التضليل الحكومي في قانون الجرائم الالكترونية

أمامي نص الاتفاقية العربية لمكافحة جرائم تقنية المعلومات، وقرأتها بتمعن مرتين لعلي أعثر على ما يكشف لي عن مصداقية الادعاء الحكومي في حشر حرية التعبير في مشروع القانون الذي قدمته لمجلس النواب، فلم أظفر بطائل يجيز لي تصديق الحكومة في إدعاءاتها.

الطريف في الأمر ان الاردن وقع على الاتفاقية بتاريخ 21 / 12 / 2010، وصادق عليها بالقبول بتاريخ 8 / 1 / 2013، والاتفاقية بكامل نصوصها لا تشير الى حرية التعبير او وسائل الاعلام او منصات التواصل الاجتماعي بالمطلق بخلاف ما تدعيه الحكومة في الاسباب الموجبة لمشروع القانون، مما يؤكد ان الحكومة قامت بحشر ما يتعلق بالاعلام وبحرية التعبير حشوا مقصودا مستذكرين بذلكما فعلته حكومة سابقة ربما سنة 2011 حين حشرت وسائل الاعلام في قانون مكافحة الفساد وجوبه بموجة معارضة لكن رئيس مجلس الاعيان في حينه طاهر المصري الغى جلسة مناقشته في اللحظات الاخيرة وكانت تلك الجلسة الاخيرة في الدورة الاستثنائية وقتها، وتتأجل القانون والغيت المادة مدار الخلاف.

والاتفاقية نفسها لا تتضمن اية اشارة بالمطلق  لخطاب الكراهية او التضليل الاعلامي، إلا اذا اعتبرنا ان المادة 14 من الاتفاقية تعني تماما ما تنويه الحكومة في مشروع القانون، إذ ان المادة  الرابعة عشرة تعتبر  الاعتداء على حرمة الحياة الخاصة جريمة بواسطة تقنية المعلومات، والمادة الخامسة عشرة التي تعتبر نشر أفكار ومبادئ جماعات إرهابية والدعوة لها ونشر النعرات والفتن والاعتداء على الأديان والمعتقدات من الجرائم المتعلقة بالإرهاب والمرتكبة بواسطة تقنية المعلومات.

هاتان المادتان معالجتان باستفاضة في قانون العقوبات ومحاربة لجرائم الارهابية، والمطبوعات والتشر ولا حاجة للحكومة في التوسع الباذخ بفرض مزيد من القيود على حرية التعبير وعلى وسائل الاعلام بذريعة محاربة التضليل الاعلامي والاخبار المزيفة، بينما من يقوم بذلك الان هي الحكومة نفسها.

على الحكومة ان تف اليوم امام الراي العام الاردني وامام النواب والاحزاب وتؤشر باصابعها العشرة اين نصت الاتفاقية العربية على تضييق الخناق على حرية التعبير وعلى وسائل الاعلام وفقا لما تقوله عن التزامها بالاتفاقية العربية.

من السهل صناعة التضليل الاعلامي وتزييف الحقائق، وسوق الاكاذيب لمن اراد، ولكن من الصعب أن تجد من يصدق ذلك من غير المنتفعين واصحاب المصلحة

ان قانون الجرائم الالكترونية في نسخته الجديدة المحدثة يختص بجرائم القرصنة وباللصوص وصانعي الأضاليل والأكاذيب ــ منهم السياسيون والحكومات بطبيعة الحال ــ والمزورين والفاسدبن، وخونة الوطن والأمة ممن يشيعون أخبار مزيفة او جواسيس لأعداء الوطن ــ  تحمد الله ان لا أعداء لنا لا في المنطقة ولا في الإقليم ــ. الى غير ذلك ممن تنتظمهم الأفعال المشينة.. فلماذا أقحمت الحكومة حرية التعبير في أحكام هذا القانون؟؟؟

سؤال برسم الحيرة والاستغراب، إلا ان تكون مقاصد الحكومة أن تحشر الحق الإنساني الأصيل بحرية التعبير ضمن منظومة هؤلاء اللصوص والخونة والجواسيس والقاسدين، عندها ستختار الحكومة نهج الاستبداد القائم على منع حرية الكلام، وحرية النقد ، والحق في الحصول على المعلومات، وقد تستبد اكثر فتذهب حتى الى مصادرة الحق في حرية الرأي وحرية الاعتقاد.

من المؤكد ان مصادرة حرية التعبير هي تحصيل حاصل لمصادرة وحظر حرية الرأي، لكن في الحالة التي نعيش الان فكأن الحكومة تقول لكل مواطن "احتفظ برأيك في صدرك، ولا تبح به حتى بينك وبين نفسك والتزم بقاعدة السكوت من ذهب، لان الهمس حتى بالرأي قد يكون مدعاة للمقاضاة والتجريم".

أدرك تماما ان القانون بروحه فائقة القسوة يمثل حالة عامة من حالات الانقضاض على حرية التعبير في العالم العربي ، والنموذج الأردني ليس بعيدا حاليا عما يجري في العراق وتونس والمغرب ولبنان وليبيا ومصر، فتحت ذريعة "مكافحة التضليل الإعلامي " أصبح لكل دولة "قميص عثمان " ترفعه في وجه من ينتقد بحق، ومن ينطق بالباطل، إذ تساوى لدى المشرع العربي والأردني في الجرم كل هؤلاء دون تفريق.

من المؤكد هنا ان لا احد ضد تغليظ العقوبات على كل مجرم وفاسد ولص وخائن وعميل يستخدم الفضاء الالكتروني لارتكاب جرائمه بحق المواطنين والدولة، لكننا ضد مساواة هؤلاء بمن ينشر ويعبر عن رأيه، وضد محاكمة المواطن على نيته ونواياه، وضد تحصين السلطات الثلاث من كل نقد، وإضفاء حماية تقديسية على كل موظفي الدولة بدءا بأصغر وظيفة وانتهاءا بأعلاها، فهذه عصمة لا يملكها الا الله وحده ويمنحها بمشيئته الالهية المتعالية لمن يجتبيه من دون سائر خلقه.

أضف تعليقك