان ما توصل مسؤولا إلى الحكم يكون مستعدا وشجاعا بما يكفي لاتخاذ القرارات الصعبة بغض النظر عن النتائج السياسية الداخلية. في حال أفغانستان، دعونا نتذكر أن رئيسا جمهوريا – جورج بوش الابن – هو الذي بدأ غزو أفغانستان على خلفية استضافة حركة طالبان حينئذ لتنظيم القاعدة الذي شن هجمات 11 سبتمبر 2001 التي أدت إلى مقتل قرابة 3,000 ميركي. ودعونا نتذكر أن رئيسا ديمقراطيا جاء بعده، وهو باراك أوباما، وأمضى 8 سنوات في الحكم دون أن يتخذ القرار الصعب بإنهاء عملية أفغانستان. ثم جاء رئيس جمهوري آخر، وهو دونالد ترامب الذي لم يفعل شيئا بشأن أفغانستان إلا في سنته الأخيرة حين وقع اتفاقا مع حركة طالبان في الدوحة بقطر في فبراير 2020 ينص على الانسحاب الأميركي من أفغانستان بحلول أواخر مايو 2021. كل مل فعله بايدن هو تأخير الانسحاب من أفغانستان إلى أواخر أغسطس المنصرم لمنح إدارته بعض الوقت لتدبر أمر الانسحاب. ربما وقعت إدارة بايدن في بعض الأخطاء لناحية تنفيذ عملية الانسحاب، ولكن قرارها الأساسي المتمثل في الانسحاب كان صحيحا مئة بالمئة واحتاج إلى قدر كبير من الشجاعة والجرأة من الرئيس بايدن الذي أصر على الانسحاب بغض النظر عن الثمن السياسي الداخلي. وليس بالغريب أن يهاجمه الجمهوريون واليمين الأميركي على ذلك، فهذه هي السياسة، للأسف.
علينا أن نتذكر أيضا أن أميركا لم تذهب إلى أفغانستان لمحاربة طالبان أو منع إقامة "إمارة إسلامية" في تلك الدولة، فحركة طالبان سيطرت على غالبية أفغانستان وأقامت تلك الإمارة فيها من العام 1996 إلى العام 2001، ولم تهاجمها أميركا. أميركا ذهبت إلى أفغانستان في العام 2001 لمحاربة تنظيم القاعدة وقد فعلت ذلك بإنهاء وجود القاعدة في تلك الدولة، وقتلت زعيمها أسامة بن لادن بعد ذلك. أميركا حققت أهدافها في أفغانستان منذ العام الثاني أو الثالث من احتلالها، وكان عليها أن تنسحب حينئذ، ولكنها لم تفعل وهنا المشكلة، وليس انسحاب بايدن الأخير من هذه الدولة.
انسحاب أميركا من أفغانستان لن يكون بداية لانسحاب أميركا من هذه المنطقة لأن هناك مصالح أمن قومي أميركي حيوية لا زالت في هذه المنطقة. وأميركا لن ترفع غطاءها عن إسرائيل لتتحول إسرائيل إلى حكومة هي أشبه بحكومة أشرف غني التي انهارت بعد أيام فقط من بدء أميركا انسحابها العسكري من أفغانستان. الفرق، أصدقائي، هائل، وأرجو التدقيق والتوقف عن محاولات التضليل الممنهجة التي يقوم بها البعض في هذه المنطقة، التي لا تؤدي في النهاية إلا إلى حالة أخرى من حالات خيبة الأمل القاسية لدى جماهير هذه المنطقة المغيبة. هذه الجماهير لا يمكنها أن تبدأ في التخطيط الصحيح لما يمكنها أن تفعله إلا إذا توفرت لها المعلومات والتحليلات الصحيحة والتشخيص المناسب لمشاكلها لكي تستطيع أن تضع الحلول الملائمة لها.
- مفيد الديك إعلامي أميركي عربي ودبلوماسي أميركي سابق.