الانتقام بالإعدام

الرابط المختصر

 في كل مرة تحدث فيها جريمة تهز الرأي العام لبشاعتها أو ما يكتنفها من شذوذ مثل سفاح القربى أو القتل مع التمثيل بالجثث أو ممارسة التعذيب على المجني عليه قبل قتله أو إلحاق الأذى بشخص على نحو وحشي؛ تتعالى أصوات الجموع الغاضبة مطالبةً بإعدام الجاني قولاً واحداً مضفيةً على مطالبتها هذه ثوب العدالة والإنصاف؛ متعللةً بالقصاص تارةً وبوجوب الردع تارةً أخرى.

 الانتقام غريزة بشعة متأصلةً بشكل كبير في نفوس تغذت على أدبيات تعلي من العنف والتوحش وتحط من قيمة الإنسان وتكامله الجسدي بل تضفي على إزهاق روح الآخر والتنكيل بجسده حياً تقطيعاً وصلباً وتشويها؛ قدسيةً لتجعل أكثر الممارسات ساديةً شفاءً للصدور.

 استمراء الوعي الجمعي لفكرة قطع عضو من أعضاء الإنسان حياً والتنكيل به أو شنقه أو قطع رأسه بوصف ذلك أول ما يرد على الخاطر من حلول  لمعالجة سلوك إجرامي مشين وشاذ؛ يعد مؤشراً خطيراً على ما استقر في الضمير العام من توحش واستهانة بقدسية الجسد وقيمة الحياة، كيف لا وهناك أجيال تنشأ على تاريخ يكرس ثقافة الانتقام والقتل والاغتصاب والغصب المقدس.

 بشاعة الجريمة مؤشر على وجود خلل مسلكي في المجتمع يستوجب استنهاض الخبراء والعلماء وأهل القانون لدراسة الأسباب وتحليل شخصية وسلوك الجناة لتمكين المجتمع من تبني حلول تمنع وقوع تلك الجرائم من خلال برامج تأهيلية ومناهج دراسية تعلي من قيمة الحياة واحترام الاختلاف وقبول التنوع ومعرفة الجسد واحترامه والكف عن تزيين وتدريس ممارسات سادية تتناقض والفطرة السليمة فضلاً عن إهدارها لكرامة الإنسان المتأصلة.

 يصاب المرء بالغثيان في كل مرة تقع فيها جريمة بشعة تستثير الرأي العام، إلا أن حالة الغثيان تشتد وتبلغ الحلقوم إزاء المطالبات الغوغائية بقتل الجاني أو التنكيل به وإيقاع الأذى ذاته الذي ألحقه بالمجني عليه؛ خصوصاً حينما تأتي هذه المطالبات من شخصيات يفترض أنها تمثل "النخبة" بل إن بعضها –ويالا العجب- يشغل وظيفةً ومكانةً تتعلق بحقوق الإنسان ومناهضة العنف!

 ما يجب توضيحه للجموع الغاضبة أن الهدف ليس الانتقام ولا شفاء الصدور وإنما معاقبة الجاني بما يستحق والأهم هو الحيلولة دون وقوع جريمة مماثلة في المستقبل، الأمر الذي يستوجب دراسة معمقة لأسباب وبواعث الجريمة ونفسية وسلوك الجاني، هكذا تمكن علماء النفس الجنائي في الولايات المتحدة الأمريكية وغيرها من الدول المتحضرة من وضع صفات محددة للقتلة المتسلسلين مثلاً وصلت إلى حد تحديد عمر الجاني ولون بشرته من خلال تحليل مسرح الجريمة وما يحتويه من أدلة وقرائن، جاء هذا التقدم المذهل نتاجاً للقاءات مطولة مع الجناة وتحليل شخصياتهم وخلفياتهم وبيئاتهم الأسرية والمجتمعية وثقافتهم.

 ما قد يغفل أو يتغافل عنه كثيرون هو عدم فاعلية عقوبة الإعدام في تحقيق الردع العام كما أثبتت عديد الدراسات الموثوقة وكما تثبته الإحصاءات الجنائية في الدول التي تطبق هذه العقوبة غير الآدمية. قامت مصر منذ عقود بتشديد العقوبة على جرائم الاتجار بالمخدرات وجلبها، وعلى جريمة الاغتصاب، حيث بات الإعدام يمثل الحد الأقصى للعقوبة المقررة، ومع ذلك ازدادت وتيرة ارتكاب هذه الجرائم بشكل ملحوظ دون أن يتحقق الردع العام المنشود من تغليظ العقوبة على هذا النحو.

 عقوبة الإعدام ملاذ الأنظمة المستبدة التي تجد فيها وسيلةً للتخلص من خصومها السياسيين بتلفيق تهم لهم عقوبتها الإعدام وتصفيتهم تحت مظلة القانون وفي رحابه، وتأمل بسيط في ماضي وحاضر دول غير بعيدةً عنا يؤكد هذا المسلك الإجرامي ذو الغايات السياسية.

 تجاوز توحش البعض مطالبته بإعدام كل من يستثير حفيظته بارتكاب جريمة مروعة حتى لو لم تكن قتلا؛ إلى حد المناداة بتنفيذ الإعدام علناً في ميدان عام ليراه كل عابر سبيل وليصبح سمةً وختماً رسمياً على انحطاط الأخلاق وإهدار كل قيمة إنسانية، لتنشأ أجيال على مشاهد الشنق؛ فلا ترى في قطع الرأس بأس، فتستسيغ القتل والتنكيل جازمةً بأنها بهذه الممارسات الوحشية تحمي المجتمع وتحقق عدالة الأرض والسماء.

 الأنظمة القضائية في الدول غير الديمقراطية غير قادرة بل غير صالحة لأن توفر الضمانات الكافية التي تحول دون إساءة استخدام عقوبة الإعدام من قبل الأنظمة الحاكمة بل حتى ولا لتجنب أي خطأ محتمل قد يفضي إلى إعدام شخص بريء، فالإعدام عقوبة لا يمكن إيقافها بعد تنفيذها.

 الإعدام عقوبة غير رادعة لمرتكبها لأنه يموت ولا لمن خلفه ممن تسول لهم أنفسهم ارتكاب الجرائم؛ لأن الجناة العتاة حينما يصممون على ارتكاب جريمة ويتربصون بالمجني عليه لا يفكرون بالعقوبة ولا بالعاقبة، ولن تفلح مجتمعات ترى في إزهاق الروح عدالةً ناجزة وللمجني عليه جائزة. الجناة يستحقون العقاب الذي له غايات وأهداف لا يحقق الإعدام شيءً منها، فهو مجرد وسيلة لإشباع غريزة الانتقام، وأداة الأنظمة المستبدة لتصفية الخصوم وقطع دابر الخصام.