
أطفال "العِتالة".. أوجاع الظهر تُرهقهم والقوانين تعجز عن حمايتهم

"التعب لا بد منه يعني، أمرات ظهره بوجعه أو رقبته، برمي حاله وبنام عشان يسري الصبح ع الشغل"، بهذه الكلمات تصف أم حسن لـ"عمان نت" عملَ ابنها خالد (17 عامًا) في تحميل وتنزيل الخردة شماليَّ المملكة منذ ساعات الفجر وحتى العصر؛ لينتقل إلى عمله الثاني في تحميل وتنزيل صناديق الطماطم من العصر وحتى أذان المغرب وأحيانًا يقضي اليوم بالكامل في واحدٍ من العملين ويذهبُ في اليوم التالي للآخر.
يتقاضى خالد وهو الثالث بترتيبِ الأخوة 15 دينارًا عن عملِ يومٍ كامل في الخردة ودينارًا وربع عن كلِ يوم عملٍ يقضيه في تحميل وتنزيل الصناديق في المزارع. بينما يعمل شقيقه محمود الذي يصغره بسنتين في تحميل وتنزيل الصناديق طوال الوقت في المزارع.
يحاول الشقيقان إعالة عائلتهما المكوّنة من 7 أفراد من ضمنهم والدهم العاطل عن العمل، وشقيقهم الأكبر المنتسب للأمن العام.
تُعزي أم حسن عملهم هذا إلى الظروف الاقتصاديّة الصعبة، والدخل المتدني وصعوبة الحصول على عملٍ لها أو لزوجها قائلًة "شو بدنا نسوي؟ الوضع صعب".
آلام مُستمرة
عام 2009 كان مؤمن شاهين يعمل في تحميل وتنزيل البضائع في محلٍ خاصٍ بخاله بإحدى مناطق عمان، ولم يتجاوز عمره -آنذاك - الحادية عشر، لكنَّ خاله أراد منهُ أن يتحمّل المسؤوليّة، ويصبح شخصًا يُعتمدُ عليه، وبدوره كان مؤمن يريد إبهار خاله بقدرته على العمل وحمل مُختلف البضائع.
في عمر الخامسة عشر انتقل مؤمن من العمل عند خاله للعمل في مجمّعٍ تجاريٍّ كبير. كان مطلوبًا منه نقل البضائع طوال 8 ساعات، مع إخفاء صاحب العمل للأطفال العاملين لديه في غرفةٍ أعلى المحل عن مفتشي العمل، وتهديد الأطفال بأنهم سيتركون العمل إذا عرف عنهم المفتشون.
ولأن شاهين بحاجةٍ ماسةٍ للبقاء عاملًا اضطر أحيانًا للتغيّب عن المدرسة أو الوقوف تحت المطر لساعاتٍ يحرس البضاعة أو ينتظر حتى يقوم بتنزيلها من الشاحنة أو نقلها من مكانٍ لآخر وترتيبها في المحل.
الآن وبعدَ 16 سنةً من عمله الأول واستقرارهِ بعملٍ ثابتٍ بعد إنهاء دراسته الجامعيّة، يشكو مؤمن لـ"عمان نت" من (ديسكٍ) في ظهره وآلامٍ حادةٍ قال إنها بدأت بفترةٍ مبكرةٍ من عُمره وتجاهلها إلى حين اشتد الألم عليه واضطرهُ لفحصها.
الحاجة الماسة
تحدث الطفل سليم (16 عامًا) مع "عمان نت" وهو يجرّ عربته أمامه في سوق الندى بوسط البلد في عمّان قائلًا " من وقت كورونا بطلت أدرس بنزل على السوق بشتغل وبطلّع مصاري".
يحصل سليم على 5 – 11 دينارًا يوميًا جراء نقل الخضار وتوصيل أحمال المتسوقين إلى منازلهم وفي بعض الأحيان التجول معهم لحين انتهائهم من التسوّق وحصوله على "إكراميّةٍ" من بعضهم ترفع من أجره. ويعمل طوال أيام الأسبوع دون الحصول على إجازة رغبةً منه في مساعدة عائلته المكوّنة من 5 أفراد لا يعمل منها غير والده. يقول "برجع ع البيت مكسّر، ظهري بوجعني وخاصة لما أنزّل أو أنقل الخضرة من الديانا".
ومثلهُ كانَ الطفل محمد (15 عامًا)، الذي يعمل في إحدى محافظات الوسط بنقل الماء وتوزيعه للناس بحسب الطلب. يوضح لـ "عمان نت" أنَّ "الشغل لا بد منه، مرات بروح ع المدرسة ومرات لا".
يرى محمد بأن من واجبه العمل لمساعدة عائلته ورفع دخلها في ظلّ الظروف الاقتصاديّة الصعبة وإجبار والده له للذهاب إلى السوق والبحث عن عمل مذ كان في الثالثة عشر من عمره.
الأطفال أحقّ من غيرهم بالعمل
يملك أبو عبد الله محطةً لتوزيع المياه منذ 8 سنواتٍ في إحدى محافظات الشمال، ويوظف بها 3 إخوةٍ أطفال للتحميل والتنزيل ونقل الماء والقوارير للعائلات، وتتراوح أعمارهم بين 11 – 15 عامًا. يقول لـ"عمان نت" إنَّ "أبوهم عاجز وعيلتهم 11 نفر، بّدّيتهم ع الناس الثانيين، كان في ناس كبار بدّيتهم عليهم".
يشير إلى أنَّ هؤلاء الأطفال أحقُّ بالعمل من غيرهم لإعالة عائلتهم؛ إذ يعمل معه طفلٌ قبل الظهر واثنان بعده، وثلاثتهم لا يذهبون للمدرسة ويعملون لمساعدة عائلتهم ونقل الماء بحسب قائمة الأسماء الموجودة في المحطة، في حين يدفع لهم أبو عبد الله مبلغ 8 دنانير عن كل يوم.
من جانبها تلفت خبيرة السلامة والصحة المهنيّة والبيئة المهندسة ريما الشوبكي إلى المخاطر الكبيرة جراء الوزن الذي يحمله العاملون في التحميل والتنزيل، موضحةً لـ"عمان نت" ضرورة عدم السماح للأطفال بالعمل بـ"العتالة"؛ لأن بنيتهم الجسديّة لم تكتمل، ولا يستطيعون حمل الأوزان التي من الممكن أن تسقط على أجسادهم وتعرّضهم لإصابات خفيفةٍ أو جسيمة.
وتقول إنَّ طريقة الحمل يمكن أن تؤثر على الطفل، سواءً كان يحمل الأوزان على ظهره أو بين ذراعيه أو على كتفه؛ إذ ستؤثر سلبًا عليه على المدى البعيد، ومن الممكن أن يصاب بالـ(ديسك) أو يصبح عنده إنحناء.
وتَذكُر الشوبكي إمكانيّة تعرّضهم لأمراضٍ مثل؛ قطع بالرباط الهلالي وثقلٍ على قدميّ الطفل قبل أن يكتمل نموه والتعب الجسدي الذي من الممكن أن يؤثر عليه، إضافةً إلى التقوّس الذي قد يؤثر على النمو السليم للعامود الفقريّ لهم.
وتنوّه إلى ضرورة تغليظ العقوبات على أي صاحب عمل يوظف أو يستخدم الأطفال للعمل، قائلةً "الطفل حقه اللعب والتعلّم والعناية الصحيّة والغذاء الصحي حتى يبني جسده ويكون جاهز بعمر الشباب لسوق العمل وليكون منتج بشكل أو بآخر".
عمل الطفل بين القوانين
يُعرّف عمل الأطفال، وفقًا للأمم المتحدة، بأنه أي نشاط يفرض عبئًا ثقيلًا على الطفل أو يُعرض حياته للخطر، مما يجعله انتهاكًا للقانون الدولي والتشريعات الوطنية، خصوصًا إذا أدى إلى حرمانه من التعليم أو إرهاقه بعبء مزدوج بين الدراسة والعمل.
كما تُصنَّف الأعمال التي تؤثر سلبًا على صحة الأطفال أو سلامتهم أو سلوكهم الأخلاقي ضمن أسوأ أشكال عمل الأطفال؛ بحسب اتفاقية منظمة العمل الدولية رقم 182.
أما المهن الخطرة، وفقًا لقانون الضمان الاجتماعي الأردني، فهي تلك التي تُعرّض صحة أو حياة العامل للخطر، حتى مع تطبيق معايير السلامة المهنية. وتُعتبر العتالة من أكثر هذه المهن شقاءً، نظرًا لاعتمادها على الجهد البدني في نقل وتحميل البضائع، وقد تم تصنيفها ضمن الأعمال الخطرة في الأردن بسبب تأثيرها السلبي على صحة العاملين.
وعلى الرغم من وجود قوانين أردنية تمنع تشغيل الأطفال، إلا أن العِتالة تشهد انتشارًا واسعًا لعمالة الأطفال؛ مما يؤدي إلى مشكلات صحية تؤثر على نموهم ومستقبلهم. ويُعد تشغيل الأطفال في هذه المهنة انتهاكًا لاتفاقيتي منظمة العمل الدولية رقم 138 و182، والمادتين 74 و75 من قانون العمل الأردني.
ورغم التزام الأردن بالاتفاقيات الدولية لحماية الأطفال من الاستغلال الاقتصادي، كشف المسح الوطني لعمل الأطفال لعام 2016 عن وجود نحو 76 ألف طفل عامل بين سن 5 و17 عامًا، منهم 70 ألفًا يعملون في أعمال محظورة قانونيًا، ونحو 45 ألفًا يعملون في بيئات خطرة، مما يعكس تحديًا كبيرًا في تطبيق القوانين وحماية الأطفال من الاستغلال في سوق العمل.
أسباب عمل الأطفال
يُرجع مدير مركز بيت العمال للدراسات حمادة أبو نجمة السبب الرئيسيَّ في عمل الأطفال إلى فقر الأُسرة؛ إذ أنَّ 80% من الأطفال الذين تم ضبطهم هم من أُسرٍ فقيرة، والأسباب الأُخرى مرتبطةٌ بطريقةٍ أو بأخرى بالفقر أو تقودُ إليه.
ويقول لـ"عمان نت" إنَّ ملاحقة أصحاب العمل لا تكفي، بل إنَّ حلَّ مشكلة عمل الأطفال يأتي من خلال حلِّ مُشكلة الفقرِ بحد ذاتها، مضيفًا "كثيرٌ من الأُسر أطفالها يعملون لأنَّ الدخلَ لا يكفي".
ويشير أبو نجمة إلى ضبط 500 حالةً سنويًا من حالات عمل الأطفال، إلا أنَّ عدد الأطفال العاملين يُقدّرُ بـ100 ألف طفل، أي يتم ضبط نصفٍ بالمئة - فقط - من الحالات، على حدِّ تعبيره.
ويرى أن حلول الفقر غير مرتبطةٍ بوزارة العمل وحدها وإنما بأكثر من مؤسسةٍ في الدولة مثل؛ التنمية الاجتماعيّة، والصناعة والتجارة، والتربيّة والتعليم التي تُعتبر منظومةً غير جاذبةٍ للطلاب؛ مما يؤدي إلى تركهم للدراسة واللجوء للعمل. شارحًا "هناك أطفال بدأوا العمل خلال كورونا واستمروا بذلك وتركوا الدراسة".
ظروف عمل الأطفال في العتالة
تنقل الصحفية المتخصصة بالعمل والعمال رزان المومني لـ"عمان نت" واقع الأطفال العاملين في العتالة، إذ يعملون في تحميل وتنزيل البضائع بالمحال التجارية والمستودعات، أو نقل الأثاث يدويًا، وأحيانًا في بيئات خطرة كالمخازن المرتفعة والمركبات غير المؤهلة.
يواجه هؤلاء الأطفال ظروفًا قاسية، إذ يعملون لساعات طويلة في برد الشتاء وحر الصيف، بأجور متدنية ودون معدات حماية، ما يعرضهم لإصابات تهدد نموهم ومستقبلهم. ورغم التزام الأردن بالاتفاقيات الدولية، فإن استمرار تشغيلهم يعكس ضعف إنفاذ القوانين؛ على حدِّ تعبيرها.
وتقترح المومني حلولًا تشمل دعم الأسر الفقيرة لتقليل حاجتها لإرسال أطفالها إلى العمل، وتحسين جودة التعليم لمنع التسرب، وإطلاق حملات توعية تستهدف الأسر وأصحاب العمل. كما تؤكد أهمية إجراء دراسات دقيقة حول أعداد الأطفال العاملين، وتعزيز دور النقابات في حمايتهم عبر توفير بدائل تدريبية والضغط لتطبيق القوانين.
ضعف تطبيق القانون
في حين يقول مسؤول الإعلام والاتصال في المرصد العمالي الأردني مراد كتكت لـ"عمان نت" إنَّ ضعف إنفاذ القانون يساعد أصحاب العمل على التهرّب منه؛ فليس من مصلحة أصحاب العمل تطبيق كل القوانين عليهم، موضحًا "المشكلة بضعف إنفاذها وهذا يعود لوزارة العمل ومؤسسة الضمان الاجتماعي، جولاتهم التفتيشيّة ما تزال قاصرة أو لا تشمل جميع محافظات ومناطق المملكة".
ويضيف أنَّ الجولات تتركز بالعاصمة عمّان أمَّا المحافظات أو مناطق الأطراف أو الأرياف فالجولات التفتيشيّة هناك ضعيفة وتكاد تكون معدومة، مشيرًا إلى أنَّ "القوانين بشكل رئيسي ممتازة ولكن المشكلة بتطبيقها وهو ما يؤدي للتحايل والانتهاكات".
غالب المهن التي يعملون بها خطرة
يؤكد الناطق باسم وزارة العمل محمد الزيود لـ"عمان نت" أنَّ غالبيّة المهن التي يعمل بها الأطفال هي مهن خطرة وبالتالي اي بيانات يتم نشرها في التقارير الصادرة عن الوزارة فيما يخص عمل الأطفال تعتبر للمهن الخطرة.
ويشرح أنَّ آليات رصد ومتابعة حالات الأطفال العاملين في بيئات العمل الخطرة أو القاسية تتم عبر التفتيش بشكلٍ دوريّ طوال العام على هذه البيئات. موضحًا "نقوم بحملات على هذه القطاعات بشكل ربعي".
فيما يتم اتخاذ الإجراءات القانونية بحق أصحاب العمل المخالفين وتحرير المخالفات التي يترتب عليها غرامات مالية وتتضاعف هذه المخالفات في حالة التكرار، على حدِّ قوله.
وفي مقالٍ كتبه الناطق السابق باسم المؤسسة العامة للضمان الاجتماعي موسى الصبيحي عن العتالة قال إن معيار اعتبار هذه المهنة خطرة؛ لأنها تتطلب قوة بدنية وقوة تحمّل وأن طبيعتها خطرة وغير منتظمة وتتطلب العمل في ظروف جوية مختلفة، كما تتضمن حمل الأوزان الثقيلة بأوضاع جسدية غير مريحة وغير صحية، وتزداد مخاطرها حسب طبيعة موقع العمل والظروف الجوية والحمولة.
و أظهرت التقديرات الصادرة عن "بيت العمال" إن 60 ألف طفل حاليًا يعملون في بيئات تصنَّف على أنها خطرة، ما يشكل تهديدًا لصحتهم وسلامتهم.
وتشير البيانات إلى أن 48% من الأطفال العاملين يتعرضون لعوامل ضارة مثل الغبار والدخان والمواد الكيميائية، بينما يعمل 45% لساعات تتجاوز الحد القانوني البالغ 36 ساعة أسبوعيًا، مما يؤدي إلى إرهاق شديد وإصابات متكررة. كما يعاني 19% من سوء المعاملة، بما في ذلك الإهانات اللفظية والصراخ وأحيانًا العنف الجسدي.