استراتيجكس: سيناريوهات الحرب على غزة ما بعد الهدنة
دخل اتفاق الهدنة الإنساني بين إسرائيل وحركة حماس حيز التنفيذ، بعد أن أُعلن عن نجاح الوساطة القطرية المصرية الأمريكية في 22 نوفمبر 2023، وقد تضمن الاتفاق ثلاثة أمور أساسية؛ الأول: وقف لإطلاق النار لمدة 4 أيام قابلة للتجديد، والثاني: إدخال 4 شاحنات من الوقود و200 شاحنة من الغذاء والدواء يومياً، والثالث: تبادل الأسرى بين الطرفين، بواقع 50 من الأسرى المدنيين لدى حركة حماس وتحديداً من الأطفال والنساء، مُقابل 150 أسيراً فلسطينياً من النساء والأطفال في السجون الإسرائيلية. وقد لاقى اتفاق الهدنة ترحيباً دولياً، إذ يمثل أول اختراق للحرب الدائرة منذ 7 أكتوبر 2023، والتي أوجدت ظروفاً إنسانية غير مسبوقة في قطاع غزة، ويُنظر لها بوصفها حدثاً يُحتمل له أن يُغير من مسار الحرب إما بالتهدئة أو التصعيد، ما أثار سؤالاً رئيسياً؛ ماذا بعد اتفاق الهدنة؟
وعليه؛ تقدم هذه الورقة مجموعة من السيناريوهات المتوقعة لمسار الحرب في مرحلة ما بعد الهُدنة، والمرتبطة بمجموعة من المؤشرات والمعطيات منها ما يُعنى بإسرائيل وقطاع غزة، ومنها ما هو إقليمي ودولي، وعلى مستويات عدة سياسية واقتصادية وعسكرية ، ومن هذه السيناريوهات:
السيناريو الأول: تكريس وقف إطلاق النار
إن الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، تأتي بعد جولات قتال متعددة ودورية، وقد اعتادت أطرافها على إنهاءها بالتفاوض والاتفاق على وقف إطلاق النار، دون الدخول في ترتيبات سلام طويلة الأمد، وبذلك تمتلك إسرائيل وحركة حماس والفصائل الفلسطينية الأخرى الخبرة في الالتزام بوقف إطلاق النار وتطويره حتى إن كان هشاً، وذلك ما حدث في جولات القتال السابقة أو في حرب عام 2014. وينطبق ذلك على اتفاق الهدنة الحالي، والذي يُحتمل أن يتحول إلى وقف إطلاق نار وليس مجرد هدنة إنسانية، وقد يُشكل بداية للشروع في بحث الحلول السياسية، وذلك وفق مجموعة من المعطيات ومنها:
1- أن التجارب التاريخية للحروب الإسرائيلية أو جولات التصعيد تُشير إلى اعتمادها مبدأ الحروب السريعة، وينطبق ذلك على حروبها في قطاع غزة أو لبنان، وفي حالة الحرب الحالية فإن ضغوطاً عدة قد تدفع إسرائيل لوقف الحرب منها اقتصادية وعسكرية ودولية، وقد تداولت الأنباء عن نية إسرائيلية البدء في تسريح ضباط الاحتياط لأسباب اقتصادية، كما أنه وبعد مضي شهرين تقريباً على الحرب ليس هناك ما يُشير إلى إمكانية تدمير حركة حماس أو اغتيال قادتها في قطاع غزة.
2- أن التوصل إلى الآليات الفنية والإجرائية لاستعادة الأسرى، يُسهل على الطرفين من إتمام إطلاق سراح الدفعة الحالية وأي دفعات قادمة، دون الحاجة إلى تعميق العمليات العسكرية، وهذا ما دعت إليه الولايات المتحدة منذ بدء الحرب، بمنح صفقة تبادل الأسرى الأولوية على العمليات العسكرية، لما تحمله من مخاطر على حياتهم لا سيما الأمريكيون منهم. وبذلك فإن اتفاق الهدنة يعالج واحدة من أبرز مسببات الحرب، خاصة وأن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو قد ربط أي حديث عن وقف إطلاق النار، بإطلاق سراح جميع الرهائن.
3- تأتي الهدنة في وقت تشعر فيه الفصائل الفلسطينية بأن مساعيها لتوحيد الساحات لم تنجح، وأن امتداد الحرب وتوسعها بعد مضي شهرين من اندلاعها أصبح احتمالاً أقل من السابق، ما يعني أن استمرار الحرب سيؤدي إلى مزيد من الاستنزاف لمخزونات تلك الفصائل من السلاح والعتاد وكذلك مزيداً من الخسائر في صفوف المدنيين من سكان قطاع غزة.
4- من المحتمل أن يمتثل ضمنياً بالهدنة الأطراف غير المباشرين في الحرب، لا سيما حزب الله والفصائل الفلسطينية في لبنان، وكذلك المجموعات المسلحة في العراق وسوريا واليمن، وهو ما يوفر الأرضية للتهدئة على مستوى الإقليم.
5- أن الحرب جاءت بكلف إنسانية كبيرة على سكان قطاع غزة، ومن غير الممكن أن تكون مدة الأيام الأربعة كافية لإمداد سكان القطاع بالاحتياجات اللازمة لمعيشتهم ومتطلبات إيواء النازحين من الشمال، خاصة على مستوى النقص الحاد في الغذاء والدواء، وقد تزايدت الضغوط الدولية على إسرائيل بهذا الصدد.
6- أن استمرار الحرب يعني تعاظم مخاطرها على إسرائيل، ومن أجل وضع حد لتلك المخاطر يتعزز خيار تكريس وقف إطلاق النار الذي يتضمن الاكتفاء بمنطقة عازلة داخل غزة بشكل مؤقت، وشن حملات أكثر تنظيماً وطويلة المدى لاحقاً، مع استمرار الصراعات منخفضة الحدة كعمليات الالتحام والضرب من وراء المنطقة العازلة، والإبقاء على العمليات الجوية لكن في حدود منخفضة.
السيناريو الثاني: استئناف الحرب كما كانت
جاءت الهدنة في وقت بدأت فيه إسرائيل تعمق عملياتها العسكرية في مناطق شمال قطاع غزة، وكانت قد حددت أهدافها من الحرب منذ اليوم الأول بتدمير قدرات حماس العسكرية وتفكيكها وتعهدت بعدم وقف الحرب قبل تحقيق ذلك الهدف. وهناك من المعطيات ما يدعم استئناف الحرب واحتمال تعمقها ومنها:
1- هذه ليست المرة الأولى التي توقف بها إسرائيل القتال، ففي مطلع نوفمبر أوقفت القوات الإسرائيلية إطلاق النار لمدة أربع ساعات من أجل السماح لسكان شمال القطاع بالمغادرة نحو الجنوب، وسمحت بشكل متقطع بإدخال كميات محدودة من الوقود والأغذية والدواء إلى جنوب القطاع.
2- تحتاج إسرائيل إلى الهدنة الحالية ليس لإطلاق الرهائن فحسب، بل أيضاً لتسهيل عملياتها العسكرية في شمال القطاع خاصة أنها تتجه حالياً للتوغل في أكثر مناطق غزة اكتظاظا كبيت لاهيا وبيت حانون، ما يتطلب تقليل القتلى من المدنيين وتفادي الضغط الدولي بهذا الصدد.
3- أن الولايات المتحدة أعلنت لمرات عدة عن معارضتها وقف إطلاق النار في قطاع غزة، بحجة أن ذلك يُفيد حركة حماس، وضغطت من أجل تنفيذ هدن إنسانية، لتسهيل نزوح الأفراد من مواقع القتال وإدخال المساعدات الإنسانية، وكانت الولايات المتحدة قد عارضت قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة الذي يدعو إلى هدنة إنسانية دائمة.
4- إن لغة الاتفاق واضحة وصريحة في الإشارة إلى "هدنة" وليس "وقف إطلاق النار"، وذلك يعني أنه اتفاق قصير وغير دائم، وليس لفترات طويلة من الهدوء بشكل مماثل للاتفاقات السابقة بين الطرفين، على سبيل المثال جاء اتفاق وقف الحرب عام 2014، بعنوان "وقف إطلاق نار مفتوح"، وذلك يُشير إلى توقف طويل للقتال وإن كان ذلك لم يمنع من تجدد جولات التصعيد لاحقاً لكنه يوقف مجريات الحرب وأحداثها القائمة.
5- أن المعطيات الميدانية لا تدعم وقفاً لإطلاق النار، حيث الطرفان على تماس مباشر في الميدان، ولا تزال القوات الإسرائيلية موجودة على الأرض في قطاع غزة، وذلك يُعقد أي ترتيبات غير عسكرية تحاول منع الاشتباك بين الطرفين.
6- عطفاً على النقطة السابقة، فإن إجراءات وقف إطلاق النار في حالة الحرب الحالية تتطلب إجراءات أكثر تعقيداً، وترتيبات مختلفة عن المذكورة في اتفاق الهدنة، من جهة الحاجة إلى مراقبين من جهات محايدة لحل الخلافات والاستجابة لأي مستجدات تطرأ بين القوات المتلامسة على خطوط القتال، بالإضافة إلى تعهدات تقدمها الأطراف المتحاربة وتضمنها الجهات الوسيطة. ومن غير المحتمل أن ينجح أي اتفاق لوقف إطلاق النار طالما أن القوات الإسرائيلية والفصائل الفلسطينية يتواجدان في الميدان نفسه.
7- أن عملية تبادل الأسرى ليست الهدف الوحيد من الحرب، وأن العمليات العسكرية قد تستمر في ضوء التجارب السابقة لعمليات تبادل الأسرى، والتي لم تكن جميعها ناجحة بالنسبة لإسرائيل، إذ إن إطلاق سراح الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط جاء بثمن الإفراج عن يحيى السنوار والذي أصبح المطلوب الأول لإسرائيل.
8- أن موقف حركة الجهاد الإسلامي المرتبط أكثر بالسياسات الإيرانية لم يكن على وفاق مع حركة حماس فيما يتعلق بشروط الهدنة منذ بدايات التفاوض حولها، وهو ما ظهر في تصريحات الأمين العام لحركة الجهاد زياد النخالة في الرابع عشر من نوفمبر التي قال فيها أنّ "طريقة التفاوض التي تتعلق بأسرى العدو لدينا وردود فعله من المحتمل أن تدفع حركة الجهاد لأن تكون خارج الصفقة، حركة الجهاد الإسلامي يمكن أن تحتفظ بما لديها من الأسرى لظروف أفضل"، وهو موقف لا يمكن عزله عن مصالح إيران الأقرب لاستمرار الحرب في هذه المرحلة، خاصة بعدما تم إخراجها من معادلة الوساطة في ملف الأسرى والرهائن.
السيناريو الثالث: تغير طبيعة الحرب
إن التوافق على آلية لتبادل الأسرى، والضغوط الدولية المتزايدة على إسرائيل، والخسائر الإنسانية الكبيرة في قطاع غزة، قد تفرض تغيرات على طبيعة الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، من كونها حرباً شاملة ذات أهداف معقدة، إلى عمليات عسكرية "جراحية"، والتي ستكون بوتيرة أقل زخماً وأقل تأثيراً على المدنيين. خاصة وأن إسرائيل أصبح لديها قدرة الوصول الأمني إلى أغلب مناطق القطاع. ويدعم هذا السيناريو معطيات عدة من ضمنها:
1- أن صيغة الاتفاق تُشير إلى تشجيعه لاتفاقات لاحقة أو تمديد الحالية، من أجل إطلاق أكبر عدد ممكن من الأسرى يتعدى الرقم المتفق عليه، فمن شأن إطلاق المزيد منهم أن يُمدد تلقائياً فترات وقف إطلاق النار ولمدة لا تزيد عن عشرة أيام.
2- أن إطلاق سراح خمسين أسيراً لن يُخفف الضغط على رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لإطلاق سراح الأسرى المتبقين لدى الفصائل الفلسطينية، بل قد يؤدي إلى زيادة الضغط لإطلاق المزيد منهم ما يعني أن هناك هدن أخرى قادمة، وربما يتم التفاوض عليها من الآن.
3- أن صعوبات الحرب وتعقيدات بيئتها يتطلب وقفاُ دورياً لإطلاق النار حتى يتسنى للطرفين معالجة بعض الأمور الثانوية سواء العسكرية أو الإنسانية.
4- أن مسار الحرب الحالي أنهى مهمته في إرساء معادلة تبادل الأسرى، ما يعني أن مسارها اللاحق يتطلب التركيز أكثر على الأهداف القيمة والاستراتيجية. ويحافظ في الوقت نفسه على الضغط العسكري الذي تعتقد إسرائيل أنه الوسيلة لتحرير جميع الأسرى.
5- أن طرفي الحرب لديهم قنوات اتصال عبر وسطاء وممثلين مثل الولايات المتحدة وقطر ومصر، ما يعني أنه بتوفر الظروف المناسبة فإن احتمالات تجديد الهدنة أو تكرارها قائمة.
6- إن تحقيق إسرائيل لأهدافها في الحرب لا يعني بالضرورة استمرارها بنفس الطريقة، وإنّما عبر اللجوء إلى العمليات العسكرية المركزة والنشاطات الاستخباراتية الدقيقة، كاستهداف قادة مهمين في حماس والجهاد، وتدمير بعض المنشآت العسكرية الحساسة، وتعزيز الوجود العسكري الحالي الذي يفصل شمال غزة عن جنوبها حتى الوصول لمرحلة الترتيبات الأمنية النهائية.
وأخيراً؛ فإن سؤال مسار الحرب ما بعد الهدنة، لن يُصبح واقعاً إلا إذا صمدت الهدنة طوال أيامها الأربعة، وهي مسألة بالغة الصعوبة في ظل ميدان الحرب الذي يعتبر بيئة معقدة، وفي ضوء الانتشار العسكري الإسرائيلي داخل قطاع غزة، واستمرار عمليات الرصد الاستخباراتية، ومخاطر التصرفات الفردية والتحصينات المعقدة، وكذلك تداخل لبعض الجبهات بين قطاع غزة ولبنان، مع ذلك فإن موقف الأطراف وضمانات الوسطاء تبقي احتمال نجاح الهدنة قائماً، ومنه تأتي سيناريوهات ما بعدها.