الرّؤية الفنّية في ديوان "القمر والرّغيف" لحلمي الأسمر

حلمي الأسمر، شاعرٌ وكاتبٌ أردنيّ، ولد في فلسطين، في مخيم طولكرم، سنة 1957م. عمل محررًا ومسؤولًا في وكالةِ الأنباءِ الأردنيّة (بترا)، إلى جانبِ ذلك كان مديرًا لتحريرِ صحيفةِ اللواءِ الأسبوعيّة. من دواوينه الشّعريّة: قصائد من وراء الحدود 1978، والقمر والرّغيف 1983م، وأسفار 2016م.

لا بدّ في البدءِ من الإشارةِ إلى أنّ المقالةَ بمنزلةِ محاولةِ وضع اليد على شعرِ واحدٍ من الشّعراءِ الأردنيين المغمورين، واضعين نصب أعيينا بأنّ حلمي الأسمر لم يلقَ اهتمامًا من الدّراسينَ والباحثين.

 بدأ شعره يتبلور في نهايةِ السّبعينيّات من القرنِ المنصرم، علاوة على ذلك القول، فإنّ معجمَ الأدباء الأردنيين لم يولِّ عنايةً لترجمةِ سيرته الذّاتيّة، الأمر الّذي يطرح السّؤال حول آليةِ الاختيار والأساس والمعيار الّذي من خلالهِ تدرج أسماء بعض الأدباءِ الأردنيين في هذا المعجم، فهل يتم عن اختيارٍ مدروس أم مجرّد اختيار اعتباطي وعشوائي لا أكثر؟! ولسنا بهذا الأخير ـ أيّدك الله ـ نقلل من جهودِ القائمين الكبيرة والمبذولة على المعجمِ، على أنّ تصوّرنا هذا لا يمنع من الظّن بأنّ القائمين كانوا حذرين جدًّا في مسألةِ الخوضِ والحديث عن بعضِ الأدباء، وإن كان مثل هذا الظّن بحاجة إلى دليل.

كما لا نُريد أنْ نندفع كثيرًا وراء إغراء التّساؤل، ذلك أنّ المسألة في ـ رأيي ـ ليستْ بالقضّيةِ المهمّة والكبرى، ومع ذلك نستبعد بأنّ مسألة اختيار الكتّاب أدباءً ونقّادًا، تتم وفقًا لانتماءاتهم العضويّة لرابطةِ الكتّاب الأردنيين.

النّص الأدبيّ

الواقعُ الّذي لا سبيل إلى نفيه، أنّ النّصَّ الأدبيّ يتحدد بلغةٍ خاصّة ويتميّز عن جميعِ النّصوص، مما يعني أنّ طريقة كتابته وقراءته تختلف فيما لو كان النّصّ مقالًا سياسيًا أو اقتصاديًا أو اجتماعيًا أو علميًّا، وهذا بطبيعةِ الحال يقودنا إلى مصطلحِ الشّعريّة، وهو من منظورِ النّقدِ الحديث يطلق على قوانين الكتابةِ الأدبيّة شعرًا كانتْ أم نثرًا، على اعتبارِ أنّ النّوعينِ يشتركانِ في الخصائص ذاتها، كإحداثِ الأثرِ الجماليّ في القارئ، أو كما يُسمّيه رولان بارت (لذّة النّص)، ولعلّ توصيف بارت من هذه النّاحية تعدّ حقًّا ملفتة للانتباه، لكن من غير المنطقي أن يكون النّص فقط وسيلة لإثارةِ المتعة واللذة.

إضافةً إلى ما سبق، يُمكن النّظر إلى النّصِّ الأدبيّ بوصفه صياغة فنيّة لتجربة إنسانيّة واقعيّة، غير أنّ ذلك ليس بالضّرورةِ أن يكون تعبيرًا عن معاناة شخصيّة وحقيقيّة، ذلك حين يخرج من المألوفِ والعادي إلى ارتباطه بالخيال والعواطف، ومهما يكن من شيءٍ، فإنّ النّصَّ الأدبيّ يتطلب قارئًا واعيًا، يناور ويحاور في الوقتِ ذاته؛ لأنّ الهدفَ من النّصّ الأدبيّ "جعل القارئ منتجًا للنّص"(1).

من خلالِ التّوطئةِ السّابقة، فإنّ المقالةَ ستعتمد على محاورةِ النّصوص الشّعريّة في ديوانِ الرّغيف والقمر للشّاعرِ الأردنيّ حلمي الأسمر؛ قصدَ استنطاق الرّؤية الفنيّة، انطلاقًا من العناصرِ النّصيّة المُعطاة، وإن كنّا استخدمنا مصطلح الرّؤية بدلّا من المضمون، كونه مصطلحًا نقديًا حديثًا، علاوة على أنّه أوسع وأشمل.

الرّغيف والقمر

المتأمّلُ في العنوانِ، يلحظُ أنّه محمولٌ على التّأويلِ تبعًا للدّلالةِ الرّمزيّة، وإلى ذلك ينطوي عنوان "الرّغيف والقمر" على كثيرٍ من مضمراتِ القولِ، إذ يمثّل رغيفُ الخبزِ في مستواه الفنّي الظّاهريّ رمزًا للتّعبيرِ عن أبسطِ حقوق الإنسان، غير أنّ القمرَ جاءتْ محمّلة بدلالةٍ رمزيّة أعمق على ما تشير إلى الحرّيةِ والأمل، ولعلّ إهداء الدّيوان الشّعريّ أصدق دليل على وعي حلمي الأسمر بهذه الدّلالة، الّتي تكاد لا تخرج عن مدارِ العنوان كتوجيه القارئ إلى الدّلالةِ الّتي يُريدها، تلك حقيقة بوسعنا أن نُدرك عمقها حين أشار الشّاعر نفسه في إهدائه إلى مي وكلّ مي تحلم بالرّغيف والقمر. 

الرّؤيةُ في نصوصِ حلمي الأسمر الشّعريّة محددة مضمونيًّا وفنيًا بفلسطين؛ بهدفِ إعطائها شرعيّة وواقعيّة، هذا وترتبط فلسطين في نصّه الشّعريّ بثنائيّةِ الحاضر والغائب، مع الإشارةِ باحتوائها على قدرٍ كبيرٍ من الرّومانسيّة الحالمة، يقول في قصيدة "هي الملحمة وألوانها لا تبيد": 

"لَهَا شَهْوةُ اللونِ وَالبَدءِ والانتماءْ

لَهَا شدَتْ الطّالبات أهَازِيجهنْ

بِلَونِ المَراييل وَالدمِ وَالليل والابتداءْ"

إنّ القضيّة الفلسطينيّة مدار حديث الشّاعر، وهي دائمةُ المثولِ في مجملِ نصوص حلمي الأسمر الشّعريّة، حيث يقول في قصيدة "ثلاث حركات إلى صباح البندقية":

"عَلّمِينا يَا صَبَاح البندقيةْ

كَيفَ صَارتْ بَيْنَ أيديكِ القَضِيّةْ

بُرتقالًا أكْمَل الحُسنَ

وَمَوتًا طازجًا كَالصّبحِ يَفْتتحُ الشّهيّةْ".

يستغلّ حلمي الأسمر المرأة فنيًّا في نصوصهِ الشّعريّة، مما يعني أنّها معادلٌ موضوعيّ لفلسطين، ذلك أنّه لا يخلو المقطع من القصيدة ذاتها من تسمية الأماكن الفلسطينيّة، فيقول:

"لَمْ تَكُنْ تِلك الصّباح البُنْدقيةْ

تَكتبُ الشِّعرَ الحَمَاسيّ  وَألوانَ الخُطبْ

وَلِذَا حِيْنَ زفَّتْ بالثّيابِ المَدرَسيّةْ

وَجَدُوا فِي عبّها..

القدسَ وبيسانَ وصحراء النّقبْ".

إنّ الحديثَ عن الرّؤية الفنّية في النّصّ الشّعريّ، هي في حقيقةِ الأمر تقصٍّ لكلّ العناصر التي تسهم في تشكيلِ صورة واضحة وكاملة للنّص، فالبندقية المُشار إليها في المقطعِ السّابق، رمزٌ فنّيّ للحرّية والقوّة والكرامة وبغيابها تغيب مظاهر الحياة، ومن هذا نستنتج، أنّ الرّؤية تجسّدت في النّصّ الشّعريّ عبر ثلاثيّة المقاومة والتّحدي والرّفض.

وإذا تأمّلنا النّصّ الشّعريّ المعنون بـ "يا مي"، نجد أنّ الشّاعر أشار أسفل العنوان مباشرة إلى جهةِ اليسار، بأنّ القصيدة إهداء صغير إلى مي في عيدها الأوّل، ولعلّ اسم "مي" المشار إليه مقصود، وهي بنت الشّاعر، ورغم ذلك لا يفتأ يذكّرها بالوطن وفلسطين والاحتلال.

إنّ القراءة الأوليّة غير نافعة ومقنعة على المستوى النّقديّ، لتجسّد "مـي" من منظار النقد الحديث في النّصّ، مشروع استشهاد ومقاومة المحتل الصّهيونيّ، فهي شعاعُ النّصرِ الّذي لا يخبو وميضه، والمشروع المستقبليّ، وعدّة المجابهة والنّضال:

"يَا ميُّ.. يا حَبيبتي..

يَا شُرفةَ القمرْ

كُونِي حَجَرْ

يَرميكِ فتيةُ البَحرْ

فِي أعْينِ التترْ".

إنّ الطّفلَ الفلسطينيّ خلافًا لكلّ أطفال العالم، يولد وفيه المقاومة والتّحدي والشّعور بالعداءِ لمغتصبي أرضه. إنّ مي رمزٌ مقاوم، كما أنّها تجسيدٌ لأطفالِ فلسطين، لتتحوّل وفق منظور النّصّ نواة الأمل، والبناء، والمستقبل، يقول:

"هُنَاكَ يَا صَغِيرتي

هُناكَ حَيْثُ يَزْرَعُونَ الأرضَ بالمَقَابرْ

هُناك حَيْثُ تَهزجُ الحَنَاجَرْ

بِحبّها..

هُناك حيثُ يُولدُ العَرَبْ

مِنِ غَفوةِ التّاريخِ مِنْ مَجَالسِ الطربْ

هُناك يَا حَبِيْبَتِي 

يُعانقُ الصّغارْ 

عَرَائِسَ الغَضَبْ".    

ينضاف إلى ما سبق، أنّ الرّؤية الفنّيّة تجسّدت بالاغتراب، حيثُ مارس الاغتراب استبداده على الأنا الشّاعرة، وفي الوقتِ نفسه تحمل نزوعًا نحو الحرّية، من مثل ما نجدهُ في قصائد "المنديل الكاكي، أنا الرّقم المستحيل، ثلاث معلّقات على حائط آخر"، تمامًا كما نجد قوله في قصيدة "مقاطع عن الزّيف والبريق"، حيثُ افتقادُ الحرّية وانعدام الأمن على الصّعيدِ الواقعيّ، الأمر الذي يجعل الشّاعر يعيش وحيدًا ومغتربًا، حيث يقول:

"شوارعُ المدينةِ الكبيرةْ

حبيبتي، والصّمتُ في المدينةِ الكبيرةْ

خِداعها، بسماتها، طُرقاتها

مللتُها.. مللتُها".

وإذا أخذنا قصيدة "أغنيات للغضب" التي يُشكّل عنوانها إشارة تحريضيّة، نجد أنّ الرّؤية مرتبطة بالأمل والتّحدي والرّفض والثّورة:

"يخرجُ الآن رفيقيّ مِن ثيابي/ ويُغنّي بانفعالْ/ يَمْتَطِي حُلمًا قديمًا/ كَانَ يبنيه على وجهِ الرّمال/ قامةً باسقةً/ وجبينًا لا يُطال/ يَخرجُ الآن رفيقي مِن ثيابي/ حَفنةً مِنْ أُمنيات/ وسماءً من نعالْ/ قالَ لِي مرّة/ وما زال يقولْ/ حين يأتيني حفيدٌ/ ربّما سأسمّيه ثورهْ".

والحقّ، أنّ الرّؤية السّياسيّة والاجتماعيّة تطبع معظم نصوص حلمي الأسمر الشّعريّة، كما يشكل الاغتراب والشّعور باستبدادية الحاضر حيّزًا من رؤيته الفنّية، إضافة إلى ذلك، كثيرًا ما يتنقل الأسمر في نصوصه من الواقع السّياسي إلى الوقع الاجتماعيّ والذّاتيّ:

لِعينيكِ خبأتُ خبزًا من القمحِ والدّمعِ والأمنياتْ

لِعينيكِ أغزلُ شَوقي وحزني ورفضي وأحفرهُ كلماتْ". 2

وبعدُ، فنحلص إلى أنّ الرّؤية الفنّية تتنوّع في نصوصِ حلمي الأسمر الشّعريّة، من الذّاتيّ إلى السّياسي والاجتماعيّ، هذا وتشير إلى تداعيات الإنسان وانكساراته واغترابه، مع الإشارةِ إلى أنّ فلسطين والوطن والثورة والحبّ دائمة المثول والارتداد في نصوصه الشّعريّة، وكثيرًا ما اتخذ الأسمر من المرأة خدمة لرؤيته الفنّية.

 

باحث وناقد مستقل، حاصل على درجة الدّكتوراه في الأدب والنّقد الحديث.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المصادر والمراجع

  1. عبد الله الغذّامي: الخطيئة والتّكفير، ط3 ـ 1993م، دار سعاد الصّباح، الكويت، ص 286.
  2. حلمي الأسمر: القمر والرّغيف، ط1 ـ 1983م، عمّان.

 

 

أضف تعليقك
أحمد البزور، مواليد الزّرقاء، سنة ١٩٩٠، حاصلٌ على درجة الدّكتوراه في الأدب والنّقد الحديث من الجامعة الأردنيّة، وعضو في الاتّحاد الدّولي للغة العربيّة، ولديه العديد من الأبحاث المنشورة في مجّلات محليّة وعربيّة محكّمة، وكتب عددًا من المقالات والمراجعات عن الأدب والنّقد في الصّحف والمواقع الإلكترونيّة المتخصصة.