الوطن في سبيل الموت
حركات المقاومة والنضال مثل الجيوش تماماً ينبغي أن تكون لها استراتيجية تحدد أهدافها وأدواتها وصولاً إلى غايتها المنشودة في التحرر وتقرير المصير، بحيث تحدد هذه الحركات الأسلوب الذي تقاوم أو تناضل من خلاله بحسب معطيات ومتغيرات الواقع السياسي والعسكري وخارطة الحلفاء والمعارضين والمحايدين لدى العدو ولديها، فالتفاوض والسلاح والتقاضي والاحتجاج السلمي والإبداع الفكري وأشكال المقاطعة المختلفة؛ جميعها من الأدوات النضالية التي يتحدد استخدام أياً منها بناءً على السياق السياسي والعسكري والاقتصادي والاجتماعي والمعنوي... في دولة العدو وفي البيئة الحاضنة للمقاومة على حد سواء، مع قدر وافر من البرغماتية التي تتيح التماهي والانسجام مع المتغييرات واستثمارها بالحد الأقصى لتحقيق المكاسب وتثبيت وقائع تدعم القضية برمتها.
أدوات المقاومة والنضال إذن هي وسائل يجب أن تفضي إلى الغاية الجامعة المتمثلة في التحرر وربما إلى غايات مرحلية ضرورية من أجل تحقيق تلك الغاية النهائية، أما إذا تحولت أي من هذه الوسائل إلى غاية بذاتها ليغدو هدف التحرر مجرد مسوغ يبرر الوسيلة، فإننا نكون إزاء انحراف في المسيرة النضالية يستوجب من أصحاب القضية التنبه له والعمل على تصويبه.
الكرامةوالاستقلال وتقرير المصير والمساواة والعدالة وغيرها من القيم الحقوقية والإنسانية تمثل القواسم المشتركة بين الشعوب بوصفها غايات ومآرب سامية تضع الوصف الأخلاقي والقيمي للحياة التي ترنو إليها الأمم، فالسعي هو دائماً وأبداً إلى الحياة ومن أجلها، فالجنود أو المقاومون في أرض المعركة يموتون لكي يحيى من خلفهم ولتحيا أوطانهم بعزة وكرامة، فالحرب والنضال المسلح وسيلة من وسائل ضمان العيش والتمتع بالحياة والموت هو واحد من الأثمان التي تدفع لقاء ذلك وهو ثمن باهظ ونتيجة مكروهة حتى وإن توقعناها حين تستخدم المقاومة المسلحة بوصفها إحدى أدوات النضال، لذلك فإن السلاح مثل الكي يجب أن يكون آخر الدواء، خصوصاً حينما تكون حصيلة استخدامه عشرات وربما مئات أو ألوف الضحايا في مقابل مكاسب جلها عاطفي مؤقت لا يحدث تغييراً جذرياً في أصل القضية.
النقول والأدبيات التي ساوت ما بين الموت والحياة بل جعلت الموت أسمى وأبقى، أحدثت خللاً قيمياً في المجتمعات التي تتبنى هذه المعتقدات المقلوبة، فجعلت أفرادها يسعون نحو الموت ويحتفلون به ويستمرئون سقوط ضحايا من الأطفال وكبار السن والأمهات واختفاء عائلات بأكملها، ويعتبرون هذا نتيجةً حتميةً وثمناً مقبولاً إزاء إحساس منشود بنشوة النصر وإلحاق أضرار ولو محدودة ومؤقتة بالعدو سرعان ما يتعافى منها بمساندة من حلفائه وأعوانه، وفي الاتجاه نفسه، فإن النظر إلى الموت بوصفه مكسباً -لأنه يمثل "إحدى الحسنيين"- من شأنه تغيير معايير وحسابات النصر والهزيمة لدى شعوب تمني الموت، بحيث يغدو مجرد القتل بأيدي العدو أو الانتحار في ساحاته ظفراً ومكسباً حتى لو لم يحقق شيءً فعلياً على الأرض، وهذا ما دفع ويدفع الآلاف من الشباب والشابات إلى السعي للالتحاق بالجماعات الإرهابية والمتطرفة التي تستخدم أجسادهم ذخيرةً مفخخةً تنفجر عند حاجز أو حتى في فندق أو قاعة فتقتل "أعداءهم" الذين هم من بني جلدتهم لكن تم تصنيفهم بالخونة والمتآمرين ليصبحوا هدفاً للجهاد وسبيلاً للاستشهاد.
التحليل والاستنتاج والاختلاف مرتكزات لا تستقيم والمنهجيات الدينية والسلطة الثيوقراطية المبنية عليها التي تحرم السؤال والتساؤل وترى فيهما انحرافاً عن جادة الحق التي ستودي بصاحبها إلى الكفر، لذلك فإن تفسير أي حالة حتى لو كانت تتناقض مع الواقع المعاش والمعاين من ملايين البشر يخضع لما ييقرره سدنة وكهنة الحكم الثيوقراطي، الأمر الذي يتم توظيفه برخص واستهانة بعقول الشعوب وأرواحها وقت الحرب، فيغدو الفرار من العدو وعدم تمكينه من إبادة كامل الجيش نصر، وتراجع العدو عن خوض المعركة إلى حين نصر، وتلقي ضربات العدو بصدر عاري وجسد أعزل والموت تحتها نصر، واكتفاء العدو بقتل خمس مائة مدني بدلاً من ألف نصر، وتدمير العدو لخمس قرى بدلاً من عشرة نصر، وهدمه ألف منزل بدلاً من ألفين نصر، تماماً كما كانت المجازر وجرائم الإبادة الجماعية والتطهير العرقي والديني التي ارتكبت باسم الله واحتلال بلدان وأمصار لإخضاعها للمعتقد الذي يدين به جيش الغزاة أو فرض إتاوة علي إن آثرت البقاء على دينها؛ جهاد ونصر.
عمدت جيوش بعض الدول العربية وحركات المقاومة إلى تسمية المعارك التي تخوضها والحروب التي تشن عليها وكلمات السر المستخدمة خلالها بأسماء ذات صبغة دينية مثل "بدر والقادسية والفرقان والعصف المأكول وسيف القدس..."، لكي تعزز من صفة القداسة العقائدية للصراع الذي تخوضه والذي يستمدها من أيديولوجيتها وشعاراتها المتبناة، بحيث يصبح الاختلاف مع هذه القوى أو التشكيك بأهدافها خروج عن الملة وخيانة للوطن.
اختزال القضايا الوطنية في قالب ديني يشكل خطراً يفت في عضدها لأنه يضرب العنصر الجامع المتمثل في الوطن الذي يستوعب الجميع بمختلف مللهم ونحلهم وتوجهاتهم ليطغى البعد الهوياتي الطائفي المذهبي الذي لا يعترف بالآخر ويساوي بين العدو الخارجي والمخالف من أبناء الجلدة والملة، ودون الرجوع بعيداً في التاريخ الحافل بالأمثلة على ذلك، فإن العديد من الأحداث المعاصرة تؤكد هذه الحقيقة، ومثالها ما قام به حزب الله في 7 أيار سنة 2008 بعد أن توصل إلى هدنة مع العدو الخارجي المشترك، حيث وجه سلاحه نحو أبناء وطنه لأن الحكومة حاولت تفكيك شبكة اتصالات ومراقبة يملكها ويستخدمها للتجسس على أجهزة الدولة والأحزاب الوطنية المنافسة، ثم قيام الحزب نفسه بمساندة نظام بشار الأسد على أساس عقائدي في حربه ضد كل من ثار وعارض، ومن قبل ما حدث في أفغانستان بين الحركات والمجموعات الجهادية التي انقلبت على نفسها عقب انسحاب عدوها الروسي المشترك وكذلك أحداث حزيران 2006 في غزة التي شهدت قتلاً وتعذيباً واعتقالات بين حركتي فتح وحماس على إثر استيلاء الأخيرة على السلطة في القطاع، هذا فضلاً عمّا تقوم به إيران منذ ثورة الخامنئي من دعم لحركات التمرد المسلحة ذات الانتماء الطائفي الشيعي.
امتازت القضية الفلسطينية لعقود مضت وحتى وقت قريب برفعتها وترفع أبنائها عن أي شكل من أشكال الصراع أو التنافس الديني أو الطائفي أو المذهبي، فاستوعبت أبيات محمود درويش وسميح القاسم وعز الدين المناصرة الجميع واستظلوا في ريشة ناجي العلي وتوحدوا خلف حجارة أطفال الضفة والقطاع، إلى أن نبتت على ضفتي الخليج الفارسي أشجار جذوعها سيف وفروعها رماح وأوراقها جراح وثمارها دم يستباح، فأطلت برؤوسها على الأرض المقدسة وهي تصيح: "فاتكم الفوت، الوطن في سبيل الموت ".