إدارة أزمة الأزمة
تدرك دول العالم التي اجتاحها وباء كوفيد 19 ثقل الأعباء الاقتصادية التي ترتبت وما تزال على إجراءات الإغلاق بمستوياتها المختلفةة. وقد تفاوتت إجراءات الإنعاش الاقتصادية لقطاع الأعمال في تلك الدول بحسب الملاءة المالية ومدى غلبة مبادئ الحاكمية الرشيدة والممارسة الديمقراطية التي تأخذ في الحسبان رضى أو معارضة الشارع لما تعتزم الحكومات اتخاذه من قرارات في هذا الصدد.
خصصت الولايات المتحدة حتى الآن أكثر من 300 مليار دولار وأتاحت قروض ميسرة لقطاع الأعمال الصغيرة والمتوسطة يصل بعضها إلى 100 ألف دولار بفائدة بسيطة جدا، هذا فضلاً عن رصد مليارات الدولارات لمساعدة المزارعين الذين اضطر بعضهم لإتلاف محاصيلهم ونتاجهم الحيوانين نظراً لحالة الإغلاق التي تسود الولايات كافة في أمريكا.
كندا والدول الأروبية وبعض دول آسيا اتخذت بدورها حزمة من الإجراءات المساندة العاجلة ومتوسطة الأمد لمساعدة قطاع الأعمال والموظفين لمواجهة التحديات الاقتصادية والمعيشية الناجمة عن الإغلاق وما يليه من فترة نقاهة تتسم باستمرار الركود الاقتصادي ثم التعافي البطيء والتدريجي.
في ضوء محدودية موارد العديد من دول العالم وانشغال الدول الغنية بنفسها في مشهد أشبه ما يكون بيوم القيامة، حيث يفر المرء من أمه وأبيه وصاحبتيه وأخيه وعشيرته التي تؤويه قائلاً: نفسي نفسي، لم تجد بلدان الموارد الشحيحة مفراً من تقاسم الأعباء والآثار الاقتصادية مع مواطنيها من خلال خفض رواتب العاملين منهم في القطاعات الحكومية والخاصة بنسب متفاوتة وتحويل جزء كبير من الإنفاق الرأس مالي لتغطية النفقات الجارية، الأمر الذي سوف يفضي إلى تباطء شديد في تنفيذ العديد من المشاريع والبرامج التنموية ذات الأثر طويل المدى التي كانت بالأمس القريب أولويةةً وطنيةً لتغدو اليوم مع اكتساح الوباء في ذيل أجندة الأولويات.
لجأت الدول الفقيرة إلى معادلة اختيار أهون المرّين، حيث سارعت إلى محاولة احتواء تفشي العدوى بين مواطنيها لعلمها اليقيني أنه في حال تجاوزت أعداد الإصابات لديها بضع آلاف، فإن نظامها الصحي سوف ينهار فوراً ولن تقوَ على التعامل مع تداعيات ذلك. حظر التجول في جانب منه يعد وسيلةً بديلةً للاستغناء عن الحاجة لتوسيع قاعدة الفحوصات التي يتم إجراؤها للأفراد، بحيث غدت الفحوصات تجرى لمن تظهر عليه الأعراض وتستمر لمدة معينة، مع إجراء عدد محدود جدا منها لعينات عشوائية هنا وهناك، وذلك كله نظراً لعدم مقدرة تلك الدول على تحمل كلفة إجراء مئات الألوف من الفحوصات أسبوعياً كما تفعل الدول الأروبية وأمريكا، التي أجرت حتى الآن قرابة 4 مليون فحص.
معالجة التداعيات الاقتصادية للجائحة إذن تختلف بدورها من دولة إلى أخرى بحسب الحالة الاقتصادية السائدة وطبيعة النظام السياسي. ففي الدول الغنية المترفة ذات الأنظمة الشمولية، تتكفل الحكومة بتأمين مواطنيها باحتياجاتهم الأساسية وربما الكمالية وضمان ديمومة دخولهم، ليبقى الوافدون والعمال المهاجرون هم الأكثر تضرراً من الناحية الاقتصادية بل تجاوز الأمر ذلك في بعض الدول حيث تم تحميلهم مسؤولية نقل العدوى للمواطنين وأخذهم للأسرّة التي قد يحتاجونها في المستشفيات، إلى الحد الذي ظهرت فيه أصوات نشاز تطالب بإلقائهم في الصحراء وتركهم يموتون. أما في الدول الديمقراطية الغنية فإن دافع الضرائب سيجني ثمرة ما يتم اقتطاعه من دخله من ضريبة في هذا الظرف الاستثنائي، بحيث تقوم الدولة بضخ المساعدات والقروض الميسرة لمساندة قطاع الأعمال صوصاً الصغير والمتوسط منها. في المقابل، يلقى مواطنو الدول الفقيرة مصيرهم المعلوم والمحتوم أثناء الجائحة وما بعدها فيقعون ضحايا هجماتها في ظل خدمات صحية متهالكة، ثم يدفعون ثمن تداعياتها الاقتصادية من جيوبهم الخاوية.
ينتهي شهر العسل الذي تفرضه الأزمات بين الحكومات والمواطنين مع نهاية الأزمة وبدء تجلي وانكشاف ما خلفته من أضرار، لتبدأ مرحلة المساءلة والمحاسبة وتحمل كلفة المعالجة والتعافي التي قد تطول، وفي هذا الصدد، تتباين حكومات العالم من حيث كفاءتها وحنكتها في إدارة أزمة ما بعد الأزمة، فإما أن تستثمر ما تحقق لها من شعبية أثناء حالة الطوارئ وتبني عليه وتعززه، وإما أن تطيح بكل مكتسباتها إذا ما آثرت المعالجات التقليدية السهلة آنية الأثر ممتدة التأثير التي تقوم غالباً على تحميل الأفراد ثمن التهاوي وكلفة النهوض.