كبرياء الجهلاء ولكمات الكلمات
“أبو العُرّيف”ليست مجرد كناية مجازية تستخدم للسخرية ممن يعتقد جازماً بأنه يعرف كل شيء ولا يخفى عليه من العلم خافية فحسب بل هي إحدى سمات الشخصية في المجتمعات التي نشأ أفرادها على حالة إنكار عدم المعرفة والأنفة من السؤال والتعالي ولو “على خازوق”، يقيناً منهم أنهم أحاطوا بكل شيء علما، كيف لا ونحن مجتمعات الفتوى والفتة في كل شيء من الفلسفة إلى التاريخ والسياسة فالدين، مروراً بالطب والفلك والتكنولوجيا، مع رشة علوم نووية وكمشة علوم عسكرية ودهنة علم نفس ثم مسحة من كشف المستور ومعرفة كل ما يدور.. ودستور يا سيادي دستور.
يعج أثير الكثير من الجلسات النقاشية أو الاجتماعات الروتينية، بمداخلات وجمل ناقصة وعبارات مبتورة متراقصة؛ تتداخل بعشوائية كأنها ألعاب نارية في يوم افتتاح مطعم شاورمة، وفي الزاوية من يجاهد ليدلي بدلوه؛ ليس لأن ممتلء بالأفكار -الشرّ برّا وبعيد)- وإنما لأنه يستشعر شيءً من الانتقاص إذا لم يشارك ولو بفرقعة بالون في مهرجان “الفتّ في المفتوت واللّت في الملتوت”، ولما لا والتفاصح حق مكفول للجميع ما دام هناك صهبجي وسميع، فترى أخانا يترقب مسافة مناسبة بين متحدث وآخر ليستدير ويدخل بينهما آخذاً مسرب النقاش الدائر، ليتهيأ ويشد طرف أكمام سترته ويعتدل في جلسته، حانياً جذعه إلى الأمام قليلا، مطلقاً ليديه العانان، رافعاً من نبرة صوته مستجمعاً العبارات التي رتّبها بينما كان ينتظر الدخول على الخط، فيتمطّى ويتنطّع ثم يوالي من حله بكلمات كاللكمات على رأس المعدة: “نعم. هذا أمر يعني.. لازم والله.. نشوف كيف.. لأنه طبعا لا يجوز أن.. أن.. يعني.. ضروريي نننّ.. وكمان لازم نركز على الرأي العام.. وهناك دور لكل فئات المجتمع.. وضروري التفكير في الفئة المستهدفة.. يجب أن نحاول أن حتى وإن كنا لن..”، فيهز الجميع رؤوسهم إما عجباً أو مجاملة، أو حمداً على من قدّر وابتلاه وشكراً على من تلطف فعافاه.
قصّ علي صديقي الشاعر والناقد أحمد محمود في الاسكندريا في منتصف التسعينيات؛ كيف أغراه شيطانه أن يتلاعب بوعي مجموعة من زملائه في المدرسة التي كان يعمل فيها على مضض، فبدأ باستعراض عضلاته الفكرية الحداثية متناولاً الرواية والنقد بعبارات عشوائية حشاها حتى النخاع بمصطلحات نخبوية مقعّرة، مراهناً نفسه أن لن يجرؤ أحدهم على إظهار عدم الفهم وطلب الشرح وتوضيح، لأنهم مسكونون -مثل غيرهم- ب “أبو العرّيف”، فأشعل سيجارة من نوع “كيلوباترا سوبر” رديءة المذاق والرائحة، ثم أخذ من كوب الشاي الذي طلبوه له؛ رشفةً متوسطة الطول تنبئ عن مزاج معدول، ثم نفث دخان الاستنشاقة الأولى من سجارته في وجه المتحلقين حوله مستهلاً حذلقته بالمطلع المسجل ماركة للمتحذلقين: “امممم.. أممم...”، ثم صمت قليلاً حتى لم يُسمَع من القوم سوى صوت أنفاسهم مترقبين الجواهر التي سوف تتسلسل من بين شفتيه، فأخذ يحاضر فيهم بنبرة الأستاذ الملم بما جهلوه، فباشرهم بحديث من نوع: “المشكلة في الرواية الحديثة تكمن في إشكالية الحداثة نفسها.. وعدم تماهي التوجهات الثقافية الراهنة مع نبض الشارع.. هذا طبعاً بالإضافة إلى الفجوة العميقة بين الأديب والمتلقي التي تلعب دوراً في تجسيم وتجسيد ظاهرة الاغتراب الإبداعي وتزيد من التمركز البؤري لأزمة الأنا التي تعصف بعدد من المبدعين وتعقّد بدورها حالة التنافر المستحكمة بين المضمون الخاضع لخيال المبدع وعالمه الخاص والذوق العام السائد الذي تحكمه عناصر ليست بالضرورة مرتهنةً لمحتوى الإنتاج الأدبي والإبداعي بوجه عام..”! بعد هذا “الهَرْي الفارغ” أخذ نفساً آخر من السيجارة ورشفةً أخرى أطول من سابقتها من كوب شايه وأرخى ظهره على الكرسي وابتسامة خفيفة خبيثة ترتسم على وجهه محتفياً بالصمت المهيب للمنبهرين؛ لولا أن كسره أحد زملائه اللزجين، فقذف في وجهه سؤال بنبرة ملؤها الهدوء المستفز: “ما تاخدنيش في دوكه، أنا مش فاهم ولا حاجة من اللي قلته.. اشرحلي الكلام المجعلص ده!”. تمنى صديقي لو تنشق الأرض فتبتلعه، وبدأ يحاول استجماع قواه وشنّ هجوم معاكس على السائل بعبارات أكثر تقعيراً لعله يرتدع لكن هيهات، فلم يجد أمامه سبيلاً إلا أن ينسلّ من بين الجلوس متعللاً بحاجته الملحة للذهاب إلى الحمام.
الخجل من إظهار عدم المعرفة ينسحب أثره على أبسط نشاطات الحياة اليومية، فتجده مثلاً يدفع بعض مرتادي المطاعم للإحجام عن الاستفسار عمّا تحتويه قائمة الطعام المكتوبة باللغة الإنجليزية أو باللغة العربية لكن بأسماء ومكونات أقرب ما تكون للغة الحُجُب والشعوذة،فإذا بالشخص المتحرج من السؤال يؤثر أن يطلب مثل صديقه الذي ربما استطاع فكّ شيء من طلاسم القائمة، غير عابء بما إذا كان سوف يستسيغ مذاقه أم لا، فتراه يهمس للنادل وهو يشير نحو صديقه: “هاتلي زيُّه”. أما إذا كان الشخص وحيداً أو من برفقته معه “في الهمّ شرقُ”، فقد كتب عليهم اختيار ما ينبئهم حسهم أنه طبق جيد، وعلى الله قصد السبيل، وقد يتورطون بطبق غير معروف رأسه من رجليه لكثرة ما فيه من لحوم بحرية نيئة تمط وتنزلق تحت الشوك والسكاكين وتكاد تقفز متشقلبةً في الهواء باحثةً عن كوب الماء لتغوص فيه سابحةً مسبحةً اعائدةً إلى الحياة بعد موتها، أو ربما يأتيهم طبق حساء صيني أو تيلاندي تسبح فيه كائنات لا يعلم أصلها إلا داروين طيّب الله ثراه.. وأياً ما كان نصيبهم فسوف يصيبهم متجرعينه مرددين مع الشاعر ابراهيم طوقان قوله: “مُرُّ الدواء بفيك حلوٌ”.
لم يغب عن خاطري إستاذ التاريخ الذي سألته وأنا في الصف الأول ثانوي عن أوليفر كرومويل الذي شُنِق بعد وفاته في القرن السابع عشر لأنه حوّل بريطانيا إلى جمهورية، فقال لي بهدوء واتزان: “لا أعرف بدقة، سوف أقرأ التفاصيل اليوم وأخبرك القصة كاملة غدا”، وقد كان فعلا ما قال، فأكبرته وتعلمت أن شر البلاء كبرياء الجهلاء، والكلمات في غير مكانها امتهان للذات وسياط ذهنية ولكمات.