أحياء عراقية تنقل ثقافاتها إلى عمان
تتشابه العادات وتختلف الأمزجة، ذلك حال العراقيين في الأردن، ولكنهم يجتمعون مع بعضهم، وينسون ما يفرقهم على طبق مسكوف من السمك العراقي المطبوخ أو السمن وغيرها العديد من الأطعمة العراقية، جميعها صنعت بأيدي عراقية وفي مطعم عراقي وفي مكان يرتاده عراقيون على أرض عمانية.
وعمان عاصمة المرور بالنسبة للعراقيين المهاجرين إلى دول العالم، لا يتركون فيها سوى جولة بين مناطقها وإقامة مؤقتة بين الأحياء الفقير والغنية، زارها عراقيون إما لأيام أو شهور أو سنوات، تاركين وراءهم مطاعما ما كانت يوما تجد الاستقطاب كالذي يحدث حاليا.
اعتاد نبران، عراقي مقيم في جبل الجوفة منذ العام 2004، على زيارة مطعم “قاسم أبو الكص” في الرابية مرة واحدة في الأسبوع، فهو يعتبر المطعم بغداديا بامتياز. قبل أقل من عام كان نبران يرتاد “مطعم العزائم” العراقي الواقع في وسط البلد بالقرب من الفرع الرئيسي في البنك العربي، ولكنه، مع زيادة دخله، بدأ يرتاد مطاعم أعلى سعرا: “كنت أذهب إلى “العزائم”. الآن ارتاد “أبو الكص” و”الزاد” و”البلام”.
المطاعم التي ذكرها نبران تمثل قسما يسيرا من المطاعم العراقي العديدة التي تحتضنها عمان: “في السابق، وقبل سنتين، كان للمطعم العراقي حضور خجول، لم يكن يتعدى مطعما في وسط البلد وآخر في شارع الغاردنز وآخر في الرابية، أما الآن فالمطاعم العراقية ذات الصبغة البغدادية، أو تلك التي تقدم وجبات عراقية، تتجاوز العشرات.
نبران، 33 عاما، لا يشعر أنه ابتعد عن العراق كثيرا، ما دامت المطاعم موجودة واللهجة العراقية حاضرة أينما ولى وجهه، وما عليه، إذا ما أراد سماع لهجة أهل مدينته، سوى ارتياد مطعم “أبو الكص”، فجل زواره من البغداديين. لكن المطعم بدأ في الآونة الأخيرة يستقبل الأردنيين الذين سرعان ما اعتادوا عليه وأحبوا ما يعده من وجبات ما كانت آذان العمانيين تسمع عنها من قبل. أما الآن فالكثير من المطاعم الأردنية تعلن عن توفر المأكولات العراقية لديها، وبخاصة محلات بيع الشاورما التي تعلن عن توفر “الصمون”، وهو الخبز العراقي المميز لديها، في بادرة لاجتذاب مزيد من الزبائن العراقيين.
شنكول حسيب، رئيسة جمعية الإخاء الأردنية العراقية، ترى أن “المطاعم التي تمثل بلدانها تعتبر وجها حضاريا للبلد المضيف، وتدل على اختلاف الأمزجة والأذواق”. تقول حسيب إنها، قبل ست سنوات من مجيئها إلى عمان، تعرفت على الأردنيين من خلال وجباتهم الشعبية، وعند مجيء المطاعم العراقية شعرت أنها بدأت تتبادل “الانسجام” مع الأردنيين، في إشارة إلى أن المطاعم “خففت الإحساس بفقدان البلد والغربة، واستدعت ذكريات من هناك يملؤها الإحساس بالأمان”.
“إذا اختلف العراقيون فإن “المسكوف” يجمعهم.” هذا ما يقوله صاحب أحد المطاعم العراقية في شارع وصفي التل (الغاردنز) في إشارة إلى طبق السمك الذي يشوى فيه السمك النهري في المطاعم المصطفة على مدى كيلومترات من شارع أبو نواس على شاطيء دجلة في وسط بغداد. اليوم يمكن للعراقيين تناول هذه الوجبة العراقية بامتياز في مطعم عراقي وقد صنعته أيد عراقية، ولكن في عمان.
زيد القسوس، رئيس جمعية المطاعم السياحية الأردنية، يضع انتشار المطاعم العراقية في الأردن في إطار التواجد العراقي الكبير فيه، وهو يرى أن انتشار المطاعم العراقية في عمان جاء متأخرا “لأن هناك نصف مليون عراقي وكان لا بد أن تفتتح تلك المطاعم منذ مدة”.
ومن جهة ثانية فإنه يضع تواجدها في إطار التنوع الذي يميز البلدان السياحية، فهو يتمنى أن يكون إلى جانب المطعم العرقي حديث الولادة في الأردن، مطعم من فيتنام وآخر تايلندي وإسباني وايطالي وفرنسي وأرجنتيني وبرازيلي، “لنكن مثل البلدان السياحية، مثل دبي، فلا يوجد تنوع في مطاعمنا يشجع الناس أن تأتي إليه، ومثل هذه المطاعم تضفي تنوعا على المجتمع الأردني”.
عمان، بالنسبة للعراقيين، ليست مثل أي مدينة أخرى، فهي أشبه بممر إجباري للراغبين في الهجرة منهم إلى دول العالم، ثم يغادرونها بعد إقامة مؤقتة في أحياء فقيرة أو غنية، وقلما تجد عراقيا لم يزرها لأيام أو شهور، وهناك من أقام فيها سنوات.
يقسم نواف التل، مدير المركز الدراسات الإستراتجية، العراقيين المقيمين في عمان إلى مجموعتين: تضم الأولى الذين قدموا إلى الأردن بعد العام 1991، والذين قدموا بعد الحرب الأخيرة عام 2003. وهو يرى أن “الذين حضروا قبل 1991 اندمجوا بشكل سريع في المجتمع الأردني، وكانوا أساتذة جامعات وفنانين ورجال أعمال ومهنيين”، أما المجموعة الثانية فتضم العراقيين الذين أتوا بأعداد كبيرة بعد تفجير مرقد الإمام علي في سامراء عام 2006، وهؤلاء “لم يندمجوا تماما”.
العراقيون الذي جاءوا في الهجرتين إلى الأردن أقاموا أحياء كاملة لهم كثيرا ما تبدو وكأنها انتقلت من قلب بغداد إلى عمان، وكثيرا ما كانت المطاعم بروائح الوجبات العراقية التي تقدمها هي التي تشير إلى الهوية العراقية لسكان تلك الأحياء.
“كانت مجتمعات العراقيين تلك تبدو مغلقة، ولم يكن سكانها يختلطون بالأردنيين في البداية، لكنها بدأت تخرج من عزلتها. وبدأ يزداد احتكاك الأردنيين مع العراقيين في عمان، وخاصة مع فتح المدارس لأبناء العراقيين في البلاد، وكذلك مع ازدياد وتيرة الاختلاط بين المثقفين العراقيين المتواجدين في الأردن والمثقفين الأردنيين”، يقول التل.
رئيس رابطة الكتاب الأردنيين سعود قبيلات يرى أن التواجد العراقي على الساحة الأدبية الأردنية “خف” عما كان عليه في السنوات الماضية، وبرأيه “أن كثيرا منهم انتقلوا إلى بلدان عربية وأجنبية، لذا فإن وجودهم هنا كان مؤقتا.” ومع ذلك يقول قبيلات: “ما يزال هناك عدد غير قليل من المثقفين ولهم تأثيرهم، ولكن لا تتوفر لدى الرابطة معلومات عن أعداد المثقفين العراقيين الموجودين في عمان”.
ويرى رئيس رابطة الفنانين التشكيليين، غازي انعيم، أن التجربة التشكيلية العراقية “لها وقعها على الساحة التشكيلية الأردنية منذ مطلع التسعينيات، ولها تأثيرها النسبي وتحديدا في مجال الفن التجريدي”. وكما هي الحال بالنسبة لرابطة الكتاب، لا تملك رابطة الفنانين التشكيليين أرقاما حول أعداد الفنانين التشكيليين في الأردن. يقول: “هم الآن بضعة عشرات، والكثير منهم كانت تمثل له عمان محطة مرور إلى دول العالم”.
زهير أبو فارس، نقيب الأطباء، يرى أن للأطباء العراقيين تواجدا على الساحة الطبية بالأردن، ولا تتوافر للنقابة أرقام رسمية، لكنه يقول: “هناك 150 طبيبا يعملون في تخصصات مختلفة وضمن مستشفيات وزارة الصحة”. وتصل أعداد الأطباء المسجلين لدى النقابة إلى 400 طبيب، وهناك حوالي 1000 طبيب يعملون من دون ترخيص، على ما يقوله أبو فارس.
التل، يرى أن لا مكان للطائفية بالنسبة لعراقيي عمان، إذ إن خريطة العنف في العراق هي التي تحدد من يأتي إلى الأردن، وليس الخريطة الديموغرافية.
“العراقيون بدأوا يندمجون مع الأردنيين”، هذا ما تقوله شنكول، مضيفةً: “الأمر ليس مرتبطاً فقط بالمطاعم، رغم أنها أرضية جيدة للتقارب، بل نجده كذلك على مستوى البناية الواحدة التي يتزاور فيها الجيران يومياً”.
يقول نبران: “في السابق كان لدي شعور يلازمني دوما، وهو أن الأردني لا يرغب بي، وينظر إلي على أني آكل حصته من مستوى الخدمات والبنية التحتية، لكنني ألحظ، ومنذ سنة تقريبا، أنه يتقبلني ويتقبل وجودي، ولا يستهجن لهجتي المختلفة عنه، بل ويسعى لصداقتي”.
ويصل عدد العراقيين المتواجدين في المملكة –بحسب مؤسسة فافو النرويجية المكلفة بإحصاء أعداد العراقيين في الدول المضيفة- إلى 700 ألف عراقي، وذلك بعد أن أعلنت الحكومة الأردنية غير مرة أن أعدادهم وصلت ِإلى المليون ونصف عراقي.
إستمع الآن