“قمريّات” المسجد الأقصى التي حطَّمها الاحتلال.. بدأت منذ 4 آلاف سنة من اليمن وازدهرت في عهد المماليك

الرابط المختصر

شنّت قوات الاحتلال الإسرائيلي هجوماً عنيفاً وغير مسبوق على مئات المصلّين المعتكفين داخل مصلّيات المسجد الأقصى، وحطّمت- بعد صلاة فجر الجمعة 15 أبريل/نيسان 2022- بوابات المصلّى القبلي ونوافذه، وأطلقت قنابل الصوت والغاز والرصاص المطاطي على المرابطين بداخله؛ قبل أن تنجح بدخوله واعتقال الشبان الفلسطينيين، الذين اشتبكوا مع شرطة الاحتلال وحاولوا منعها من الدخول.

فماذا تعرف عن نوافذ المسجد الأقصى الـ56، المصنوعة من الزجاج المعجّق بالجَلالِ والجَمالِ، والشاهد على تاريخ الأقصى والقدس، وعلى التاريخ الإسلاميّ في هذه المدينة؟

على عكس ما يعتقد البعض، فإنّ المسجد الأقصى ليس هو قبّة الصخرة، فقبّة الصخرة هي المَعلَم الأبرز فقط في المسجد الأقصى.. بينما يحتوي المسجد على ما يقارب من الـ200 مَعلَم إسلامي آخر، موزّعة بين قِباب وأروقة ومحاريب ومنابر ومآذن وآبار، كما تمتلئ مدينة القدس عموماً بالكثير من المعالم الإسلامية.

قمريّات المسجد الأقصى.. وظيفتها ليست فقط جمالية

تُعرف نوافذ المسجد الأقصى، في كل مصلّياته، باسم "القمريّات"؛ وهي نوع من فنون العمارة الإسلامية، التي تحتاج شهوراً طويلة من التنفيذ والترميم. هذه القمريّات تتعرّض للتكسير بشكلٍ مستمرّ، على يد جنود الاحتلال الإسرائيلي الذين يستهدفونها بدقائق معدودة. 

وتعتبر صناعة القمريات من أبرز الفنون التشكيلية الإسلامية، التي بدأت من اليمن قبل 4 آلاف سنة، وبلغت أوج ازدهارها في عهد المماليك لتصبح علامةً بارزة في العمارة الإسلامية.

إحدى نوافذ الجامعُ القِبلي المُزخرفة / تصوير: معتز توفيق إغباريّة - وكبيديا

تُصنع القمريّة من مادة الجصّ (تشبه الجبس) التي تزخر بها البيئة اليمنية، بعد طحنها وخلطها بالماء، ثم تُصَبّ عجينة على لوحٍ خشبي بأبعادٍ معيّنة وفق مساحة القمريّة؛ قبل أن يُرسم الشكل المطلوب بآلة ‏الفرجار‏، وتُحفر الرسوم بالسكين لإظهار الزخارف، ثم تُترك القمريّة لمدة يومين حتى تجفّ وتُزاح عن اللوح الخشبي.. فتوضع على أرضية ناعمة، لتبدأ مرحلة تثبيت الزجاج الملوّن، الذي يُنظّف من بقايا الجصّ العالقة.

والقمرية عبارة عن نصف دائرة تعلو النوافذ في الواجهات الخارجية للمبنى؛ وإلى جانب وظيفتها الجمالية، لها وظيفة أخرى في إدخال مزيدٍ من الضوء والشمس إلى المبنى. ولا يعني ذلك أن القمريّة لا تدخل في التشكيلات الداخلية للمنزل، لكنها حينئذٍ تقتصر على وظيفتها الجمالية. 

صُمِّمت نوافذ المصلّى القبلي، الذي يبلغ سمك جداره نحو متر، لتكون من جهتين:

  • واحدة خارجية مُصمّمة بأشكالٍ هندسية من الجبس المعشّق بالزجاج الشفاف.
  • وواحدة داخلية مزخرفة بالزجاج الملوّن بصور النباتات وقشر السمك.

يقول الباحث في العمارة اليمنية إبراهيم القباطي إن القمريّة جزءٌ من التميّز الحضاري في البناء اليمَني وحضارات اليمن، مثل: سبأ في العام 275، وحِمْير في العام 525. 

وفي حديثٍ إلى "الجزيرة نت"، يُشير القباطي إلى أن القمرية سمة من سمات ثراء العمارة اليمنية؛ "وحسب الروايات التاريخية، فإن قصر غمدان احتوى على القمريّات في غرفه العليا، التي تُعرف الآن بالمفرج".

ويضيف: "بمرور الزمن تطورت القمرية بشكل أو بآخر، من حيث نوعية المواد المستخدمة في تشكيلها كالرخام أو الزجاج، بالإضافة إلى الشكل وهو ما يلاحظ بوضوح في المساجد الأثرية، والمنازل القديمة في صنعاء".

ويرى الباحث أن القمريّة كانت لها وظيفة أخرى، فهي- إلى جانب إدخال الضوء- لا تسمح لمن بالخارج برؤية داخل المنزل، وهو ما جعلها في كل منزل بسبب طبيعة المجتمع اليمني المحافظ.

قمريّات الأقصى وتاريخ من التحطيم والترميم

في العمارة الإسلامية، يُسمّى الزجاج المعشّق الذي تتسلّل منه خيوط الشمس وضوء القمر باسم "الشمسيّات" أو "القمريّات"؛ فالأولى هي النوافذ غير المستديرة، أما الثانية فهي النوافذ المستديرة التي تُعرف بها نوافذ المسجد الأقصى، وهي عبارة عن 56 قمريّة تُصنع على يد فنّيين فلسطينيين. 

كل متر مربّع من النوافذ يحتاج ما بين 4 و6 شهور لتنفيذه

كل متر مربّع من النوافذ يحتاج ما بين 4 و6 شهور لتنفيذه

كل متر مربّع من نوافذ المسجد الأقصى يستغرق بين 120 و140 ساعة وأكثر من العمل، أي أن النافذة الواحدة تحتاج بين 4 و6 شهور لينتهي تنفيذها؛ فيما لا يحتاج جنود الاحتلال لأكثر من دقيقةٍ واحدة، كي تحطّمها هراواتهم. 

في العام 1969، وعلى إثر الحريق الذي أشعله أحد المستوطنين في المسجد القِبلي، والذي التهمت نيرانه أكثر من ثلث المسجد- بما فيه مِنبر صلاح الدين- تحطّمت 48 نافذة. 

وفي مايو/أيار من العام الماضي 2021، فإن نحو 10 نوافذ لحقت بها أضرار خلال هجوم الاحتلال على ساحات المسجد، حين اعتلى جنود الاحتلال السطح وكسّروا النوافذ الخارجية والداخلية كي يتمكّنوا من رمي القنابل على المصلّين.

تجدر الإشارة إلى أن بعض القمريّات، التي كانت دُمّرت في أحداث العام الماضي، لم يتمّ استبدالها حتى الآن؛ ويمكن للداخل إلى حرم المسجد، أن يلاحظ أن بعض النوافذ لا تزال مغلّفة بأكياسٍ بلاستيكية. 

بعض القمريّات، التي دُمّرت العام الماضي، لم يتم استبدالها حتى اليوم

بعض القمريّات، التي دُمّرت العام الماضي، لم يتم استبدالها حتى اليوم

يقول بسّام الحلاق، مدير دائرة الإعمار في المسجد الأقصى، إن هذه الشبابيك تُصنع في ورشة الإعمار بيد فنيّين فلسطينيّين، ويؤكّد: "كلّه شغل يدوي، لا يدخل فيه أي شيء كهربائي. كلّ شباك يستغرق نحو 6 أشهر عمل".

وفي مقابلة مع "رويترز" من داخل مكتبه في ساحة المسجد الأقصى، شرح الحلاق طبيعة النوافذ في المسجد الأقصى المعروفة بالجبس المعشّق بالزجاج الملون. وفسّر سبب وجود شبّاكين: واحد خارجي، والثاني داخلي. وذلك من أجل السماح لأشعة الشمس بالانسياب إلى داخل المسجد، وفي الوقت نفسه حماية الشباك الداخلي المزخرف من العوامل الطبيعية.

كما أوضح أن 98% من نوافذ الأقصى جُدّدت على يد فنيين فلسطينيين مهرة، بعد حريق 1969 الذي أتى على أجزاء من المسجد في ذلك الوقت؛ مُشيراً إلى أن دائرة الأوقاف الإسلامية في القدس لديها الرسومات الأصلية لزخارف النوافذ.

وقال: "عندما نرمّم نافذة أو نعمل على نافذة بديلة، يجري تركيبها بحيث تكون صورة طبق الأصل من ناحية ألوان الزجاج أو شكل الزخارف. وهناك 16 شبّاكاً من الجصّ في رقبة القبّة من المنطقة العلوية، لم تتعرض لأيّ كسر".