الإسرائيليون الأغبياء
حتى وقت قريب كنت أظن خطأ أن الإسرائيليين عموما أذكياء ، استطاعوا وفي وقت قصير، السيطرة على العالم بقوة المال والأعلام والتكنولوجيا، مدعمين باللوبيات المنتشرة في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية وكندا وغيرها.
لكن، في ضوء التداعيات الأخيرة للحرب، بين اسرائيل وحماس والفصائل الفلسطينية في غزة والضفة الغربية المحتلة، وخاصة بعد أحداث 7 أكتوبر، يظهر أن الأذكياء الحقيقيين في إسرائيل هم أولئك الذين قرروا الهجرة إلى الخارج في الوقت المناسب. هؤلاء الأفراد، الذين نقلوا مصالحهم التجارية وأسرهم إلى أوروبا، يبدو أنهم يدركون بوضوح أن البقاء في إسرائيل تحت حكم بنيامين نتنياهو وحكومته المتطرفة مع بن غفير وسموتريتش وستروك وغيرهم، لا يعد خيارًا ذكيًا.
منذ تصاعد التوترات خلال الأشهر العشرة الماضية، بدأ الكثير من الإسرائيليين بالتفكير بجدية في مستقبلهم وأمنهم الشخصي. وعلى الرغم من أن الحديث عن "الهجرة العكسية" كان دائمًا موضوعًا حساسًا في إسرائيل، إلا أن الأرقام الحديثة تشير إلى أن هذا الاتجاه قد بات ظاهرة متزايدة.
وفقًا لتقارير الإعلام العبري، تشير الأرقام إلى أن ما يقرب من 70,000 إسرائيلي غادروا إلى الخارج خلال عام 2023 فقط، مع توقعات بزيادة هذا الرقم في عام 2024 نتيجة للأزمة السياسية والأمنية المستمرة.
أولئك الذين اختاروا مغادرة إسرائيل لم يفعلوا ذلك بقرار عاطفي بحت، بل بناءً على قراءة عقلانية للوضع الراهن. في مواجهة حكومة تتعمد تأجيج التوترات الداخلية والخارجية، أصبح من الواضح للكثيرين أن حماية مستقبلهم الاقتصادي والاجتماعي يتطلب البحث عن حياة جديدة في مكان آخر. هذا الشعور يتعزز مع تصاعد الاحتجاجات ضد سياسات حكومة بن غفير – سموتريتش – نتنياهو، وتزايد الانقسام الداخلي، حيث يفضل الإسرائيليون الذين يمتلكون القدرة المالية والكفاءات العالية الابتعاد عن تلك البيئة المتقلبة.
وتكمن المفارقة هنا أن هؤلاء المهاجرين ليسوا من الفئات التي تعاني من ظروف اقتصادية صعبة، بل هم من الطبقات الثرية والمثقفة التي كانت تشكل العمود الفقري للاقتصاد والمجتمع الإسرائيلي. هذا النزوح يعني أن إسرائيل تفقد تدريجيًا القوى البشرية التي كانت تساهم في بناء اقتصادها الحديث. وإذا كان هذا النزوح في الماضي مجرد ظاهرة محدودة، فإن تصاعدها في الوقت الحالي قد يشكل تهديدًا حقيقيًا على مستقبل هذا الكيان.
إذاعة الجيش الإسرائيلي أوردت مؤخرا تقريرا عن هجرة عكسية للإسرائيليين الذين اخلوا من مستوطناتهم في الشمال وفي الجنوب ، والحديث هنا عن أعداد تتراوح بين 80 – 160 الف إسرائيلي جرى توطينهم مؤقتا في فنادق وشقق تل أبيب والبحر الميت بتمويل من ميزانية الدولة لحمايتهم ، حيث بدأ هؤلاء ينقلون حياتهم ومصالحهم التجارية الى البرتغال وتايلند وألمانيا ، وقد صادفت بعضهم مؤخراً في برلين ومولاتها التجارية .
من ناحية أخرى، هناك من بقي في إسرائيل، وربما يعتقد أن البقاء في الوطن هو الخيار الأفضل. لكن هؤلاء الذين فضلوا البقاء يمكن وصفهم بأنهم "الأغبياء" الذين اختاروا المراهنة على بقاء حكومة نتنياهو التي تسعى للبقاء في السلطة بأي ثمن. هؤلاء الأفراد يواصلون دعم حكومة تعمل على تأجيج الصراعات وتحويل إسرائيل إلى دولة معزولة عن المجتمع الدولي.
وعلى الرغم من ذلك، فإن اختيارهم هذا قد ينبع من إحساس بالوطنية أو ربما اعتقاد بأن الوضع الحالي ليس أكثر من أزمة عابرة ستنتهي قريبًا. لكن ما يثير القلق هو أن هؤلاء الذين اختاروا البقاء يتجاهلون الإشارات الواضحة على أن مستقبل إسرائيل قد يكون مهددًا بفعل السياسات الحالية.
الأرقام لا تكذب، والتقارير تشير إلى أن الهجرة العكسية ليست مجرد ظاهرة مؤقتة. بحسب صحيفة "هآرتس"، فإن ما يقرب من 30,000 إسرائيلي هاجروا بشكل دائم إلى أوروبا خلال النصف الأول من عام 2023، مقارنة بـ20,000 فقط في نفس الفترة من عام 2022 . هذا الارتفاع الكبير في عدد المهاجرين يشير إلى أن هناك حالة من الفزع الجماعي بين الإسرائيليين من الطبقات المثقفة والثرية، الذين يرون أن البقاء في إسرائيل لم يعد خيارًا آمنًا.
أخيراً لا أخراً، يبقى السؤال مطروحاً: هل يمكن لإسرائيل أن تستمر في ظل هذه الهجرة العكسية المتزايدة؟ أم أن بقاء الأغبياء فقط فيها سيكون مقدمة لانحدار لا يمكن تداركه؟ يبدو أن المستقبل وحده قادر على الإجابة على هذه التساؤلات. ولكن حتى ذلك الحين، يظل الأذكياء من الإسرائيليين هم من اختاروا مغادرة السفينة قبل غرقها، تاركين الأغبياء وراءهم لمواجهة المصير المجهول.