الأردن: كيف يمكن العبور بـ«المصالح» دون التحدث إلى «الكل الفلسطيني»؟
يضع سياسي أردني محنك من وزن رئيس الوزراء الأسبق طاهر المصري، إصبعه تماماً على جرح سياسي يمكن أن ينزف مستقبلاً في إطار سلسلة تخوفات تحاول فهم تداعيات ونتائج استراتيجية الاشتباك الأردني مع تفعيلات وتفصيلات المشهد والملف الفلسطيني.
الخوف يزيد وسط نخبة الأردن مع عودة التركيز على «المحليات» وتأثيرات الحرب على «الاقتصاد الوطني» من أن يقود ذلك إلى تخفيف حدة الاشتباك الأردني مع التفاصيل.
والخوف كبير في المقابل، من أن يصبح الاكتفاء بالمشاركات النشطة التي يؤسسها وزير الخارجية النشط أيمن الصفدي مع المجموعة الأوروبية، هو المسار اليتيم المتاح أمام «تكتيكات الأردن» التي بدأت بالرفض العلني المكرر للعدوان الإسرائيلي وانتهت بموقف معروف في محكمة لاهاي لمساندة الدعوى التي تقدمت بها جنوب افريقيا.
ولم يعد سراً في عمان أن الخوف الأكبر سياسياً هو الاسترسال بطريقة لا تقرأ تماماً مستجدات ما بعد مرحلة 7 تشرين الأول/أكتوبر، حيث يصر السياسي البارز الدكتور جواد العناني وهو يتحدث مع «القدس العربي» على أن «كل النمط وفي كل الملفات والقضايا داخلياً وإقليمياً ودولياً ينبغي بعد 7 أكتوبر أن يتبدل».
طاهر المصري يظهر قدراً من التحفظ على أي خطابات تتجاهل وقائع وحقائق الميدان الآن في الإطار الفلسطيني، وينصح خصوصاً في الجزئية المرتبطة بفصائل المقاومة ومكونات الفعل الفلسطيني أن تبقى عمان على مسافة بينها وبين الطروحات الأمريكية والغربية المعادية لمكونات الشعب الفلسطيني.
الخشية تزيد لدى نخب أساسية في عمان بأن تتجاهل الحراكات الدبلوماسية «المشكلات» التي يمكن أن تنتج عن نصائح غربية بعنوان «حركة حماس والمقاومة المسلحة يفترض أن تغيب عن الواجهة» وما أشار له كثيرون هو أن تلك النصيحة أقرب لوصفة تفسد «موازين المصالح الأردنية» مع أن وزير الخارجية أيمن الصفدي عبر أمام «القدس العربي» عن رهانه على «تفهم حماس وغيرها لمعطيات الواقع الموضوعي في المجتمع الدولي الآن».
إشارة المصري يفهم منها النصح بأن هندسة المشهد الفلسطيني مستقبلاً ينبغي أن تنجز بطريقة توفر الحماية اللازمة للمصالح الأردنية الأساسية والاستراتيجية وتمنع الشر الناتج عن مشروع اليمين الإسرائيلي في تصفية القضية الفلسطينية. لذلك، المقترح الشعبي نخبوياً الآن هو التوقف عن «تجاهل دور ومكتسبات» المقاومة الفلسطينية السياسية مستقبلاً.
جوهر النصائح للفاعلين في القرار السياسي الأردني هذه الأيام هو التركيز على الحذر من سياسة إقصاء وإبعاد مكونات أساسية قاتلت وقاومت وصبرت وقدمت تضحيات عند الوصول إلى مراحل الترتيبات.
والمعنى هنا أن الإستراتيجية الرسمية الأردنية وهي مندفعة، ينبغي أن تنتبه ليس فقط لكمائن اليمين الإسرائيلي ولا للمطبات الناتجة عن الغطاء الأمريكي لهذا اليمين، لكن أيضاً يتوجب أن تنتبه للزوايا الحرجة التي تؤسس لها السلطة الفلسطينية في تركيبتها ووضعها الحالي، وهي تحشر جميع الأطراف في الداخل الفلسطيني بحالة استعصاء تمنع المصالحة أو حتى تحول ـ وفقاً لتعبير المحلل الإعلامي عريب الرنتاوي ـ دون تجديد الشرعية الفلسطينية؛ بمعنى ضم جميع الأطراف وصهر الوحدة الوطنية وتفعيل المصالحة، وإن تمكين فصائل المقاومة أملاً في تحقيق استثمار بمرحلة طوفان الأقصى يوازي بالحد الأدنى التضحيات.
ثمة قلق لا يخفيه بعض كبار الساسة الأردنيين من أن تتحرك الدبلوماسية الأردنية بصورة منفردة في اتجاه مسار يساعد في إقصاء مكونات فصائل المقاومة.
وهو حذر في أخذ في الاعتبار الآن، حسب سياسي والبرلماني المخضرم الدكتور ممدوح العبادي، الفرص والمنح والمحن التي تمر بها المنطقة، حيث يؤيد القناعة الراسخة بأن حزمة لا يستهان بها من مصالح الأردن الأساسية والجوهرية والعميقة بصرف النظر عن رغبة بعض الشرائح من السياسيين المحليين أو عدمها، مرتبطة جذرياً بدعم وإسناد المقاومة.
لا يريد سياسيون متعددون الغرق في تفاصيل تلحق ضرراً بنهايات المصالح الأردنية، وتحديداً تلك التفاصيل المرتبطة بالتباينات والتناقضات ما بين فصائل المقاومة ومؤسسة السلطة الفلسطينية.
وعليه، التحذيرات توالت مؤخراً من أن يغرق الأردن في غابة وتشابك الموقف الفتحاوي أو موقف السلطة من فصائل المقاومة، وتحديداً من أكبرها، حماس.
لا يقول الساسة الأردنيون ذلك صراحة، لكنهم يوافقون على أن التفهم والمرونة التي تظهرها حركة حماس تجاه مبادرات إعادة تجديد الشرعية الفلسطينية هي فرصة للبناء الصحيح، وأي بناء سليم من جهة هندسة المشهد الفلسطيني الداخلي يمكن القول ـ في رأي المصري والعبادي وغيرهما ـ إن الأردن هو الطرف الأساسي المستفيد منه.
وكان الصفدي شخصياً قد أبلغ بأن لديه معطيات تشير إلى أن حركة حماس وقيادتها تظهر مرونة وتفهماً لكل الاعتبارات المرتبطة بموقف المجتمع الدولي، مشيراً إلى أن اللحظة التي يرسم فيها مستقبل قطاع غزة ثم توضع فيها خرائط البحث عن تمويل لإعادة الإعمار هي بكل حال لحظة لها معطياتها.
المقصود ضمناً أنها لحظة يفترض أن تغيب فيها عن المسرح. لكن هذا التفهم الحمساوي الاضطراري قد لا يعني الكثير إذا ما فوتت عمان ـ في رأي السياسي مروان الفاعوري ـ فرصة الاستثمار الحقيقي في إعادة تجديد المشهد الفلسطيني بوجود فصائل المقاومة، ذلك أصبح أمراً لا يمكن نكرانه، وأي مجازفة بالمصالح الأردنية تحديداً هي تلك التي تصدق اليمين الإسرائيلي والأمريكيين والغربيين عندما يطالبون بإقصاء مكونات فصائل المقاومة.
ثمة فرصة يقدرها الفاعوري وغيره بأن يشبك الأردن الأيادي والأكتاف مع «الكل الفلسطيني»؛ بمعنى إظهار الاحترام والتقدير لفصائل المقاومة ولمنظمة التحرير عموماً، ولمسار تجديد الشرعية بالقدر نفسه الذي يمكن لعمان فيه أن تحتفظ باحترامها في دعم السلطة الفلسطينية وتوحيد أقطاب حركة فتح.
دون ذلك، فالتحفظات شديدة من أن يؤدي اهتمام الأردن ومؤسساته باستثناء حركة حماس، من المساس بالمصالح الفلسطينية عبر إنتاج مشهد لا مستقبل له ولا يمكنه أن يقود وحدة الصف الفلسطيني في النهاية، لذا يحرم المملكة الأردنية الهاشمية من إنجاز وتحقيق ثوابتها.
*القدس العربي