الشك..الذي يحكمنا وينقذنا
يعيش الأردنيون في حالة عدم اليقين، يغرقون في الشك تماما، ولم يعد ايمانهم بكل ما يحيط بهم يستند إلى الثقة بقدر استناده الى الشك والتشكيك، وعدم الإيمان بكل ما يرونه وما يسمعونه.
التلميذ يشك في معلمه، والمعلم يشك في مديره، والمدير يشك في معلميه وطلبته، والأهل يشكون في مدى جدية المعلم في تدريس أبنائهم، بل ولا يتورعون عن تحميله مسؤولية تقصير أبنائهم في التحصيل الدراسي، والمعلم يتهم الأهل بعدم مساعدته له في تحصيل طلبته العلمي.
والشعب بكامله يشك في حكومته وفي كل مؤسسات الدولة، الحكومة متهمة في كل ما يصدر عنها، ولا يجد المواطن بؤرة ولو صغيرة ليثق بالحكومة وبكل ما تنتجه، هنا لا يبرح المواطن الشك بان الحكومة تتامر عليه، وتعمل ضده.
والحكومة تشك بالمواطن، تعتبره متمردا على نظامها الجميل، ولا ترى فيه غير مؤسسة انتاج لرفد موازنتها، وتسييل النقد في خزائنها.
والمواطن يشك في مجلس النواب بالرغم من انه هو الذي اختاره، والنواب يشكون في الناخبين ويعتبرونهم جزءا من التأليب ضدهم لإفشالهم.
والمواطن يشك في محيطه الحياتي والاجتماعي، يشك في الجيران، ويشك في الطريق التي تقوده لبيته، يعتقد ان المطبات والحفر في الشوارع جزءا من مؤامرة ضده حاكها المسؤولون ليبقوه تحت سيطرتهم.
ووصل الشك بالمواطن الى بائع الخضار، يشك في أسعاره، ويشكك في أمانته، وفي ظنه بانه يعبث بالمكاييل، وبائع الخضار يشك في الزبون الذي يعتقد انه لو يستطيع لحصل على بضاعته بالمجان، او أنه مضطر لبيع بضاعته بأسعار اقل بكثير مما تستحقها وهو بذلك يرى في زبونه سارقا لأرباحه.
ولا تسأل الأردني بالطبع عن مدى شكه في المؤسسات المالية من بنوك وشركات، وقطاع خاص، فهم في نظر الأردني مجرد لصوص يسرقونه ويتآمرون عليه، وينهبونه، ويعبثون بمستقبله، ويجنون أرباحا فاحشة تؤدي لمراكمة رساميلهم على حساب فقره وحاجته.
ويصل الشك الى السياسي والحزبي ، إذ يعتقد الأردنيون أن كل سياسي يقوم بدور وظيفي ضدهم، ويشكون في كون كل سياسي يحمل أجندة خاصة به، وقد يكون موظفا لدى الجهات الأمنية بوظيفة حزبي او سياسي او معارض او موالي.
ويشك الأردنيون حتى في أئمة المساجد وخطباء صلوات الجمعة، ويشكون في الفتاوى التي تصدر عن مؤسسة حكومية، ويعتقد الأرادنة ان ما يجري من توجيه للخطاب الديني إنما يستهدف العبث بنقاء الإيمان الشعبي الأردني.
ويشك الأردنيون بأخبار الطقس وتقلبات المُناخ، ويعتقدون ان النشرات الجوية تستهدف صرف نظرهم عن قضاياهم المعيشية الكبرى، ولا نتورع كأردنيين عن اتهام الطقس بالتآمر علينا.
ولا نتورع عن التشكيك في العلاقات المتغيرة للنشاط الجنسي للقطط في شهر شباط، وربما نذهب بعيدا في إرجاع ذلك إلى مخططات يخلقها الأعداء للسيطرة علينا.
ونذهب للتشكيك في أسباب وفيات الأقرباء والجيران ومن نعرفهم ومن لا نعرفهم، وربما يذهب الشك الى اتهام الأطباء بالتقصير او وزارة الصحة بالتآمر على الأحباب الذين يموتون أمامنا.
ونشك في أزمات المواصلات، وفي الإشارات الضوئية، وغلاء الأسعار، وفواتير الوقود والكهرباء، والمياه، ونشك حتى في تغير العواطف بين أفراد العائلة، ونشك بالطبع في انقطاع الانترنت، وفي الهاتف الخلوي الذي نعتبره جهاز تنصت وتجسس على أعمالنا السرية العظيمة.
لعل كل ما يحيط بالأردني أصبح اليوم مثار شك لديه وتساؤلات تفرض نفسها على كامل تفاصيل يومه وحياته بعد أن غادر مربع اليقين إلى مساحات أوسع من الشك والتشكيك، فقد دفعت نتائج واقعه به الى السكن في الشك والغرق فيه، ولا يرى في أفقه المنظور ما يمكن أن يعيد اليه الثقة حتى بتقلبات الطقس، وهوية من يسكنون المقابر إن كان وجودهم تحت التراب حقيقة ام خيالا ومؤامرة..
ومن المؤكد ان الأردني لا يهتم كثيرا بالسيد ديكارت وبمنهجية شكه الفلسفية بقدر اهتمامه بتفاصيل يومه البسيطة التي أصحبت عبئا عليه، ومهلكة تتربص به بعد ان فقد الكثير من الأمل والطمأنينة واليقين..
وبالشك يحيا الأردنيون لأنه سبيلهم الوحيد لمواجهة واقعهم..
أنا أردني أشك في كل ما سبق، فقد فقدت اليقين كباقي إخوتي وغادرني الأمل وهجرتني الطمأنينة..
ولذلك أنا هنا أشكك بمصداقية كل ما سبق آنفا..