أجمل الأيام بين دمع الأب وبُشريات الإبن

استذكر المشهد تماما وكأنه ماثل أمامي بكل تفاصيله، حشد كبير من الجمهور، وضبابية حزينة تهيمن على كامل التفاصيل في تلك الليلة التي جمعت كل هذه الرؤوس ليعلنوا خوفهم على العراق الذي كان في تلك الليلة قاب قوسين أو أدنى من الانقضاض الأمريكي عليه سنة 2003.

ليلتها وقف أمام الميكروفون د.هاني الخصاونه خطيبا من بين الخطباء مستشهدا بمقاطع من قصيدة ناظم حكمت:

أجمل الأيام

تلك التي لم نعشها بعد

أجمل البحار

تلك التي لم نبحر بها بعد 

أجمل الأطفال

هم الذين لم يولدوا بعد

أجمل الزهور

تلك التي لم تتفتح بعد

أجمل الكلمات

تلك التي لم أقلها بعد

أجمل القصائد

تلك التي لم أكتبها بعد 

وأجمل ما أريد أن أقوله لك

ما لم أقله بعد 

قرأ د. الخصاونه المقطع كاملا وقبل أن ينهيه تهدج صوته باكيا، ووسط السكون الذي ران على القاعة لحظتها شعرت وكأن الجميع يشارك د. الخصاونه بكاءه المبكر على العراق، ذاك الذي ضاع منا وأضعناه في زحمة الطريق إلى الفراغ..

كنت أغطي الحدث كالعادة وكان عليَّ أن أكتب ما رأيته وما سمعته، لكن الأهم أنني في تلك اللحظة بالذات تيقنت تماما أننا"سنبكي مُلكا مضاعا لم نحافظ عليه مثل الرجال"، ودفق لخاطري لحظتها ما قالته أم الخليفة ابو عبد الله الأحمر حين دخل عليها باكيا ضياع الاندلس ووقوعه أسيرا..

هنا تتزاحم الصورتان بين ضياع الدولة وبين الفراغ والفوضى، ولا أدري حتى الساعة ما الذي جعلني وفي تلك اللحظة بالذات أفكر في تلك الثنائية القاسية التي تختزل فيما تختزله مصير الدولة التائهة والضائعة، ومراثي المدن، وبكاء الرجال..

اليوم أستعيد تلك الصورة دفعا من الذاكرة واعتمادا على بعض قصاصات يوميات عصف بها  النسيان خلفة لأزاوج بين مشهد الأب "د. هاني الخصاونه"، وبين مشهد الإبن د. بشر الخصاونه الذي استعاد مرة اخرى وبعد نحو 18سنة على الاستعادة الأولى قصيدة ناظم حكمت، ودمعات أبيه، ومراثي المدن والعواصم.

قبيل ايام معدودات فائتة كان رئيس الوزراء د. بشر الخصاونة يردد"أجمل الايام تلك التي لم نعشها بعد"، لكنه هذه المرة وبخلاف أبيه لم يكن راثيا باكيا بقدر ما كان مبشرا بأجمل الايام التي سيجدها الأردنيون في طرقاتهم وهم يعبرون الى المستقبل الزاهي.

لم يصدقه أحد من الأردنيين، لكن المشكلة في الرئيس الخصاونه نفسه لأنه لم يخبر الأردنيين بخارطة المستقبل التي ستقودهم لأجمل الأيام، بل ذهبت حكومته وقبل أن تنطفيء جذوة بُشرياته "لاحظ دلالات الاسم والفعل" لتعلن عن رفع اسعار الوقود، والتبشير باربع رفعات قادمات، وتسريب معلومات مقصودة تبشر الأردنيين انفسهم بأن صفيحة البنزين ستصل الى ثلاثين دينار، فيما كانت فواتير الكهرباء تأكل آخر أرغفة الخبز في بيوت الأردنيين، ثم تسريب خطط بدت وكأنها ناجزة بفرض ضرائب على استخدام الطرق، فيما كانت الأسعار ترتفع والجيوب تجف، والناس تلهج بالدعاء على الحكومة وليس لها..

في هذه التفاصيل سيبقى الصوت الضائع يصدح في الفراغ "أجمل الأيام تلك التي لم نعشها بعد.."، وستبقى صورة لهفة الأب الباكية على العراق عالقة في ذهني، فيما صوت الإبن يتوه في برية الفراغ والفوضى، والشعب خلفه يردد مع نصر بن يسار الأموي : 

أرى تحت الرماد وميض جمر .. ويوشك أن يكون لها ضرام

لأن الشعب لم يعد يصدق بُشريات بِشر، ولم يعد في احتمال أحد انتظار "أجمل الأيام .."

أضف تعليقك