الأخطر من انحباس المطر
بعض الوعّاظ الذين يبلغ منهم الميكرفون الحلقوم وهم يصرخون ويوبخون من يستمع إليهم؛ وجدوا في تفشي وباء كورونا ثم تأخر موسم الأمطار فرصةً ذهبيةً للإمعان في التقريع والتشنيع في المجتمع بشبابه وشيابه ورجاله وقبل هؤلاء جميعاً نسائه “المتبرجات المتشبهات..”؛ واتهامهم جميعاً بأنهم علّة العلّة وسبب الفاقة والقلّة، “بما يرتكبوه من معاصي وما يبتدعوه من صيحات تقلد الغرب الكافر بما لديه من مفاسد ومآسي”.
كما هي عادة أمتنا في القيادة والريادة، قد تكون سبب في الكشف عن منظومة فساد هي الأكبر في تاريخ البشرية في مجال الأبحاث العلمية الخاصة بدراسة الظواهر الطبيعية التي أنفقت وكالات الفضاء والمراصد الفلكية والمراكز العلمية حول العالم؛ تريليونات الدولارات على رصدها وتتبعها وتحليل نتائجها ووضع الحلول للتقليل من آثارها السلبية على الإنسان، مسخرةً في سبيل ذلكم أقماراً صناعيةً وموارد بشريةً تضم صفوة العلماء، إذ منعت الأنفة “والعنطزة” هذه الجهات وحكوماتها من طلب المعونة منّا والاستفادة مما حققناه من سبق علمي ومعرفي في مجال تحديد أسباب وقوع الكوارث الطبيعية وظاهرة التغير المناخي، وفوق البيعة تفشي الأوبئة والأمراض وأسباب الفقر والبطالة.. حيث كما هو ديدننا في كل شيء، عرفنا السر وكشفنا الستر منذ مئات القرون، فاسترخينا مُفرشِحين أرجلنا ننظر إلى الأمم الأخرى ونضحك منها وهي في حيرة تنفق الطائل من الأموال والثمين من الوقت لاهثةً لمعرفة ما علمناه وتعلّم ما أحطنا به خُبْرا.
أجمع شرّاح الأمة متقدميهم ومتأخريهم على أن كلمة السر في ما يحل بالأرض من بلاء صحي ومناخي مرجعه خمسة أمور استدلوا عليها من حديث عبد الله بن عمر المعروف ب “حديث الخصال الخمس” الذي رواه ابن ماجة وحسّنه الألباني، ونصه: “أقبل علينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: (يا معشر المهاجرين، خمسٌ إذا ابتليتم بهن وأعوذ بالله أن تدركوهن: لم تظهر الفاحشة في قوم قطُّ حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم الذين مضوا، ولم يُنقصوا المكيال والميزان إلا أُخذوا بالسنين وشدة المؤونة وجور السلطان عليهم، ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا مُنعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يُمطروا، ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلط الله عليهم عدوًّا من غيرهم فأخذوا بعض ما في أيديهم، وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله ويتخيروا مما أنزل الله إلا جعل الله بأسهم بينهم)” http://surl.li/aqeil
اتخذ عدد كبير من الوعّاظ والمنظّرين بل حتى بعض من يصنفون أنفسهم ب “المعتدلين” من تأويل هذا الحديث مسوغاً للتضليل والتجهيل بإرجاع كل فاقة ونازلة تحل بالبلاد والعباد إلى عوار في المجتمع، مع عدم تفويت الفرصة طبعاً ل “تلطيش” الدولة بالتصريح أو التلميح بأنها سبب رئيس في ما يتفشى من أوبئة وأمراض وما يقع بين حين وآخر من انحباس في المطر، وذلك لكونها “تشجع على الفسق والفجور” من خلال المهرجانات والحفلات وغيرها من النشاطات الثقافية والترفيهية (والعياذ بالله)، وذلك كله على نغمة: “هذا ما جنته يداك وعلى نفسها جنت براقش”.
بعض الوعّاظ الذين يبلغ منهم الميكرفون الحلقوم وهم يصرخون ويوبخون من يستمع إليهم؛ وجدوا في تفشي وباء كورونا ثم تأخر موسم الأمطار فرصةً ذهبيةً للإمعان في التقريع والتشنيع في المجتمع بشبابه وشيابه ورجاله وقبل هؤلاء جميعاً نسائه “المتبرجات المتشبهات..”؛ واتهامهم جميعاً بأنهم علّة العلّة وسبب الفاقة والقلّة، “بما يرتكبوه من معاصي وما يبتدعوه من صيحات تقلد الغرب الكافر بما لديه من مفاسد ومآسي”.
كتب د. رحيل غرايبة الرئيس الحالي للمركز الوطني لحقوق الإنسان مقالةً سنة 2014 بعنوان: (سر انحباس المطر) http://surl.li/aqehq تعرض فيها لأسباب انحباس المطر في تلك السنة ليس من جانب علمي لا سمح الله، فهذا في ما يبدو ليس ذو صلة بالموضوع من وجهة نظره، وإنما من جانب عقائدي وقيمي، إذ بنى تحليله لهذه الظاهرة –وهو من غير أهل الاختصاص فيها- على المنهج المعتاد لجماعة الإسلام السياسي في التعويم والتعميم وعدم استشعار الحرج بإطلاق أحكام مبنية على معلومات غير صحيحة، حيث استهل مقاله قائلا: “التفسيرات العلمية المادية تقف عاجزة أمام هذه الظاهرة التي تستعصي على الأفهام رغم تقدم البشرية الهائل في مجال التقدم العلمي ولاكتشافات الكونية، ورغم امتلاك الانسانية هذا الكم الهائل من حجم المعرفة..”.
ليس مفاجئ زيف المعلومات التي استُهِل بها المقال الذي يتهم العلم بأنه “عاجز عن تفسير ظاهرة الانحباس المطري”، فهذا من لزوم ما يلزم لتجريد المسألة من ثوبها العلمي الأصيل وتلبيسها عباءة الكهنوت والتأويل الذي تبناه الكاتب وهو ينهال على المجتمع سلخاً ونفخاً محملاً أفراده مسؤولية ما حل بهم من مْحْل، مستنداً إلى “حديث الخصال الخمس” آنف الذكر، متغافلاً أو غير ملم بما تعج به المجلات العلمية والمواقع الألكترونية المتخصصة من أبحاث ومقالات تفصّل وتحلل ظاهرة الانحباس المطري بشكل علمي يسنده الدليل والبرهان، وما عليه وعلى كل مستزيد إلا أن يكتب في محرك البحث عبارة: “drought causes”، أو شيء على شاكلتها، ليعاين الكم الهائل من المعلومات الموثقة التي تشرح هذه الظاهرة وتفسرها بالبيانات والصور.
على الرغم من أن المسلمين مروا بسنوات قحط والرسول بين ظهرانيهم كما أورد ابن حجر في باب الاستسقاء من كتابه (فتح الباري شرح صحيح البخاري) http://surl.li/aqejj وفي عهد عمر بن الخطاب سنة 18 للهجرة حيث عام الرمادة الذي انقطعت فيه الأمطار حولاً كاملاً فمات الزرع وهلكت الدواب كما يروي ابن كثير في البداية والنهاية http://surl.li/aqekh ، إلا أن البعض يصر على التعاطي مع الدين بمنطق الهايبر ماركت حيث كل ما تطلبه موجود، فإذا تساءلت عن سبب القحط في تلكم الفترات التي شهدت فجر الدعوة وجذوة الإيمان، حيث لا فاشية معاصي ولا تفشي بهتان.. يجيبونك من فورهم: “كان ابتلاء وليس بلاء، وتمحيص وليس عقاب”، فإذا سألت ثَمَّ سألت؛ عن سبب وفرة المياه في “دار الكفار” التي تشقها الأنهار وتغمرها الأمطار وتحيط بها المحيطات والبحار.. فجوابهم حاضر في هايبر ماركت “كافِر كَفور” في قسم المعلبات حيث عبوة قاتمة اللون منتهية الصلاحية كتب عليها: “لهم الدنيا ولنا الآخرة”.
الأخطر من انحباس الأمطار قحط المنطق وجفاف الأفكار، حيث لا تنفع صلاة استسقاء ولا أكف تبتهل إلى السماء، إلا من أتى بفكر قويم ومنطق سليم وعلم قوامه التجربة والتقييم.