أبو الهرّاجين

الرابط المختصر

 

 الأصل في الأعمال الفنية أن تفرض نفسها وتسوق لمحتواها بمقدار ما تنطوي عليه من عناصر الابتكار سواءً في المضمون والقالب الذي تقدم فيه، وكلما كان العمل الفني هزيلاً كلما تطلب ذلك من القائمين عليه منتجين ومؤدين إدخال عناصر تجارية تسويقية حتى لو كانت منبتة الصلة بمضمونه أو مناهضة للقيم الإنسانية وحقوق الإنسان؛ باعتبارها –أي تلك العناصر- ضرورةً للتشويق والترويج والتهييج.

 في فترة الثمانينيات حينما اجتاحت موجة «أفلام المقاولات» السينما العربية أفرزت كماً هائلاً من الأعمال الدرامية التي كانت تفتقر للمضمون والشكل والصنعة السينمائية المتقنة؛ حتى أن بعض الأفلام كان يتم تصويرها ومنتجتها في أسبوع واحد.

 في تلك الفترة ، لجأ بعض المخرجين والمنتجين إلى حيلة تمكنهم من لفت الانتباه لأعمالهم التي كانت تصارع في خضم موجة «أفلام المقاولات» من خلال إحداث فرقعة إعلامية قد تكون بإقحام مشهد حميمي ساخن تحذفه الرقابة أو اشتمال الحوار على ألفاظ «خارجة» عن المألوف -في وقتها- أو التطرق في العمل لمسألة دينية جدلية مثل «عذاب القبر» أو ترويج أخبار قد تكون صحيحة أو مبالغ فيها عن خلافات بين الممثلين والمخرج أو المنتج أو افتعال مشاكل من أي نوع.. ومن أمثلة ذلك؛ البلبلة التي صاحبت تسويق فيلم «للحب قصة أخيرة» إنتاج 1986 ومن بطولة  يحيى الفخراني ومعالي زايد وإخراج رأفت الميهي،فقد  تضمن هذا الفيلم في نسخته الكاملة مشهداً حميمياً حذفته الرقابة وبالتأكيد كان المخرج وطاقم العمل بحكم خبرتهم على يقين أن هذا المشهد سوف يكون جدليا. في الاتجاه نفسه، يمكن الإشارة إلى  الخلافات التي صاحبت فيلم «إنقاذ ما يمكن إنقاذه» إنتاج 1985 إخراج سعيد مرزوق وبطولة محمود ياسين ومديحة كامل.. وأعمال أخرى كثيرة، هذه الشوشرة المفتعلة أو التي كانت تحدث فعلاً لكن يتم تضخيمها واستثمارها تجاريا؛ كانت عنصراً تشويقياً يسبق نزول الفيلم في دور العرض لاستثارة فضول الجمهور الذي سرعان ما يندفع للصطفاف أمام أبواب دور العرض لشراء التذاكر فيتضخم الإيراد وينعم المنتج بالربح الوفير.

 على الرغم من ذلك، لم تكن هذه الحركات التسويقية لتنقص من القيمة الفنية للعمل أو ترفع منها، فلعملان اللذان ذكرناهما آنفاً على سبيل المثال؛ من الأعمال الجيدة التي تستحق المشاهدة فعلا بغض النظر عمّا سبقها وواكبها من بروبغندا، إلا أن المؤسف هو وجود أعمال درامية كاملة تعتمد على ثيمة الفضائح والفجاجة والتنمر واستفزاز مشاعر المشاهدين أو شريحة واسعة منهم لضمان الترويج والبيع، وهذا هو الفارق بين مبدعين قد يضطروا في مرحلة ما إلى لفت الأنظار التي زاغت عن عمالقة الإبداع إلى رعاع الابتداع  وبين زعران الفن الذين ظنّوا أن ضحالة الموهبة وغياب الابتكار تعوضه الفهلوة والجعجعة والمسخرة.

 أبو الهرّاجين المعروف ب«عماد الفراجين» صاحب البرنامج البائس «وطن على وتر»، يمثل من وجهة نظري نموذجاً للحالة المزرية التي ألمت بالدراما المحلية والعربية، فقد عرفه الكثيرون من خلال ما أثير من جدل ونقاش حول بعض الجمل الحوارية التي كان يستخدمها خصوصاً في بدايات ظهوره والتي رأى فيها البعض «خروجاً على الآداب العامة»، الأمر الذي قد يتفق معه البعض ويختلف آخرون، غاية الأمر أن هذا الجدل في الفضاء الافتراضي دفع كثيرين لمتابعته ومشاهدة الحلقات التي تتضمن تلكم الألفاظ والتجعير المنفّر، والواقع أنني مثل غيري تابعت بعضها لأتفاجأ بمستوى محزن من الأداء والسيناريو والحوار، فمن وجهة نظري لم تكن مسألة الألفاظ هي المشكلة بل كانت الحل بالنسبة له ولمنتج العمل لحصد مشاهدات لعمل لا يستحق المشاهدة.

 أبو الهرّاجين يطل علينا في كل رمضان ليقتل كل أمل ولو كان سراباً بانصلاح حال الدراما العربية وليؤكد أن: اللا محتوى وعبثية السيناريو وضعف الإخراج والافتعال الأدائي الممجوج لمن جار الزمن على الجمهور فجعلهم «ممثلين»، مع كمشة تنمر واستخفاف بكرامة فئات من المجتمع مثل الأشخاص ذوي الإعاقة والمرأة.. جميعها بضاعة رائجة لها زبونها الذي يستعذب مذاقها الكريه ويستطيب رائحتها المنفّرة.

 تداول ناشطون مشاهد من إحدى حلقات أبو الهرّاجين التي بثّت مؤخراً يتسول فيها ضحكات الجمهور من خلال لقطات أقل ما توصف به أنها فارغة من كل محتوى وغير أخلاقية، إذ لم يجد هذا «البراشوت التمثيلي» سوى الإعاقة العصبية لتكون ثيمة السخرية والضحك، فأظهر عائلة لديها إعاقة عصبية ونطقية جاعلاً منها محور استهزائه وتسوله مشاهدات الجمهور وضحكاته، وسبق ذلك حلقة أخرى أظهر فيها «بجهل مُعَتَّق» شخصاً لديه إعاقة نفسية (اكتئاب) وجعل منه مادة للضحك الرخيص.

 لا أظن أن «\أبو الهرّاجين يعبأ كثيراً ببناء مخزون معرفي يتعلم منه أصول المهنة وأنواع الكوميديا، فأرجو أن يخبره من له به صلة أن ما يقوم به يصنف في أحسن أحواله وفقاً للأدبيات ذات الصلة بأنه «الكوميديا العدوانية – aggressive humor» التي كما يشير إليه اسمها لا يمكن تصنيفها بأنها فن وإنما بلطجة أدائية تعتمد على السخرية من السمات الجسدية أو النفسية أو الاجتماعية للآخرين، بينما بإمكانه –إن كان لديه الموهبة أصلاً- أن يؤدي أنواعاً من الكوميديا المعروفة والمقبولة التي قد تتناسب وقدراته الإبداعية المحدودة، مثل كوميديا الحركات الجسمانية والتعابير (Slapstick comedy) التي أداها شارلي شابلين، أو كوميديا «الفارْس - Farce comedy» التي تعتمد على التناقض الذي يتولد من سوء التواصل (miscommunication) بين الشخصيات في مواقف معينة والتي تجسدت مثلاً في فيلم «The hangover» من إنتاج 2009، وغيرها مما يمكن لأبو الهرّاجين مشاهدته ومحاولة التعلم منه.

 أما  إذا كان أبو الهرّاجين لا تتفتّق موهبته التهريجية إلا إذا سخر من سمات شخصية وحالات وظروف قهرية لأفراد معينين، فأمامه كوميديا إستنكار الذات «Self-deprecating humor» التي تقوم على سخرية الشخص من «نواقصه»، ويلجأ  إلى هذا النوع من الإضحاك بعض مؤدي الكوميديا الارتجالية «Standup comedy»، فهذا أقصى ما يمكنه القيام به، اللهمّ إلا إذا كان لا يرى في نفسه ما يراه في الآخرين من سمات وصفات تستدعي السخرية، وفيما يبدو أن  البون أكثر من شاسع بين قدرات أبو الهرّاجين التمثيلية وأنواع الكوميديا الأخرى التي تتطلب موهبة حقيقية وقدرات فنية متوسطة بحدها الأدنى، مثل: الكوميديا السوداء والكوميديا الرومنسية أو حتى كوميديا الموقف كما يؤديها الفنانون الحقيقيون.

 لا أعتقد أن الاعتذار سوف يمنع التكرار في هكذا حالات، وهو ما أثبتته التجربة العملية من خلال مجابهة أعمال مشابهة توصف زوراً أنها «فنية» اعتذر المسيئون القائمون عليها عن تنمرهم على الأشخاص ذوي الإعاقة أو المرأة أو على المختلفين في اللون أو العرق.. ثم سرعان ما عاودوا الكرّة لأنه -كما قلنا سابقاً- لا يجد هؤلاء البائسون سوى البلطجة الحوارية والتعبيرية وسيلةً لتعويض تفليسهم الإبداعي وإصرارهم على فرض أنفسهم على الجمهور دون توفر الحد الأدنى من المقومات.

 إن آفة الاستهانة بالآخر وتحقيره ووضع ذلك في قالب كوميدي ليست بالممارسة الجديدة في الدراما العربية بل هي قوام عدد كبير من الأعمال الكوميديّة والتراجيدية منذ انطلاق السينما العربية، ولن تنحسر هذه الممارسة إلا بتجذر ثقافة احترام حقوق الإنسان والتنوع التي لن تتحقق بدورها ما لم يتم تضمينها في المناهج المدرسية والأنشطة اللا منهجية في المدارس التي يجب أن يشرف عليها ويديرها ويعلّم فيها كادر مؤمن بهذه القيم، الأمر الذي يحتاج حقباً من الزمان ليتحقق، فلله أمر جيلنا وعلى الله حكايته.