الملك ومطرقة الأزمات وسندان التأزيم
عكف كثيرون على تناول قرار «الأمير حمزة» تنازله عن لقبه من زاوية دستورية وقانونية من أجل التوصل إلى نتيجة مؤداها؛ أن القرار لا يجد له سنداً في أي من الدستور أو القانون، ومن ثم فإنه يقع باطلاً غير منتج لآثاره.
هذا النقاش من شأنه –ولا يسهل على رجل قانون مثلي قول ذلك- أن يجمع بين متناقضين لا يخدمان بحث الموضوع في دلالاته وأبعاده السياسية. المتناقض الأول أن التعامل مع هذه الخطوة من زاوية قانونية محضة يعد تسطيحاً لها ومناقشتها من أبعد وأضعف حلقاتها، أما المتناقض الثاني فهو أن هذا التسطيح لخطوة «الأمير» سوف يفضي حتماً إلى تعاظمها وتضخيمها، إذ لا يمكن لوم من يفسر هذا التناول الضيق لها بأنه يعكس إرباكاً وارتباكاً لدى الدولة دفع بعض مسؤوليها إلى تناول هذه المسألة قشرياً للغمغمة وتجنب ملامسة عمقها سياسيا، وهذا بالطبع سيشجع المعنيين المتحينين لتأجيج الشارع والاستثمار الرخيص في مظلوميات الناس التي فاقمها تردي الأوضاع الاقتصادية التي لسنا بدعاً فيها بين دول العالم.
حسناً فعلت أجهزة الدولة الرسمية إذ تتأنى وتتريث ولا تنجر لمناكفات غير منتجة، ذلك أن ردات الفعل الفورية غير المدروسة من قبل الجهات الرسمية على قرار التنازل وما اقترن به من عبارات يمكن تصنيفها في عالم السياسة والحكم بأنها ذات طابع تمردّي تأزيمي، كان وما يزال مرام المعنيين بإثارة الشارع وإيقاظ الفتنة التي يبدو أنها كانت في سِنة ولم تنم بعد، إذ ما عساه أن يكون أفضل للمتربصين من سجال وجدال يعم منظومة الحكم في أعلى مستوياته؛ فيتسلقون في غمرة انشغال الشارع وانشقاقه على أكتاف أفراده ليصلوا إلى مبتغاهم الذي من أجله اختلقت فنتازيا أخذت من هواجس هاملت شكسبير حبكةً لها.
التعاطي مع خطوة «الأمير» ينبغي أن يكون بأعلى درجات الحرفية والقراءة المتأنية، بحيث يتم وضعها في إطارها وحجمها الذي تستحقه دون تهويل أو تقليل. فمن جهة أولى، لا يمكن إنكار أن ثمة نزاع من طرف واحد على السلطة تجلى في ما تكشّف من أحداث هدفت إلى زعزعة نظام الحكم في التوقيت نفسه من السنة الماضية، وها هو اليوم يتأكد بهذا الإعلان عن التخلي عن اللقب والرتبة مقروناً بأسباب أقرب ما تكون إلى الاتهامات المباشرة ذات النزعة التحريضية التي تحاكي في المظهر والجوهر خطاب محاولة التمرّد والانقلاب في نيسان 2021 التي اصطلح على تسميتها تجميلاً وتخفيفاً «قضية الفتنة»، مع عدم إغفال استخدام كلمة «الترفع» في بيان التنازل والتي تستخدم عادةً إما للتعبير عن الزهد وهذا ليس مكانه لأن «الأمير» ليس في موقع سلطة، وأظن أنه قال «أنه ليس طامحاً إليها» ليزهد فيها أصلا، أو أنها تأتي في معرض النأي بالنفس عمّا هو «قليل الشأن أو سيء» وهذا المعنى الأخير هو المرجّح في مقصد البيان، لأنه اقترن بعبارات اتهامية صارخة تشير إلى «مخالفة القاناعات التي غرست وتمت التنشئة والتربية عليها..»، مع عدم وضوح ارتباط ذلك بكونه أميراً ليس مخوّلاً ولا مكلّفاً بسلطة، ناهيك عن خاتمة البيان العاطفية في جملة: «وأفوض أمري إلى الله»، وهي عبارة درج استخدامها في المواقف التي يقدم فيها «مناضل» على عمل بطولي سياسياً كان أو عسكريا.
من جهة ثانية، إذا كان الصمت أداة لتحجيم الأزمة المفتعلة ولو إلى حين، فإن الحديث عنها من زوايا سطحية لا تمسها في العمق، يؤدي حتماً إلى عكس النتيجة المتغيا، بحيث يغدو الحديث السطحي قرينةً لدى البعض على ضعف الموقف والشكيمة ووهن الحجة، لذلك فإما صمت مدروس وإما كلام مباشر يضع النقاط على الحروف ويغلّب مصلحة الوطن على ما سواها من اعتبارات.
الملك في موقف لا يحسد عليه وأتعجب من قدرته على التحمل،فهو بين مطرقة تجاوز الضائقة الاقتصادية وتبعات الجائحة وتحديث منظومة الحياة السياسية، وسندان التأزيم الذي يأتي من حيث كان يأمل وينبغي أن يستمد جانباً من المنعة والقوة، ومع ذلك، فإن القول الفصل ونقطة الحسم دائماً وأبداً ترجح كفّة الوطن على ما دونها، لأن كل ما دونها يجب «الترفع» عنه.