الياس فركوح..عام على رحيل روائي وقاص ومترجم وناشر (تغطية إذاعية)
* التغطية الاذاعية لذكرى رحيل فركوح من اعداد الصحفي محمود منير
في مثل هذا اليوم من العام الماضي، رحل الروائي والكاتب إلياس فركوح تاركاً وراءه عدداً من الأعمال الأدبية، التي تنوّعت بين الرواية والقصّة القصيرة والترجمة، إضافةً إلى عمله في مجال النشر، حيث أسّس وأدار "دار أزمنة" التي لعبت دوراً بارزاً في المشهد الثقافي الأردني منذ بداية التسعينيات.
منذ إصداره مجموعته الاولى بعنوان "الصفحة" عن وزارة الثقافة العراقية عام 1978، اهتمّ فركوح بقضايا الناس والمجتمع وهمومه، وتحوّلات السياسة في الأردن والعالم العربي، حيث شكّلت هزيمة حزيران عام 1967 صدمة كبرى، حاول مع غيره من أبناء جيله من الكتّاب العرب الردّ عليها من خلال الكتابة والاشتباك مع الحدث.
درس الراحل الفلسفة وعلم النفس في "جامعة بيروت العربية" في فترة انخرط خلالها بالعمل السياسي منتسباً إلى "جبهة التحرير العربية"، مؤمناً بالفكر القومي والوحدة العربية. وبعد عودته إلى عمّان، حيث مُنع من السفر حتى إنهاء الأحكام العرفية نهاية الثمانينيات، انضمّ فركوح إلى مجموعات الشباب التي كان تخطو خطواتها الأولى نحو الكتابة والنشر في الصحافة في اتجاهات مختلفة، يجمع بينها رغبة التمردّ سواء في الأدب أو السياسة.
حاول فركوح الذي امتلك ثقافة واسعة ووعياً معمقاً من خلال تجاربة المتعدّدة أن يكتب خارج السائد والمألوف، مهتماً برصد مشاهداته ومعايشاته في فترة الانكسارات العربية، والكتابة عن شخصيات عادية بلا بطولات تعيش في مدينته عمّان، التي ظلّ وفياً لها في معظم نصوصه، جاداً في فهم حياة المهمشّين فيها وتأثير الحروب والهجرات والأزمات الاقتصادية والاجتماعية على سكّانها منذ منتصف القرن العشرين.
يكتب الناقد الفلسطيني د. فيصل دراج مقالاً في "مجلة الفيصل" عن صديقه إلياس فركوح الذي جالسه في يوم رحيله، وأحسّ بتعبه وآلامه الأخيرة، يقول فيه: "كان بطبيعته هادئًا مقتصد الكلام ويؤثر الصمت أحيانًا. يتابع شواغل ذاتية ومخطوطات الدار (دار أزمنة) المستجدة، التي كان يقرؤها بعناية. كنت أراقب أحواله وأنا جالس أمام طاولة منفردة، تتيح لي القراءة والكتابة في زياراتي الأسبوعية المتعددة الأغراض. وكثيرًا ما كنا نتقاسم الكلام عن كتاب أعجب به. يفتح صفحاته ويقرأ أسطرًا ترضي ذوقه الأدبي، يؤطّرها، أو يعلّم عليها، بقلم رصاص، ويثني على الترجمة الجيدة".
وفاءً لذكرى إلياس فركوح Remembering Elias Farkouh · قصة "رجل لا أعرفه" للراحل إلياس فركوح، من مجموعته القصصية "الملائكة في العراء" (1997)
يقول فركوح "لا زلت لا أعرف. لا زلت أكتب"، هذه المقولة تلخّص سعيه الدائم إلى التجديد في الشكل والمضمون، وحرصه على الاشتغال على مضامين ومواضيع بات لا يحمل يقيناً راسخاً حولها، إنما يهمّه تقديم شخصيات قلِقة وغير مستقرة، بما تحمله من خسارات وتشكّك حول ماضيها وراهنها ومستقبلها، أيضاً، مهتماً بالإضاءة على عوالمها وفهم أعماقها وبواطنها.
كتَب نصوصه بحساسية عالية وخبرة لا تستسلم إلى قوالب ثابتة ولا تخضع إلى التنميط، ليخلص قبل نحو عامين من رحيله، إلى القول "ما زلتُ كاتباً هاوياً، أو لستُ محترفاً، وأرفضُ أن أصير"، معلّلاً قلّة عدد أعماله بالمقارنة مع كتّاب جيله، بحرصه الكبير على ألّا يكتب نصّاً مُضافاً إلى ما سبقه من نصوصٍ يتّسمُ بسماتها، على صعيد البناء الكُلّي أو المشهدي التفصيليّ.
وعلى الرغم من العدد القليل من المجموعات القصصية التي كتبها فركوح، إلا أنه استطاع أن يكون واحداً من أهم كتاب القصة في الأردن والعالم العربي، ومن أبرزها: "طيور عمان تحلق منخفضة"، و"إحدى وعشرون طلقة للنبي"، و"أسرار ساعة الرمل"، و"حقول الظلال" التي كانت آخر مجموعاته وصدرت عام 2002.
كان مشغولاً بتأمّل شخصياته وتفاعلها مع واقعها الاجتماعي والسياسي، والتي كانت غالباً تنتمي إلى الطبقات الاجتماعية الدنيا، أو أنها تعيش في لحظة تفكّر والتباس نتيجة اغترابها عن مجتمعها، وتكشف عن حالاتها الشعورية في لحظات الحيرة والألم والإحساس بالقمع، وهي أيضاً قصص تجريبية مفتوحة على الاحتمالات، لم يكن الحدث مادة أساسية فيها، بل هو مجرّد نقطة للتأمّل في مصير البشرية وحيواتها، واختبار مساحة مركّبة من الشعور والتفكير بما نفعل أو نتوهّم ضمن مسارات متعدّدة تصنع وعينا المتغيّر بالحدث نفسه.
اتكأ في تجربته المتعدّدة؛ روائياً وقاصاً ومترجماً وناشراً، على ما كان يسمّيه "القراءة المحترفة" التي أتقنها كفعل يومي يؤثّث ليله الطويل، يميّزها ذلك البطء الشديد والتركيز المكثّف في معاينة كلّ ما يقرأ، ليبني على تمهّل آراءه حول الكتابة وأصحابها، حيث المعنى يتولّد بعد طول استمتاع وتلذّذ بجماليات النصوص التي أحبّها وتذوّق حلاوتها، "لتصبحَ ذات يومٍ كتاباً أسكب فيه معناي الذي أشكّله بوعيي وتعقّلي"، على حدّ قوله.
احترافٌ انعكس على خياراته، سواء في النصوص التي ترجمها بنفسه أو دفع به إلى آخرين لترجمتها وإصدارها عن "دار أزمنة" التي أطلقها عام 1992 (امتداداً لـ"دار منارات" التي شارك في تأسيسها الشاعر طاهر رياض) وكانت ثمرة هذا المشروع نقل مئات الكتب من لغات وثقافات عدّة شكّلت إضافة غنية للمكتبة العربية، وكذلك في إصداره سلسلة "تباشير" خلال التسعينيات، التي يوحي عنوانها بأوّل كلّ شيء من طلع النخل والزهر والضوء، وليس بمعنى التبشير بها أو اعتبارها فرعاً عن أصل، كما حلم حين أصدر المجموعات الأولى للعديد من الكتّاب الأردنيّين الذين استمرت تجارب بعضهم وتطوّرت وصولاً إلى اليوم.
في روايته الثانية "أعمدة الغبار" (1996)، يلتفت فركوح إلى مآلات المثقّف المحاصَر عقب سلسلة إخفاقات متتالية عاشها المثقّف العربي مع انهيار المقولات و الأيديولوجيات الكبرى، حيث جسّدتها في العمل شخصيات مقموعة سياسياً ومضطربة فكرياً ومصدومة اجتماعياً، وبدت مناقشاته لتلك المرحلة أوضح وأكثر عمقاً في أكثر من مقال.
لم تغب الحرب عن رواياته، حيث شكّلت مساءلاته حولها منبعاً أساسياً لكتاباته وتفكّراته كما طرحها في روايته "أرض اليمبوس" (2007)، حيث يشير فيها البطل/ الراوي إلى أن ابنه الصغير تعلّم من الحرب معرفة الوقت، وكذلك في روايته "غريق المرايا" (2012)، وكأن الحرب النافذة التي ينظر من خلالها إلى مدينته عمّان، التي أرّخ لها من خلال اقترابه الوثيق من شخصيات عمّانية حيّة مصوّراً هشاشتها وخيبات أملها في الحب وفي الحياة، وتنوّع سلوكياتها ومصائرها، وتفاعلها الذي لا ينتهي مع المكان، لتكتب تاريخه وذاكرته في سردٍ يضيء عليها أكثر من اعتنائه بإعادة رواية الأحداث الكبرى.
كان إلياس فركوح أحد أبرز الفاعلين في المشهد الثقافي الأردني، والعربي عموماً، حيث عاش الحياة كأنها ورشة متواصلة. لقد آمن بأنه صاحب دور رسالي مؤمناً بأهمية والفن والإبداع ونذر عمره كلّه من أجل الكلمة ودفاعاً عن حريتها، لا همّ له سوى استنطاق الجمال وتكريس وعي التعدّد والاختلاف، وفارق الحياة في لحظة انغماسه فيها، وبمشروعه الذي آمن به، ورغبته في المزيد منها، تماماً كما تمنّى أن يغادرها.