الحركة الشّعريّة في الضّفة الشّرقيّة لعيسى النّاعوري
شغلتْ الحركةُ الشّعريّةُ في الأردنِ النّقادَ الأردنيينَ، خصوصًا الحوارَ الدّائمَ حولَ الشّعرِ والشّعراءِ في الصّحفِ، والمنتديات، والأوساطِ الثقافيّة، واللقاءاتِ الأدبيّة.
صدرَ كتابُ الحركةِ الشّعريّة في عمّانَ عن مطابعَ دارِ الشّعبِ، وهو من منشوراتِ وزارةِ الثّقافةِ الأردنيّةِ سنةَ ألفٍ وتسعمائةٍ وثمانينَ، ويتوزّعُ على مئتينِ وعشرِ صفحاتٍ، مُتضمّنًا ثلاثينَ شاعرًا أردنيًّا.
إنّ الدّافعَ في تأليفِ الكتابِ كما يروي لنا النّاعوري، جاءَ استجابةً لطلبِ دارِ بغدلة اليوغسلافيّة في تخصيصِ دراسةٍ عن شعراءَ الضّفةِ الشّرقيّةِ من المملكةِ الأردنيّة.
والجدير بالذّكرِ، أنّ عيسى النّاعوري واحدٌ من الكتّابِ الأردنيينَ المميّزينَ والمشهورينَ على صعيدِ الأدبِ والنّقدِ والتّرجمة، ولد سنةَ 1918م، في ناعورَ إحدى البلداتِ الأردنيّةِ التّابعةِ لعمّانَ، عاصمة الأردن، وتوفّي بتونسَ، سنة 1985م.
الحقيقةُ تقولُ بأنّ أهمّيةَ الكتابِ تكمنُ في التّمهيدِ، وباقي الصّفحاتِ عبارةٌ عن ترجماتٍ للشّعراءِ الأردنيين، تتضمنُ معلوماتٍ أساسيّةً عن حياتهم، ونماذج من شعرهم، من حيثُ أهمُّ الموضوعاتِ، والسّماتِ، والمميّزات الظّاهرة، وبـذلك، يمكن عَدُّ الكتابِ معجمًا ومصدرًا مساندًا للباحثينَ والمهتمينَ بحركةِ الشّعرِ الأردنيّ، خصوصًا مرحلةَ التّأسيسِ.
بدأ النّاعوري تمهيدَ الكتابِ بقولِهِ بأنَّ الحركةَ الأدبيّةَ في المملكةِ الأردنيّةِ الهاشميّةِ حديثةُ العهدِ جدًا، والسّبب في ذلك -كما يرى- بأنّ الأردنَ لم يكنْ دولةً ذات حدودٍ دوليّةٍ، إلّا منذُ عامِ ألفٍ وتسعمائةٍ وواحدٍ وعشرين، وعلى ذلك، أتفقُ والنّاعوري ولا خلاف حيثُ يقول بأنّ الأردن تحوّلتْ من إمارةٍ إلى مملكةٍ سنةَ ألفٍ وتسعمئةٍ وستٍ وأربعين.
يرى النّاعوري بأنّ الحركةَ الأدبيّةَ والنّهضةَ الشّعريّةَ نشأتْ في شرقي الأردنِ انطلاقًا من رعايةِ الأميرِ الشّاعرِ عبد الله ـ النّجل الثّاني للشّريفِ الحسين بن علي ـ فاتحًا أبوابَ قصره للشّعراءِ المحليينَ والوافدينَ.
وعليه، لا نريدُ في هذا العرضِ تقييمَ كتابِ الحركةِ الشّعريّةِ في الضّفةِ الشّرقيّةِ، بقدرِ ما نرغبُ في إظهارِ منهجِ النّاعوري لنتساءل عن المقياسِ الذي اعتمدهُ في تصنيفِ الشّعراءِ الأردنيين وتقويمهم.
اعتمدَ النّاعوري منهجَ تقسيمِ الشّعراءِ وترتيبهم تبعًا للتّقسيمِ الزّمنيّ، وعلى هذا الأساس، يوحي بقصدٍ أو بغيرِ قصدٍ أنّهُ يفضّل المنهجَ التّاريخيّ، وهو ما يمكنني تمثيله وفقَ ما استخلصتُه على فترتين زمنيتين، هما:
- الفترة الأولى: 1921 ـ 1948م.
- الفترة الثّانية: 1948 ـ 1980م.
يعرضُ النّاعوري بالحديثِ عن شعراءِ مرحلةِ المختاراتِ من الشّعرِ الأردنيّ، على سبيلِ الذّكرِ لا الحصر، ويقدّم نبذةً عن حياةِ كلِّ شاعرٍ، مع الإشارةِ إلى مكانته الاجتماعيّة، والعلميّة، والأدبيّة، مشيرًا إلى أنّ الشّعرَ كانَ لهُ دورٌ في صنعِ الحياةِ الأدبيّةِ والسّياسيّةِ، ذلك من خلالِ كتابةِ الشّعرِ الوطنيّ والسّياسيّ، ويكتفي النّاعوريّ هنا بإيرادِ أبياتِ شعرٍ لحسني فَرِيز، موسومةً بعنوانِ عيد الجلاء الأوّل، وتفسيري لذلك، أنّه يدلّ على أنّ الشّعرَ الأردنيّ لم يكن بعيدًا عن إطارهِ العربيّ الواقعيّ لا سيّما السّياسيّ والثقافيّ، مع تجسيدٍ واضحٍ لصورةِ الهمِّ القوميِّ العربيِّ وحضوره في وجدانِ الشّعراءِ الأردنيين.
يقدّمُ النّاعوري في الفترةِ الأولى الشّاعرَ عرار على الشّعراءِ الأردنيين؛ كونه شاعرَ الأردنِ الأكبرِ وأعظمهم دون منازع، يتقاسمُ الهمومَ في شعره مع الصّعاليكِ من أبناءِ شعبه، ولا يفتأ النّاعوري يذكرِ الشّعراءِ الآخرين، من مثل: صبحي أبو غنيمة، وعبد المنعم الرّفاعي، وحسني فريز، وحسني زيد الكيلاني، وشكري شعشاعة، ومحمّد الشّريقي، وغيرهم.
يرى النّاعوري بأنّ الشّعر الأردنيّ تَمثّل في الفترةِ الأولى بمساندةِ الشّعراءِ جنبًا إلى جنبٍ مع الحركةِ الوطنيّةِ في الدّعوةِ إلى الوحدةِ العربيّةِ والثّوراتِ العربيّة، التي قامتْ في فلسطين وسورية ضدّ الاستعمارِ البريطانيّ والفرنسيّ، ويسوق الشّاعرَ عرارًا مثالاً على هذا النّموذج.
يذهب النّاعوري في الفترةِ الثّانيةِ إلى أنّ الشّعر الأردنيّ حمل همومَ القضيّةِ الفلسطينيّة؛ كونها قضيّةَ الشّعراءِ وقضيّة أمّتهم، وما تجدر الإشارة إليه في هذا الصّدد، أنّ مؤلّف الكتابِ يَعُدُّ نفسَهُ واحدًا من الشّعراءِ الأردنيين الذين جعلوا من المأساةِ الفلسطينيّةِ مصدرًا رئيسًا من مصادرَ شاعريتهم فكرًا وفنًا، ويستعرضُ نماذج من ديوانهِ الشّعريّ الموسوم بـ أناشيدي، ليخرج بنتيجةٍ مفادها: أنّ الشّاعرَ الأردنيّ في تلك الفترة طوّع الأدبَ خدمةً للقضيّة الفلسطينيّة، وبهذا، نستنتج بأنّ الشّعرَ الأردنيّ يتميّز عن نظيره بالواقعيّةِ، كما أنّه شعرٌ ملتزمٌ التزامًا سياسيًا وقوميًا ووطنيًا بالهمومِ العربيّة، كما وبالنّتيجةِ، خلصَ النّاعوري إلى أنّ النّغمةَ الرّمزيّة في الفترةِ الثّانيّةِ شاعتْ في محاولةِ الشّعراءِ التّعبيرِ عمّا في نفوسِهم من ثورةٍ وحقدٍ على الحُكمِ والحُكاّمِ المتخاذلين، برموزٍ تُبعد عنهم الشّبهات وتحميهم من السّجنِ والاضطهاد، على عكسِ ما كان يعرفهُ الشّعرُ الأردنيّ في الفترةِ الأولى؛ معتقدًا أنّ الثّورات والانقلابات السّبب في ذلك، معللاً بأنّ الأدبَ الصّحيحَ والنّقدَ السّليمَ لا يعيشانِ إلّا في ظروفِ الاستقرارِ السّياسيّ والاجتماعي، رابطًا بين ظروفِ الاستقرار بإيجادِ حلٍّ عادلٍ للمشكلةِ الفلسطينيّة، من خلالِ توفيرِ الاستقرارِ للفلسطينيين على أرضِهم وفي دولةٍ خاصّة بهم.
أمّا ما يتعلّق بتحليلِ النّاعوري لمختارات النّماذج الشّعريّة، ينصرف أساسًا -في رأيي- إلى ذوقِه الشّخصيّ، بحيثُ لا يجدُ القارئ تحليلاً نقديًا علميًّا للشّعرٍ، وكثيرًا ما تتكرر تعابيره النّقديّة العامّة في وصفِ الشّعرِ والشّعراءِ، مع أنّ القارئ يلاحظ في تمهيدِ الكتابِ تفكيرًا نقديًّا متقدمًا ومتطورًا، ولا أدلّ على ذلك، قوله بأنّ النّقدَ الأدبيّ الواعي بإمكانِه تقويمِ الاعوجاجِ في المفاهيمِ، إلى جانبِ ذلك، يذكرُ النّاعوري بأنّ النّقدَ الواعي السّليم لا يمكن أن يعيشَ في أجواءَ الفوضى، والانقلابات العسكريّة، والثورات، بناءً على ذلك، يستطيعُ القارئ أن يكشفَ مدى العقليّة النّقدية النّاضجة التي يتمتّع بها النّاعوري.
تبعًا لذلك، يفسّر النّاعوري بأنّ شيوع فوضى المفاهيم الأدبيّة واضطرابها راجعٌ إلى ظروفِ الواقعِ وما يعانيه الإنسان العربيّ تحديدًا من تشرّد، وضياع، ومعاناة، ومأساة.
على ضوءِ ذلك، فإنّ من المنطقي أنّ يعتمد النّاعوري في كتابه منهجًا تاريخيًّا في توجيه فكره النّقدي، يتناسبُ مع معطيات هذا الواقع ومتطلبات الرّاهن.
إنّ من أسبابِ ازدهارِ الحركةِ الشّعريّةِ في شرقي الأردن كما يراها النّاعوري، انتشار المطابع، والجرائد، والأنديّة الأدبيّة، لتشكّل عاملًا مهمًا في انطلاقِ الحركةِ الأدبّيةِ في الفترةِ الأولى من عمرِ الدّولةِ الأردنيّةِ الحديثةِ إلى عامِ ألفٍ وتسعمائةٍ وثمانية وأربعين.
يضيفُ النّاعوري بأنّ المؤلفات الأدبيّة لم يظهر منها غير عددٌ قليل جدًا بخاصّة الشّعر، فلم يظهر سوى ديوانين، هما:
- هياكل الحبّ لحسني فريز 1931م.
- أطياف وأغاريد لحسني زيد الكيلاني 1946م.
يذهبُ النّاعوري إلى أنّ شعرَ عرار لم يظهر إلّا بعد سبع سنوات من وفاته، ويعزو السّبب في ذلك، إلى أنّ عرارًا كان خصمًا عنيدًا للمستعمرين الإنجليز ولحكّامِ الأردن من غيرِ الأردنيين، وقد كانَ شعره يصبّ جمرًا على رؤوسِ المستهينين بوطنه وشعبه.
وتأكيدًا على ذلك، يرى بأنّ هناك شعراءَ آخرين عاشوا وماتوا ولم يظهر لأيٍّ منهم كتابٌ يجمع شعره، من مثل صبحي أبو غنيمة، ورفعت الصّليبي، ورشيد زيد الكيلاني، وغيرهم.
وبرغمِ كلِّ الصّعابِ والعراقيل، كما يرى النّاعوري، ظهرَ بالأردنِ في الفترةِ الثّانية، عددٌ كبيرٌ من المؤلفاتِ الأدبيّةِ والمجموعات الشّعريّة.
واستنتاجًا من كلام النّاعوري، نلاحظ بأنّ ازدهارَ الحياةِ الأدبيّة في الأردنِ كانت في فترةِ الثّمانينيات، والفضل يعود إلى تأسيسِ دائرةِ الثقافةِ والفنونِ في وزارةِ الإعلامِ والثقافةِ، ذلك من خلالِ تشجيعِ المؤلفين والكتّاب الأردنيين على النّشر. ويضيف النّاعوري بأنّ مجلتي أفكار والشّباب ساهمتا في إنتاجِ الشّعراء، كما أفردت الجرائد اليوميّة الأردنيّة ملحقات أسبوعيّة ثقافيّة، التي من شأنها نشر نتاج الكتّاب والشّعراء، خصوصًا الشّعرَ الجديدَ، كما حلا للنّاعوري أن يسمّيه، المتحرر من الوزنِ والقافيةِ والمشحونِ بالغموضِ والرّمزيّة.
إنّ النّتيجةَ التي انتهى إليها النّاعوري هي أنّ الشّعرَ الأردنيّ منذُ 1921م إلى 1980م توزّع على مدرستين، هما:
- المدرسة الواقعيّة.
- المدرسة الرّومانسيّة.
يلاحظ النّاعوري بالإضافةِ إلى ما سبق ذكره، أنّ ظاهرةً جديدةً برزتْ في الأردنِ خلال فترة الثّمانينيات، ظاهرة الشّعر الشّعبيّ العاميّ، وذكر من بين أصحابِ هذه النّزعة والظّاهرة، إحسان الفرحان، ونايف أبو عبيد، وموسى الأزرعيّ.
وجملةُ القولِ في الكتابِ: بالرّغمِ من افتقارِ المعالجةِ النّقديّةِ في نماذجَ النّصوصِ الشّعريّةِ المختارةِ، إلّا أنّ النّاعوري قدّم كتابًا رائدًا ومهمًّا في تاريخِ الحركةِ الشّعريّةِ الأردنيّةِ، وأعتقدُ أنّ هذا العملَ الأوّلُ في موضوعه من حيثُ تخصيصه صورًا لحياةِ الشّعراءِ الأردنيين منذُ تأسيسِ إمارةِ شرقيّ الأردن 1946م. ولا يسعنا في هذا الكتابِ إلّا أن نتوجّه بالدّعاءِ والمغفرة الخالصتين للمؤلّفِ، على ما قدّمهُ وبذلهُ من جهدٍ فردي وزاد فكري ونقديّ.
• باحث وناقد مستقل ـ الأردن.