أقاصيص النضر ..السارد الأخطر في مواجهة القرآن

تعقيبا على د. عبيد الله

في كتابه ( أساطير الأولين ــ الجنس الأدبي الضائع في السرد العربي القديم ــ) الصادر  في طبعته الاولى سنة 2013 حاول د. محمد عبيد الله "إعادة الاعتبار لشخصية النضر بن الحارث القاص " ، و"لإبراز دوره الريادي في السرد العربي القديم، وهو دور هام ومبكر، لكن صاحبه استخدم موهبته في محاربة القران والدين الجديد، مما أسهم إلى حد بعيد في شهرته ضمن اعداء النبي الكريم من القرشيين، وتعتيم دوره السردي خارج إطار العداوة ــ على حد قوله ص 87 ــ ".

إن محور الكتاب ينهد للبحث في تلك الأقاصيص التي كان النضر بن الحارث يتلوها على قريش والعرب ممن يلتقيهم النبي عليه السلام في مكة إبان بواكير الدعوة المكية، وكان النضر ينتظر الى أن يفرغ النبي من خطابه ليخلفه في مجلسه نفسه ولربما قبل أن يغادر النبي مكانه ليقول للمستمعين المتجمهرين "إن ما معي أفضل مما مع محمد ويبدأ بتلاوة أقاصيص الفرس واسفنديار ورستم ، وغيرها من الأقاصيص والتواريخ التي كان يحضرها من بلاد فارس، ومن المؤكد أنه كان يترجمها للعربية ويكتبها ويقرأ منها.

ولا تحتمل هذه العجالة الاحالة إلى عشرات المصادر والمراجع مما يدفعني للاتكاء على بعض محفوظاتي هنا، وللتاكيد أن حركة النضر بن الحارث ورفيقه اليثربي الأوسي سويد بن الصامت قد أثرا بشكل كبير في تقاعس القرشيين والعرب بالمسارعة للايمان بدعوة الاسلام او بالدين الجديد.

إن كتاب د. عبيد الله يمثل بالنسبة لي ولحقل نقد المرويات التاريخية العربية عن بواكير الاسلام وحركة المناهضة القرشية للدين الجديد عملا مهما في حقله المعرفي بالرغم من أنه لم يستكمل تماما حالة البحث المضنية عن شخصية النضر وشخصية سويد اللذان امتلكا خطابا شديد المناوءة لخطاب القران الكريم بالنسبة لقريش وللعرب الوافدين على مكة، وإن كان خطاب النضر بن الحارث الأشد تأثيرا والأكثر استدامة بعد أن قطع سويد بن الصامت زيارته لمكة مبكرا وتخلى عن مناوءة النبي.

ولست هنا بصدد تتبع الهنات التي وقع فيها د. عبيد الله في كتابه بالقدر الذي أجدني فيه مثمنا له ولبحثه، ويكفيه هنا شرف نفض بعض الغبار عما أبهم او أسقط من تاريخنا أو من سرديتنا التاريخية التي يشوبها الكثير من الغموض والانقطاع والاختلاق والتوظيف فضلا عن الأكاذيب الفاضحة.

ومن المهم التأكيد أن كتاب د. عبيد الله يأتي في سياق التأريخ للحركة المناوئة للاسلام في بواكيره المكية الأولى، وهي الحركة واسعة النطاق التي أثرت كثيرا على انتشار الاسلام خلال السنوات الثلاث عشرة الاولى من الدعوة الاسلامية، وهي الحركة نفسها التي لم تحظى من الرواة العرب ومؤرخيهم بأدنى اهتمام إلا بالقدر الذي يفسرون فيه جزءا من السيرة النبوية أو أحداث تاريخية أو ربط أحداث بأسباب نزول آيات أو سور من القرآن الكريم، ويكفيني التأشير هنا إلى قائمة مناوئي النبي من القرشيين الأكثر عداوة له وللاسلام الجديد والتي زادت عن 32 اسما حسب ما رواه المقريزي في "أمتاع الأسماع ".

والسؤال الذي يدور عليه كتاب د. عبيد الله هو "ما هي أساطير الأولين أو الأقاصيص أو النصوص التي كان يتلوها النضر بن الحارث على أسماع مستمعيه في مجتمع مكة؟، وهل هي نوع من السرد العربي القديم الذي اختفى تماما ، أم تم تغييبه باعتباره من منتواج ورواسب الثقافة المهزومة التي لا مكان لها في محيط الثقافة الجديدة المنتصرة؟.

ولئن كان سؤال د. عبيد الله قد وجد مساحة فضفاضة له للتجول في المرويات، فإن الإجابة عليه ظلت سجينة المصير نفسه، فلا إجابات تشفي الغليل او تصلح لأن تكون دليلا على سردية عربية قديمة كان رأس سنامها النضر بن الحارث ورفيقه سويد بن الصامت صاحب "صحف لقمان " الذي أغفله د. عبيد الله تماما.

إن قصة النضر نفسه تطرح حضورها بقوة في تلافيف السيرة النبوية والتاريخ المبكر للاسلام المكي، وأعتقد أنها تمثل في جوهرها اخطر ما واجهه الإسلام في بواكيره من ردات فعل مناهضة تمثلت بمطارحة الأفكار وليس العناد والعصبية فقط، فبعد أن أعيت قريش خطتها في مواجهة الخطاب  المحمدي لم تجد إمامها غير طريق آخر وهو مواجهة الحجة بالحجة، والقصة بالقصة، والحكاية بالحكاية، فأرسلت تستدعي أخطر شخصيتين يمثلان ثقافة مجتمعاتهم في تلك الفترة، فأرسلت خلف النضر بن الحارث وكان مقيما في الطائف، واستدعت سويد بن الصامت الأوسي  من يثرب والذي كانت العرب تسميه "الكامل" لثقافته ورجاحة عقله وحكمته.

ولست هنا في معرض التجول في سيرة النضر شبه المُغيَّبة أو المنفية في المرويات السردية التراثية، وكذلك الحال بالنسبة لسويد بن الصامت الذي حاول إقامة علاقة ايجابية مع النبي بعد عودته من مكة الى يثرب بل وأهدى للنبي  هدية قبلها النبي منه، إلا أن سويد قتل في ثأر قبل هجرة النبي، قتله خزرجي قبل يوم بعاث الشهير بين الأوس والخزرج الذي سبق هجرة النبي إلى يثرب وفقا لما يرويه ابن كثير في البداية والنهاية وغيره من الرواة والمؤرخين والقُصاصين العرب.

وفي المواجهة بين القصة والقصة والحكاية والحكاية تظهر شخصية النضر بن الحارث بقوة طاغية، فهو يملك على الأرجح مكتبة مكتملة من مرويات وأقاصيص الفرس وأساطيرهم، ولا اظنه كان بعيدا عن معرفته بالعهدين القديم والجديد"التوراة والإنجيل "، مما منحه القدرة على مجادلة النبي عليه السلام، وهي المجادلة التي جعلت من النضر رأس الحربة القرشية في مواجهة القرآن الكريم، وفي مواجهة الإسلام الجديد، وتأثيره المباشر على القرشيين والوافدين من العرب على مكة.

ولم تحسم المرويات شخصية النضر إن كان قرشيا أم كان ثقفيا بالرغم من ترجيحها لنسبه القرشي المكي، فيما زعمت مرويات أخرى أنه ابن طبيب العرب الحارث بن كلدة الثقفي وأنه ابن خالة النبي ــ له ترجمة مطولة في كتاب ابن أبي أصيبعة عيون الأنباء في طبقات الأطباء الذي يقدمه ابن ابي أصيبعه باعتباره ابن خالة النبي، "وكان النضر قد سافر البلاد كأبيه، واجتمع مع الأفاضل والعلماء بمكة وغيرها، وعاشر الأحبار والكهنة، واشتغل وحصل من العلوم القديمة أشياء جليلة القدر، واطلع على علوم الفلسفة وأجزاء الحكمة، وتعلم من أبيه أيضا ما كان يعلمه من الطب وغيره... ) ــ عيون الأنباء ص ١٦٧ــ .

ولست هنا بصدد المفاضلة بين المرويات المتضادة حول نسبته للحارث بن كلدة الثقفي، وإن كنت أكثر ميلا إلى رفض ما زعمه ابن أبي أصيبعة من أبوة ابن كلدة للنضر، ولأسباب لا داعي للخوض فيها هنا، لكن ما يهمنا هنا ما وصفه به ابن ابي أصيبعة من توصيفات تجعل من النضر في بيئته ومجتمعه شخصية فوق العادية تماما، وهو ما دفع بقريش للاستعانة به لمواجهة الخطاب القرآني لمعرفتهم بمدى ثقافته وعلمه وتجاربه.

وأيا يكن نسبه فإن الحقيقة الدامغة أن شخصية النضر بن الحارث ساهمت إلى حد بعيد في صد قريش والعرب عن قبول الإسلام في بواكيره المكية، فقد قبل غالبية القرشيين مروياته وأقاصيصه "أساطير الأولين " أكثر مما قبلوا قصص القرآن المكي، وظل النضر على عدائه الشرس للاسلام حتى وقوعه أسيرا في غزوة بدر ليلقى هو وعقبة بن ابي معيط القتل صبرا وبحد سيف علي بن ابي طالب بعد أن استثناهما النبي من دفع الفدية أو شرط تعليم عشرة من المسلمين بديلا عنها.

ويذهب الرواة العرب لأبعد من هذا فيذكرون أن عددا من آيات القرآن الكريم نزلت في النضر نفسه، وحسب الطبري فان ثماني آيات نزلت في النضر، على نحو أسباب نزول آية ( ومن الناس من يشتري لهو الحديث ) ــ لقمان ــ الاية ٦ ــ وبحسب ابن إبن الكلبي في كتابه" مثالب العرب " فإن قريشا إنما كانت (تغني ويغنى لها بالنصب وهو نصب الاعراب ولا تعرف غيره، حتى قدم النضر بن الحارث وافدا على كسرى، فمر بالحيرة، فتعلم ضرب العود وغناء العباد، فعلم أهل مكة وفيه نزلت "ومن الناس من يشتري لهو الحديث.." ).

ولم تنتهي سيرة النضر عند قتله صبرا بل تعود سيرته للواجهة مرة أخرى حين قامت شقيقته قتيلة بنت الحارث برثائه بقصيدة قيل ــ حسب سيرة ابن هشام نقلا عن ابن اسحق ــ " إن النبي حين سمعها قال"لو بلغني هذا قبل قتله لمننت عليه ".

والسؤال الذي يمثل جوهر دراسة د. عبيد الله "ما هي أساطير الأولين التي كان النضر يتلوها من كتبه على أهالي مكة وزوارها؟ وما هو مقصود القرآن الكريم من جملة"أساطير الأولين " التي تكررت مرات عديدة في القرآن الكريم وقيل إنها جميعها نزلت في الرد على النضر وعلى أقاصيصه.

إن جملة" اساطير الاولين " في القران لا تعني مفهومنا الحديث للاسطورة واساطير بمفهومها الميثولوجي الاوسع وانما تعني اقاصيص وحكايات عن أمم سبقت واندثرت، ومنها بالطبع أقاصيص التوراة التي عرفتها قريش والعرب، بل لقد ذهب باحث مهم هو د. نجيب محمد البهبيتي في كتابه "المعلقة العربية الاولى او عند جذور التاريخ " للإدعاء بأن العرب عرفوا ملحمة جلجامش مترجمة من لغتها الفارسية او من النص الفارسي الذي ترجمه النضر بن الحارث نفسه، وهو أمر لم يسبق إليه أحد قبل البهبيتي للحديث فيه.

ومن المؤكد ان النبي عليه السلام واجه في مكة ثقافتين مهيمنتين هما ثقافة فارس عن طريق النضر بن الحارث، وسويد بن الصامت وصحيفة لقمان التي تمثل الثقافة السريانية الطاغية في تلك المرحلة قبل أن يؤسس القران لثقافة عربية جديدة مكتوبة "مسطورة".

يقول د. عبيد الله ( لم ترد في القران الكريم مفردة(أساطير) منفردة، أو مستقلة عن التركيب الاضافي، كما لم تستخدم بصيغة المفرد (أسطورة)، وهي وفق نمطية تركيبها الاضافي تحيل الى الماضي والى امورٍ بدأت في حقب أقدم من حقبة نزول القرآن ومبعث النبي .. ص ١٥ ).

من هنا تتضح لنا أن استخدام القران الكريم لمفردة أساطير إنما المقصود منها الصحف المكتوبة وما ورد في مطالع سورة ن ( ن والقلم وما يسطرون )، وبدليل قوله سبحانه ( قالوا اساطير الاولين فهي تملى عليه بكرة وأصيلا ) وهذا يتسق تماما مع الصياغات الوظيفية القرانية لمفردة أساطير ودلالاتها، وما ينسجم تماما مع مرويات الحركة المناهضة للقران التي تزعمها النضر بن الحارث .

وحين يصف القران الكريم الأقاصيص بـ"أساطير الأولين" فانما يكشف عن معرفتهم بتلك القصص والأخبار وهو ما يتكرر في جميع الآيات على نحو قوله تعالى ( وإذا قيل لهم ماذا أنزل ربكم قالوا أساطير الاولين ) اي كتابات السابقين، كتابات قديمة يعرفونها تماما بحكم التصاقهم بالمراكز الثقافية الكبرى على اطراف الجزيرة او من خلال جيرانهم اليهود الذين كان لهم تأثير كبير في ثقافة العرب المحيطين بهم في المدينة او من خلال التجارة والعلاقات السياسية والحضرية الأخرى.

ويظل معنى ودلالات الأساطير في القران تفيد معنى الاحاديث السابقة وهو ما أوضحه المنتج المعجمي العربي، إذ أن مفهوم "اسطورة "لديهم لا تختلف في معناها كثيرا عما نفهمه منها اليوم فهي الخرافات والأقاصيص التي لا أصل لها ولا منبت لها وهي ادعاءات بشرية من الأكاذيب المختلقة وهذا ما كان يعنيه القرشيون وما عناه القران.

كان القرطبي الوحيد من بين أغلبية المفسرين الذي تصدى مطولا في تفسيره لتجلية مفهوم  " الأساطير " وربطها بقصص الأولين وتحديدا أخبار وأقاصيص الفرس التي ترجمها للعربية ــ على الأرجح ــ النضر بن الحارث وكان يحدث بها في مجامع قريش خلفا للنبي وكان يسأل "بماذا محمد أحسن حديثا مني ؟ " على حد الرواية التأسيسية المرجعية الواردة في سيرة ابن هشام.

ــ إن حصاد ما قاله المعجميون والمفسرون العرب يحصر الأسطورة والأساطير في قوالب عدة هي:

1 ــ كلام مكتوب "مسطور".

2 ــ قصص لا أصل لها عن أقوام ماضين.

3 ــ خرافات وأكاذيب لا فائدة منها.

وهذا ما يتوجب تجليته في البحث والتقييم، وهو ما حاوله د. محمد عبيد الله، إلا أنه أبقى الباب مفتوحا على مصراعيه للمزيد من البحث والتنقيب لعلنا نظفر بشيء من تلك الأقاصيص والأساطير..

أضف تعليقك